أقلام وأراء

نهاد أبو غوش: الحضور الفلسطيني في مونديال قطر

نهاد أبو غوش 18-12-2022م: الحضور الفلسطيني في مونديال قطر

كان الحضور الفلسطيني في مونديال قطر لافتا ومميزا، سواء بالأعلام والرايات والرموز والشعارات الأخرى وأبرزها “الحرية لفلسطين” التي انتشرت حول الملعب ومع الجماهير في المدرجات، أو من خلال قيام بعض لاعبي الفرق العربية وأبرزها فريق المغرب الشقيق “أسود الأطلس” بحمل علم فلسطين أثناء التقاط الصور التذكارية، خصوصا حمل الراية والطواف بها بعد تحقيق الانتصارات المبهرة. ولكون الأمر ظاهرة حاضرة بقوة وليست مجرد حركات فردية هنا وهناك، فقد انتقل الأمر إلى كثير من مشجعي الفرق الأخرى ومنها البرازيل وانجلترا والأرجنتين، وحتى رئيسة كرواتيا السابقة كوليندا كيتاروفيتش والتي لا يمكن التشكيك بمعرفتها باللغة الانجليزية صُوّرت وهي ترفع علما وشعارا يدعو لحرية فلسطين.

ليس من الصعب معرفة السبب، فهذا الجمهور القادم من مختلف أصقاع العالم والذي يُعدّ بمئات الآلاف، له قضاياه الخاصة التي يهتم بها سواء السياسية أو الاجتماعية، وكان يمكن لهذه القضايا الإشكالية مثل قضية أوكرانيا أو حقوق الإنسان في بلد ما، أن تفرض نفسها على المشهد العام. لكن القضية التي حضرت بقوة ومن دون مقارنة مع القضايا الأخرى كانت قضية فلسطين بما تحمله من دلالات تاريخية وسياسية، والمظلومية المستمرة ومطلب العدالة هي الأكثر حضورا بين كل قضايا الشعوب والجماعات التي حضرت هذا العرس العالمي الكبير. وقد شهدت وسائل الإعلام العبرية ومراسلوها ومنصاتها المختلفة على هذا الحضور المميز فأفردت تقارير واسعة لهذه الظاهرة التي فُهم منها فشل عملية التطبيع مع الشعوب العربية، كما كانت هذه الظاهرة موضوعا لمقالات وتحليلات كثيرة في الصحف العالمية. ولا شك أن تنظيم هذه البطولة الرياضية الدولية المميزة للمرة الأولى على أرض عربية، وبالتالي حضور جماهير عربية من مختلف الجنسيات كان لها الدور الأبرز في حضور فلسطين رموزا وقضية. ولعل من أبرز خلفيات هذا الحضور الفلسطيني اللافت تسامح الدولة المضيفة وتساهلها مع رفع الأعلام الفلسطينية، في حين تفيد تقارير صحفية عن منع رفع أعلام ورموز أخرى مثل علم دولة الاحتلال وشعارات غير مرحب بها في البيئة القطرية.

وينبغي كذلك الإقرار بجهود مئات المتطوعين من أبناء الجالية والهيئات الفلسطينية والجاليات العربية، ولجان دعم فلسطين ومناهضة التطبيع الذين أعدوا عُدّتهم جيدا لهذه المناسبة العالمية، فوزعوا آلاف الأعلام والرايات والشعارات الفلسطينية، فكانت استجابة الجماهير وحتى اللاعبين طبيعية وتلقائية وإيجابية، وذلك ما أكسب المونديال بحق صفة كونه مونديال فلسطين. لكن النقطة المركزية في كل هذا الموضوع يجب أن نعزوها لسببها الجوهري وهو مكانة قضية فلسطين في الوجدان العربي والإنساني، وصورة فلسطين لدى الآخرين، وكيف يقدم الفلسطينيون أنفسهم للعالم. ولا شك أن الصورة أمام الآخرين ليست ثابتة، بل هي تنطوي على عناصر راسخة وأخرى متغيرة، فعلى سبيل المثال مكانة هذه الأرض وقدسيتها وتاريخها هي عناصر راسخة في وعي مئات ملايين البشر، لكن صور السياسة والنضال الفلسطيني متغيرة، كما أن نموذج الأداء الفلسطيني العام وانعكاساته الإعلامية متغيرة ومتقلبة وأحيانا تكون منفرة.

شتّان بين صورة قوى فلسطينية متناحرة وتتقاتل على السلطة والنفوذ، أو صور مظاهر القمع والاعتقالات السياسية التي شهدناها خلال سنوات الانقسام البغيض، وبين صورة الفلسطيني الفدائي، وهذا الجيل الصاعد الذي يقدم كل يوم نماذج مبهرة في البطولة والفداء حتى بات لدينا خلال العام الحالي وحده عشرات الأيقونات الكفاحية والإنسانية التي نتغنى بها من الشهيدة شيرين أبو عاقلة إلى جميل العموري، ووديع الحَوَح، وتامر الكيلاني، وعُديّ التميمي وإبراهيم النابلسي وضياء حمارشة والقائمة تطول وتطول إلى درجة يصعب حصرها، ومن أمهات الشهداء اللواتي يُعلّمْن أمة بأسرها معاني الصبر والصمود، إلى الآباء الذين يضخون في شرايين شعوبنا قيم الكرامة والإباء. ولا تقتصر الصور الفلسطينية الجميلة على ميادين النضال السياسي والشهداء، فلدينا كثير من المبدعين المتميزين والمبدعات المتميزات في مختلف ميادين الثقافة والأدب والفن والفكر والعلوم الطبيعية والمهن التطبيقية وشتى ميادين العطاء الإنساني، يكفي ان تشاهد أغنية لفناناتنا الصاعدات وفنانينا الشبان، وترصد ردود وتعليقات المشاهدين عليها لتكتشف مدى الحب والإعجاب الذي يكنه اشقاؤنا العرب لفلسطين وشعبها وقضيتها.

كشف مونديال قطر إذن عن حقائق بالغة الأهمية، كل حملات التطبيع ودعوات الانسلاخ عن القضية الفلسطينية بمزاعم أن الفلسطينيين هم أول من طبعوا وفرية أنهم باعوا اراضيهم للصهاينة، وأنه آن للعرب أن يستريحوا من عناء الحروب ويعقدوا السلام والصلح مع إسرائيل وأن يقبلوها في وسطهم ككيان طبيعي مسالم حتى من دون حل القضية الفلسطينية، كل هذه المزاعم تكشّف زيفها وبطلانها، وأن القضية الفلسطينية ما زالت حاضرة وراسخة في وجدان مئات الملايين من العرب والمسلمين والمسيحيين ولدى كل أنصار العدل والحرية في العالم. وهذه ليست المرة الأولى التي تعود فيها القضية الفلسطينية لتتقد وتتوهج بعد أن يتهيأ للعالم أنها خبت وتراجعت، فقد حصل ذلك في المحطات النضالية الكبرى بما فيها انتفاضة الحجارة وانتفاضة القدس والأقصى، وها هي تستعيد مكانتها من جديد.

من المهم جدا أن ندرك أن صورتنا كفلسطينيين أمام العالم وحتى أمام اشقائنا العرب، منوطة بنا بالدرجة الأولى وليس بهم فقط، فكلما كنا أكثر إخلاصا لقضيتنا وأكثر حرصا على صورتنا كلما انعكس ذلك على تبني العالم لقضيتنا ودعمهم لنا، هذا يلقي علينا مسؤوليات جسيمة في مكافحة كل مظاهر الفساد والاستبداد والتفريط والأجندات الفئوية أينما وجدت، والأهم أن نعمل بشكل منهجي ومخطط على تحويل مشاعر الدعم المعنوي والتعاطف والتضامن إلى أفعال ملموسة على الأرض، من قبيل إحياء لجان التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتعزيز جهود وروابط ولجان مقاومة التطبيع، وتطوير أشكال الدبلوماسية الشعبية من قبل هيئاتنا الأهلية وفصائلنا واتحاداتنا الشعبية وجالياتنا.

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى