أقلام وأراء

نهاد أبو غوش: مؤتمر مناهضة الأبارتهايد

نهاد أبو غوش 11-12-2022م: مؤتمر مناهضة الأبارتهايد

ينعقد اليوم الأحد في رام الله المؤتمر الوطني الأول لمناهضة الفصل العنصري (الأبارتهايد) بتنظيم من دائرة استحدثت مؤخرا في منظمة التحرير الفلسطينية وتحمل الاسم عينه، وبالتعاون مع هيئات وطنية رسمية وأهلية متخصصة، وبمشاركة نخبة من القيادات السياسية والشخصيات الناشطة في العمل العام والحقوقيين والأكاديميين المحليين والدوليين.

ولا شك أن المؤتمر يكتسب أهميته من حقيقتين دامغتين ماثلتين بقوة: الأولى هي ما وصل إليه نظام الفصل العنصري الصهيوني في فلسطين على الأرض من تجسيد فعلي ومأسسة تطال كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعات والنظم فضلا عن الممارسات التي تحكم علاقة المحتلين الإسرائيليين بالفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، وحتى للفلسطينيين المقتلعين من وطنهم. والحقيقة الثانية هي ما أفرزته الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وما تحمله حكومة بن جفير- سموتريتش- نتنياهو من نُذُر التصعيد ومواصلة مخطط تصفية القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وفرض الحل النهائي القائم على الضم والتوسع وتهويد القدس بقوة الحديد والنار والمجازر اليومية المرتكبة، ثم إذعان الفلسطينيين وقبولهم بخيار الابارتهايد الذي يسلبهم جميع حقوقهم الوطنية ويحشرهم في اماكن سكناهم الحالية، وأقصى ما يمنح لهم من حقوق هو حق البقاء تحت طائلة التهديد بالطرد والترحيل.

ليس ثمة مَن هو أدرى ولا أصدق مِن الفلسطينيين الذين خبروا عنصرية دولة الاحتلال وفظاعة جرائمها التي شملت تشريدهم من بلادهم وقتّلت أبناءهم وبناتهم وحوّلت حياة من بقوا في أرضهم أو من اقتلعوا منها إلى عناء وشقاء ومكابدة دائمة. لكن العالم لا يصدق روايتنا وحدنا، أو ربما يتغافل ويحاول التهرب من تصديقها حتى لا يضعه ذلك أمام مسؤولياته. لا بل إن هذا العالم المنافق وعلى امتداد عقود النكبة وحتى الآن ما يزال يمتدح إسرائيل، ويدعمها سياسا وعسكريا واقتصاديا، ويفتح الأبواب أمامها للتمتع بالمعاملة التفضيلية بين الدول في مجالات التجارة والسياحة والتأشيرات، ويشيد بديمقراطيتها ويتغزل بأكذوبة واحة الديمقراطية الوحيدة في “غابة” الشرق الأوسط ( من سخريات القدر أن بن جفير صار يتغزل بهذه الواحة المزعومة ويرى أنها غطاء كاف لتمرير ما يريد).

لكن تجاهل الحقائق لم يعد ممكنا أمام جهود كثير من الحقوقيين الوطنيين والدوليين وحتى بعض المنظمات الحقوقية الإسرائيلية، ويقظة كثير من الضمائر التي باتت ترى في إسرائيل خطرا على مستقبل البشرية وليس على الفلسطينيين فقط، تماما مثلما كان عليه نظام الأبارتهايد العنصري البائد في جنوب افريقيا، وهؤلاء القلقون من خطر نظام الفصل والتمييز العنصري على البشرية يعرفون تمام المعرفة طبيعة العلاقات المشبوهة والتعاون العسكري بين نظامي بريتوريا وتل ابيب والتي وصلت إلى حد إجراء تجارب نووية مشتركة، كما يدركون التعاون الوثيق بين دولة الاحتلال ومختلف الطغم العسكرية وأنظمة الفساد والاستبداد على امتداد العالم، والدور الوظيفي الموكول لدولة إسرائيل في تنفيذ العمليات “القذرة” والمريبة وغير القانونية التي تحيلها لها الإدارة الأميركية التي تخشى أحيانا من القيود التي يفرضها القانون الأميركي على بعض العمليات.

لكل ما سبق باتت عديد المنظمات الحقوقية في العالم وبحكم ما تراكم لديها من أدلة وبيّنات، وبفضل النضال الشجاع لآلاف المناضلين والمؤسسات الحقوقية الفلسطينية، على قناعة راسخة بأن دولة إسرائيل ماضية في تكريس وتثبيت نظام التمييز والفصل العنصري (الأبارتهايد) كصيغة دائمة للعلاقة مع الفلسطينيين وليس كتدابير مؤقتة فرضتها ظروف الحرب والصراع والاعتبارات الأمنية، وهكذا توالت تقارير منظمة العفو الدولية (أمنستي انترناشيونال) ومنظمة هيومان رايتس ووتش ومركزها في الولايات المتحدة، ومنظمة بيتسيليم الإسرائيلية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وقبل هذه وتلك منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية بما فيها تلك العاملة في المناطق المحتلة عام 1948، وكلها خلصت إلى أن إسرائيل رسخت بشكل منهجي وثابت ومقصود نظاما للفصل العنصري تهيمن فيه فئة من الناس (اليهود) على فئة أخرى في كل مجالات الحياة. هذا النظام الذي يعتبر جريمة حرب في حد ذاته ينطبق على الفلسطينيين اينما كانوا سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 اي في الضفة بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، أو المناطق المحتلة عام 1948، وكذلك على الفلسطينيين في الشتات المحرومين من العودة إلى وطنهم والتمتع بجنسية بلدهم.

لم يعد الحديث عن الابارتهايد والتمييز العنصري مجرد تهمة أو شتيمة يكيلها احدهم في خطاب حماسي أو بيان إنشائي، بل هي نتيجة يخلص إليها من يطبق أدوات القياس المعيارية المعتمدة دوليا على ممارسات إسرائيل، بفحص قوانينها الأساسية (الدستورية) وقوانينها العادية وتشريعاتها، وتتبع سياساتها وإجراءاتها، ومراقبة إعلامها وخطابات مسؤوليها، والدعايات الانتخابية وبرامج أحزابها، ومعرفة كيفية صرف موازناتها وتخصيص مواردها، ودراسة كيفية معاملتها لغير اليهود سواء ممن فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية، أو من وقعوا تحت الاحتلال.

سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن اتخذت قرارا في العام 1975 حمل الرقم 3397 واعتبرت فيه الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، لكن اختلال موازين القوى بعد ذلك بسبب انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج ثم بدء مسيرة مدريد وما رافقها من أوهام دفعت الأمم المتحدة إلى إلغاء قرارها والتراجع عنه. وكان من الممكن في وقت مبكر الاستنتاج ان الصهيونية هي حركة عنصرية استنادا إلى مضمونها الأيديولوجي القائم على فرادة وتميز “الشعب” اليهودي عن باقي شعوب الأرض، ثم من الممارسات والمجازر الوحشية التي رافقت إنشاء دولة إسرائيل وخلال الحروب والاعتداءات اللاحقة، ولكن استمرار صمت العالم وتغاضيه عن جرائم الاحتلال شجع المحتلين على الإمعان في السياسات العنصرية والعدوانية وصولا إلى التجسيد الرسمي لدولة الأبارتهايد.

من الجيد الإشارة إلى أن المؤتمر المنعقد اليوم هو “الأول”، بمعنى أنه ليس مهرجانا خطابيا عابرا، بل محطة انطلاق سوف تسفر عن نتائج وتوصيات، وهذه بدورها ينبغي أن تتحول إلى خطط عمل تعكس نفسها على أداء السلطة والمؤسسات القيادية وعلى النضال اليومي وبرامج مختلف القوى السياسية الفلسطينية، لا أن تتحول النتائج إلى ملف يضاف للملفات المكدسة عن مؤتمرات سابقة بشأن الاستيطان والقدس واللاجئين والمقاطعة والأسرى والجاليات وغيرها من الملفات.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى