ترجمات أجنبية

نيو ستيتسمان – أنشل بفيفر – “ليمبو” غريب يعيش فيه فلسطينيو القدس

نيو ستيتسمان –  أنشل بفيفر* –  15/5/2021

سرعان ما أصبحت منطقة باب العامود ساحة لمعركة ضارية بسبب الفكرة الحمقاء التي خطرت لرئيس الشرطة الجديد في بداية شهر رمضان بوضع سياج معدني حول الساحة المنخفضة المؤدية إلى البوابة. وليست هذه الساحة مجرد مكان التجمع الرئيسي لاحتساء القهوة وتدخين السجائر خلال ليالي رمضان الطويلة بمجرد انتهاء الصيام اليومي، ولكنها أيضًا طريق مركزي يؤدي إلى المسجد الأقصى؛ ثالث أقدس الأماكن في الإسلام. ولم يكن الشباب الفلسطينيون على وشك السماح للصهاينة بالتعدي على باب العامود.

القدس – لدى توماس فريدمان الكثير ليتحمل المسؤولية عنه. فقد أفسد عنصر الاستفادة من عنصر النبوءة والمشورة الحكيمة في صحيفة “نيويورك تايمز”، بسبب إفراطه في مقالاته في استخدام أفضل مصدر للمعرفة المحلية للصحفيين: سائق سيارة الأجرة. والآن، لم يعد بوسع أي كاتب محترف آخر أن يقتبس من سائقه خوفًا من التعرض للسخرية من زملائه. وهو شأن مؤسف حقاً، لأن سائقي سيارات الأجرة في القدس هم تلك المخلوقات النادرة التي لا يقتصر تميزها على عبورها المنتظم بين المدن الثلاث المنقسمةبشدة -القدس الصهيونية، والقدس الأرثوذكسية المتطرفة، والقدس الفلسطينية- وإنما التي تستطيع أيضًا أن تتحدث بحرية مع قاطني هذه المناطق الثلاث. ولن أحب، بطبيعة الحال، أن أرتكب خطيئة تكرار الكليشيه بالاقتباس من سائقي، وهو ما كان حسنَ طالع في الحقيقة، لأن الشخص الذي ساق بي إلى باب العامود يوم الاثنين وعد بأنه في نهاية الأسبوع، عندما ينتهي شهر رمضان المقدس، “سيعود الأطفال إلى المدرسة وسيعود الناس إلى العمل وسوف يهدأ العنف كله”. وبعد ست ساعات، أطلقت “حماس” من غزة سبعة صواريخ باتجاه القدس، والتي أعقبتها رشقة تلو الأخرى من الإطلاقات على بلدات في جنوب إسرائيل.

في المرة الأولى التي شممت فيها رائحة “الظربان” (1) -وهو سلاح للسيطرة على الحشود تستخدمه الشرطة الإسرائيلية- في مظاهرة في الضفة الغربية قبل عقد من الزمن، اعتقدت أنها كانت تقاطعًا بين روائح جثة بقرة متعفنة ومياه صرف صحي خام. إنها أسوأ رائحة نتنة يمكن أن يختبرها المرء على الإطلاق. وحتى لو كنت محظوظًا بما يكفي لتجنب التعرض مباشرة للتدفق الفاسد المنطلق من خراطيم المياه، فإنها سوف تُقحِم نفسها داخل أنفك وعقلك. ومن الغريب حقاً أن مكونات سائل مكافحة الشغب الإسرائيلي هذا هي مجرد خميرة وبروتين، مخمَّرين وممزوجين معًا في تركيبة سريّة. لكنّ الرائحة كريهة لدرجة أن أقسام الشرطة الأميركية، غير المعروفة بلطفها هي الأخرى، قررت بعد فحص المنتج عدم شرائه. وهذا الشهر، مع اندلاع الاحتجاجات في الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية، تم استخدامه بكميات هائلة تفوق أي منطق وحُكم حول باب العامود، بين الهجمات المتعددة والمتصاعدة لشرطة الفرسان الإسرائيلية. وقد اكتشفت أنه يصبح أسوأ أيضا عندما يمتزج برائحة روث الخيل.

سرعان ما أصبحت منطقة باب العامود ساحة لمعركة ضارية بسبب الفكرة الحمقاء التي خطرت لرئيس الشرطة الجديد في بداية شهر رمضان بوضع سياج معدني حول الساحة المنخفضة المؤدية إلى البوابة. وليست هذه الساحة مجرد مكان التجمع الرئيسي لاحتساء القهوة وتدخين السجائر خلال ليالي رمضان الطويلة بمجرد انتهاء الصيام اليومي، ولكنها أيضًا طريق مركزي يؤدي إلى المسجد الأقصى؛ ثالث أقدس الأماكن في الإسلام. ولم يكن الشباب الفلسطينيون على وشك السماح للصهاينة بالتعدي على باب العامود، وبحلول الوقت الذي أدركَت فيه الشرطة خطأها وأزالت السياج، كانت قد اندلعت جولة أخرى من العنف الإسرائيلي-الفلسطيني في الصراع المستمر على مدار قرن. وسرعان ما انتشر الغضب الأسبوع الماضي واتسعت رقعته مع إطلاق مئات الصواريخ الفلسطينية على مدن إسرائيلية، بما في ذلك تل أبيب. وفي المقابل، زاد سلاح الجو الإسرائيلي كثيراً على مجرد مضاهاتها في الضربات الجوية الانتقامية التي شنها على القطاع. وفي غضون ذلك، في الشوارع، كان الغوغاء من اليهود والعرب في حالة هياج.

كما أن باب العامود هو أيضًا المكان المناسب لشراء أفضل نوعين من الحمص في أي مكان في العالم. ثمة كشك العكرماوي الصغير، للأصوليين المتعصبين بشأن نقاء هذا الطبق، الذين يفضلون مزيجًا أكثر حلاوة ونعومة وغنىً بالطحينة؛ وفي الجوار مطعم العايد، الأكبر حجمًا، حيث يمكن الحصول على نسخة مبهّرة بمذاق أقوى قليلاً. ويفتح مطعم العايد أبوابه أيضًا على مدار 24 ساعة في اليوم، حيث يقدم الخدمة للعمال المياومين وهم في طريقهم إلى محطة الحافلات القريبة، والكُتاب الذين يعانون من الأرق. وخلال ساعات الصيام الطويلة، كانت مساحات الجلوس مغلقة، لكن كلا المحلَّين ظلا يعملان طوال فترة الاحتجاجات لتحضير الوجبات السريعة التي تُؤخذ من المطعم لتناولها في المنزل في المساء. وكانت الرائحة التي نشرتها عربات “الظربان” كريهة للغاية بحيث لا يمكن الجلوس وتناول الطعام في تلك البقعة على أي حال.

يعيش الفلسطينيون في القدس في “ليمبو” غريب. فعلى النقيض من المواطنين العرب في إسرائيل، لا يتمتع معظمهم بحقوق كاملة ولا يمكنهم التصويت في الانتخابات الوطنية. لكنهم يتمتعون، بصفتهم سكان القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل قبل 54 عامًا، وعلى عكس سكان الضفة الغربية وغزة أيضاً، بإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية الإسرائيلية والخدمات الاجتماعية والمحلية، بما في ذلك تلقي جرعة مزدوجة من لقاح “فايزر” المضاد لوباء “كوفيد” قبل أشهر. ومع ذلك، فإن توفر بعض هذه الخدمات يترك القليل مما هو مرغوب فيه. ونتيجة لذلك، تحتوي المحادثات اليومية أحيانًا على عنصر من التبرُّم الكوميدي من نوع “ماذا فعل الإسرائيليون لنا في أي وقت؟” وكان أحد مصادر التوتر في الأسابيع الأخيرة هو الإخلاء المخطط له لعائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح، كنتيجة لمعركة قانونية طويلة خاضها ضدهم المستوطنون اليهود المتدينون الذين استولوا بالفعل على عدد من المنازل. وقال لي أحد السكان الفلسطينيين: “بصراحة، هناك مزايا لوجود المستوطنين هنا. لقد عشت هنا طوال 36 عامًا، وأخيراً رأيت المدينة تجمع القمامة من هنا بانتظام”.

كان أحد المخاطر المهنية في تغطية الشؤون الإسرائيلية هو الاضطرار إلى إعادة كتابة نعي بنيامين نتنياهو السياسي مرة تلو المرة. عندما تتنبأ استطلاعات الرأي بفقدانه منصبه في كل انتخابات، يتم إعداد المقالات الرائعة مسبقًا، فقط ليتم رفعها عن المكتب عندما يتمكن بطريقة ما من النجاة والبقاء على قيد الحياة. وأنا أعرف مراسلَين أجنبيَّين على الأقل كانا يقيمان ذات مرة في القدس، وظلا يقومان بشكل روتيني بتحديث نعي “بيبي” على أمل أن يُنشر، حتى بعد فترة طويلة من مغادرة المكان. وفي الأسبوع الماضي، بدا أنّ ذلك بات أخيرًا على وشك الحدوث. بدا أن تحالفًا غير متوقع من أحزاب يمينية ووسطية ويسارية وعربية يوشك أن يشكل ائتلافا. ثم جاء هذا التصعيد الأخير في القدس وغزة، وأوقف هذه المحادثات -ربما إلى أجل غير مسمى. وما لم يكن هناك وقف لإطلاق النار قريباً، يُحتمل كثيراً أن يعيش نتنياهو ليخوض انتخابات أخرى. وسوف يعني ذلك 2.500 كلمة رائعة صغتها بعناية، والتي لن يقيض لها أبداً أن ترى ضوء النهار.

* أنشل بفيفر- مراسل صحفي للعديد من الصحف البريطانية والإسرائيلية، ومؤلف كتاب “بيبي: الحياة والأوقات المضطربة لبنيامين نتنياهو”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى