نواف الزرو: عن الجذور الايديولوجية والاستراتيجية الصهيونية لقرار احتلال غزة

نواف الزرو 9-8-2025: عن الجذور الايديولوجية والاستراتيجية الصهيونية لقرار احتلال غزة
على ايقاع الحرب الصهيونية الإبادية الاجرامية المتصلة على مدار الساعة ضد شعبنا في قطاع غزة وامتداد الى الضفة الغربية، وفي ظل هذا المناخ الحربجي الكثيف في المنطقة، وفي ضوء التصعيد الاحتلالي المركز والموجه والمرتبك على نحو خاص ضد غزة واهلها في اعقاب عبور “السابع من اكتوبر”، وفي ضوء قرار الحكمة الاسرائيلية امس باحتلال غزة بالكامل، نعود لنستحضر مكانة غزة في الوعي السياسي الاسرائيلي على مدى العقود الماضية، والجذور الفكرية والايديولوجية والاستراتيجية تجاه غزة، وفي هذا الوعي لا نقرأ عمليا سوى الهزيمة والخيبات والتمنيات بان تختفي غزة ويختفي اهلها عن وجه الارض، غير ان حسابات الحقل لا تأتي على قدر حسابات البيدر لديهم، فغزة باقية، واهلها باقون، والصراع هناك مستمر مفتوح على اوسع نطاق، فتارة حرب صغيرة، وطورا هدنة مؤقتة، وتارة غارات خاطفة، وطورا اغتيالات موضعية، وتارة أخرى حرب اسرائيلية موسعة على نمط “الرصاص المصبوب”، وطورا اجتياحات حدودية وآليات تخريب وتدمير، وصولا أخيرا الى اوسع وأقذر حرب إبادية يشنها الاحتلال على أهلنا في غزة في إطار حرب”السيوف الحديدية-أو القيامة”، والثابت في المشهد الاسرائيلي- الفلسطيني في غزة، ان حروب الاحتلال هناك، لا ولن تتوقف وفق مختلف المؤشرات، طالما هناك شعب وارادة ومطالب وطنية سياسية بالاستقلال والسيادة والدولة وحق العودة.
عجزت الآلة الحربية الاسرائيلية عن اخضاع غزة، على مدى سنوات احتلالها، كما عجزت عن هضمها استيطانيا، لذلك وقعت القيادات الاسرائيلية في حالة ارتباك جمدت الدماء في عروقهم، فجن جنونهم، ووصل الغضب لديهم الى ان يطالب ليبرمانهم العنصري مرة في وقت سابق ب”القاء قنبلة نووية على غزة للتخلص منها مرة واحدة والى الابد”، ولم يكن ليبرمان متفردا في مثل هذه الرغبة النازية، فكل قادة الكيان خططوا وبيتوا ونفذوا الحروب والمحارق، التي باءت جميعها بالفشل من جهة، وبتفوق الارادة الفلسطينية الصامدة المقاومة من جهة ثانية.
تمنوا ويتمنون اختفاء غزة والتخلص منها، فاعترف شارون وجنرالات الاحتلال بهذه الحقيقة الكبيرة الصارخة رغما عن انوفهم، فلولا الانتفاضة والضربات المؤلمة للمقاومة، ولولا نجاح اهل القطاع من اقصاه الى اقصاه بتحويل مشروع الاحتلال الى مشروع خاسر بالكامل، لما طأطأ شارون رأسه معترفا بصورة غير مباشرة بأن “مشروع الاستيطان فشل في غزة، وانه لا امل في ان يتحول اليهود الى غالبية في تلك المنطقة”، فزعم شارون في لقاء اجرته معه صحيفة يديعوت احرونوت العبرية:”ان غزة ليست واردة في اي خطة اسرائيلية ولم نخطط ابدا للبقاء فيها”.
وكانت وزيرة الخارجيّة الإسرائيليّة غولدا مائير قد صرحت في أعقاب احتلال “إسرائيل” للقطاع عام 1956، “إنّ قطاع غزّة جزء لا يتجزّأ من إسرائيل”، لذلك، لم تتوانَ “إسرائيل” خلال احتلالها القطاع عن ارتكاب مجازر بحقّ سكّانه، فقد ذبح جيشها مئات المدنيّين، وظنت أنّ هذه المجازر المروعة ستُرغم السّكان على الفِرار، كما حصل في مجزرة دير ياسين، إلّا أنّ مجموع الفارّين نحو الأردن وسوريا لم يتجاوز الألف، ممّا صدم بن غوريون حين زار القطاع للاحتفاء بـ”النّصر”، ليُفاجَأ بحسب كاتب سيرته ميخائيل بار زوهار3، بأنّ “الفلسطينيّين لم يفرّوا من الجيش الإسرائيلي مثلما فعلوا سنة 1948”.
ثم ادلى الجنرال موشيه ديان بتصريح عن غزة ايضا ملفتا للانتباه، فحينما قتل في 29 نيسان/ أبريل 1956مستعمر من كيبوتس “ناحل عوز” كان يطارد “متسلّلين” من غزة، وقف ديان-وكان رئيسا للاركان- في حينه والقى خطابا خطابا عن غزة قائلا: “بالأمس صباحاً قتل روعي ، فلنتوقف عن كيل الاتهامات للقتلة وهل ينبغي لنا أن نورد ادعاءات ضد كراهيتهم الشديدة لنا؟ ، إنهم يجلسون منذ ثماني سنوات في مخيمات اللاجئين بغزة، ونحن أمام أعينهم نحرث أراضيهم وقراهم التي عاشوا فيها، وعاش فيها آباؤهم ، لن نطالب العرب في غزة بدم روعي، بل نسأل أنفسنا كيف أغمضنا أعيننا عن النظر بوضوح في مصيرنا، وعن رؤية رسالة جيلنا بكل قساوتها؟، هل نسينا أن مجموعة الشباب هذه في ناحل عوز تحمل على أكتافها بوابات غزة الثقيلة، ومن وراء البوابات مئات آلاف العيون والأيادي التي تصلي لكي يحل بنا كل سوء ولكي يقطعونا إرباً.. هل نسينا ذلك؟، إننا نعلم أنه من أجل أن يخفت الأمل بإبادتنا علينا أن نكون مسلحين وعلى أهبة الاستعداد صباح مساء، إننا جيل الاستيطان، وبغير صلابة الفولاذ وقوة المدفع لن يكون بوسعنا أن نغرس شجرة وأن نبني بيتاً-“.
بينما تمنى اسحق رابين ان يستيقظ ذات صباح ليرى “غزة وقد ابتلعها البحر”، ” فقطاع غزة يشكل كابوسا ل”لإسرائيليين”، يصل الى حد انهم يقولون بالعبرية “ليخ لغزة” (أي اذهب الى غزة) عندما يريدون القول “اذهب الى الجحيم”. وفي هذا السياق كشف وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي الأسبق آفي ديختر في لقاء مطول مع صحيفة معاريف وكالات -الأحد 25 فبراير 2018 النقاب عن موقف يتعلق بالتعامل الإسرائيلي مع غزة، إبان “مرحلة الهجمات الانتحارية القاسية في التسعينيات”، ويقول: “كان رابين محبطا للغاية، في أحد الاجتماعات طرح سؤالا: ألا يمكن أن نلقي بقطاع غزة في البحر؟ ظننا حينها أنه يمازحنا، لكن يعقوب بيري رئيس الشاباك آنذاك أجابه بنفس الأسلوب: نحن نعمل على ذلك”. وبن غوريون الذي رفض غزو غزة خلال الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى أطلق كذلك فكرة “نقل الإشراف على قطاع غزة من مصر الى الأردن”، لكن هذه الخطة لم يكتب لها النجاح..!. ، ويقول الباحث الاسرائيلي عكيفا الدار “الوحيد الذي كان رفض التخلي عن القطاع هو رئيس الوزراء مناحيم بيغن (1977-1983) الذي لم يدرك أن مسألة اللاجئين ستتحول كابوسا ل”إسرائيل”، رافضا التخلي عن القطاع لمصر، بغية إقامة مستوطنات جديدة فيها”.
ترتبك القيادة العسكرية والسياسية الاسرائيلية اليوم كذلك، في كيفية التعاطي مع غزة، ففي الذاكرة والحسابات لديهم، ان الانتفاضة الفلسطينية الأولى اندلعت في كانون الاول/ديسمبر 1987 في مخيم جباليا للاجئين، وبعد شهر على اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول/سبتمبر ،2000 بدأ إطلاق الصواريخ من قطاع غزة باتجاه “إسرائيل”، ورئيس اركان جيش الاحتلال الاسبق الجنرال موشيه يعلون اعلن: “ان حربنا مع الفلسطينيين صعبة ومعقدة وليس فيها ضربة قاضية”، والجنرال”عيبال جلعادي” احد الآباء المؤسسين لـخطة “فك الارتباط” رئيس وحدة التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط في الاركان العسكرية الاسرائيلية، اعترف في لقاء صريح له مع صحيفة معاريف وبمنتهى الوضوح قائلا: “رغم كل القدرات الاسرائيلية والافضلية العسكرية على الفلسطينيين بكل المقاييس والقدرات الاقتصادية والسياسية والدولية، رغم كل ذلك لم نتمكن من اخضاع الفلسطينيين”، وكشف “جلعاد” النقاب عن “ان شارون كان اقترح الانسحاب من غزة عام 1988 – في اعقاب الانتفاضة الاولى – ثم عاد وطرح الفكرة نفسها عام 1992- في اعقاب تفاقم الوضع الاسرائيلي في كل المجالات – واخيرا رأى شارون – في اعقاب الانتفاضة الثانية/2000 – ان الوقت قد حان للانسحاب من غزة”، وكذلك مؤيدو”فك الارتباط” يعترفون بدورهم “ان للمقاومة الفلسطينية تأثير كبير على اتخاذ القرار بالانسحاب واخلاء المستوطنات بينما يقول معارضو الخطة: “ان خطة شارون هي استسلام للارهاب – الانتفاضة والمقاومة “، وفي الحالتين الدلالات واحدة، هي الهزيمة الاسرائئيلية في غزة.
الكاتب الاسرائيلي المعروف “عوزي بنزيمان” يكثف هذه المعطيات والاعترافات الاسرائيلية بفعل صمود ومقاومة اهل غزة في مقالة نشرتها صحيفة هآرتس تحت عنوان “نعتذر عن الهزيمة” قائلا: “ان الجولة الاخيرة في الصراع – المواجهات – كوت الوعي الفلسطيني بفكرة الانتصار، ودفعت الاسرائيليين الى ادراك قصور قوتهم ومحدوديتها، وبكلمات اخرى: “للانتفاضة الفلسطينية المسلحة تأثير حقيقي على قرار الانسحاب، وبينما يصر القادة الاسرائيليون على الادعاء بأن اسرائيل قد انتصرت على الفلسطينيين، الا ان الحقائق تشير الى عكس ذلك، فكل المساحيق لن تغطي ندوب الواقع: فحرب العصابات الفلسطينية دفعت اسرائيل الى جر ذيولها من كل قطاع غزة، والجيش الاسرائيلي العظيم وباقي الاذرع الامنية المتطورة، لم ينجحوا في تركيع الانتفاضة، وقد توصلت اسرائيل الى هذه النتيجة مؤخرا”.
وبناء على كل ذلك من مقدمات واستشهادات على ألسنتهم يمكننا ان نطل على سيناريوهات المستقبل في غزة، والتي تشير مختلف التقديرات والتحليلات الاسرائيلية ايضا الى صمود فلسطيني ملحمي وبطولي عز نظيره في هذا الزمن، ولذلك نؤكد ونوثق في الخلاصة: ستبقى غزة شوكة قوية في حلوقهم.. وسيبقى شعب غزة قويا صامدا.. وسيبقى جنرالات الاحتلال يتمنون اختفاء غزة، وان يستيقظوا ذات صباح ليس ليروا البحر وقد ابتلعها، أو ليروا الزحف الفلسطيني الجماهيري الجارف باتجاه فلسطين المحتلة منذ النكبة عام1948……!.