شوؤن عربية

الانتخابات اللبنانية ٢٠١٨م : مشاهد وتطورات

الانتخابات النيابية بلبنان قد تعيد تشكيل الغالبية البرلمانية
ميدل ايست اَي ٢-٥-٢٠١٨م
يختار اللبنانيون الأحد ممثليهم في البرلمان للمرة الأولى منذ نحو عشر سنوات شهدت على انقسامات سياسية حادة ناتجة عن تداعيات النزاعات في المنطقة والصراعات الإقليمية على النفوذ، وفي ظل توافق سياسي هش في البلد الصغير المتعدد الطوائف.
ورغم أن الانتخابات ستجري وفق قانون جديد يقوم على النظام النسبي، يتوقع أن تبقي على القوى السياسية التقليدية تحت قبة البرلمان مع تغيير على الأرجح في ميزان القوى لصالح حزب الله وحلفائه للمرة الأولى منذ 2005، تاريخ خروج الجيش السوري من لبنان.
وبعد انقطاع طويل، بات موضوع الانتخابات الشغل الشاغل للبنانيين وإن كانوا لا يعولون على تغييرات كبيرة تتيح معالجة القضايا الكبرى في البلد ذي الموارد المحدودة، والبنى التحتية المهترئة والفساد المستشري في مؤسساته.
ويقول مدير مكتب الإحصاء والتوثيق كمال فغالي “حزب الله وحلفاؤه سيكونون المستفيدين الأوائل”.
وبعدما كان بإمكان الناخبين، وفق القانون الأكثري السابق، اختيار مرشحين من لوائح عدة أو منفردين، بات الأمر يقتصر اليوم على لوائح مغلقة محددة مسبقاً.
وتظهر اللوائح الراهنة زوال التحالفات التقليدية التي طبعت الساحة السياسية منذ العام 2005، لجهة انقسام القوى بين فريقي 8 آذار الذي يعد حزب الله المدعوم من إيران أبرز أركانه، و14 آذار بقيادة رئيس تيار المستقبل ورئيس الحكومة الحالية سعد الحريري.
ويبدو حزب الله القوة الوحيدة التي لم تتحالف مع أي من خصومها على امتداد لبنان، فيما تحالفت بقية القوى الرئيسية في ما بينها وفق مصالحها في بعض الدوائر وتخاصمت في أخرى.
“كتلة وازنة”
ويقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت هلال خشان “في البداية سيحصد حزب الله وحلفاؤه غالبية المقاعد في البرلمان”، في إشارة إلى رئيس المجلس النيابي نبيه بري والرئيس اللبناني ميشال عون.
وسيأتي ذلك، وفق قوله، “مقابل تراجع لتيار المستقبل يعود بشكل أساسي إلى كون الحريري ارتكب أخطاء سياسية كثيرة خصوصا بتقديمه تنازلات من دون مقابل”.
وكان تيار المستقبل وحلفاؤه حازوا خلال انتخابات 2005 و2009 الغالبية النيابية.
وخلال مقابلة مع وكالة الأنباء الإيرانية “ارنا”، قال نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم “أستطيع القول بان كتلتنا نحن وحركة أمل والحلفاء ستكون وازنة وفيها سعة تمثيل ووضعنا سيكون أفضل في البرلمان القادم”.
ويرى خشان أن “حزب الله سيبقى القوة الممسكة بالقرار الحكومي، ولن يسمح بطرح موضوع سلاحه”.
وخلال السنوات الماضية، شهد لبنان أزمات سياسية وأمنية متلاحقة، ما أعطى حجة للمجلس النيابي للتمديد لنفسه ثلاث مرات. وشهدت البلاد شللا مؤسساتيا انعكس فراغا في منصب رئاسة الجمهورية نحو عامين ونصف، قبل التوصل إلى تسوية في العام 2016 أتت بميشال عون رئيساً للبلاد وبالحريري رئيساً للحكومة.
وانعكس الصراع الإقليمي بين إيران والسعودية على البلد الهش. وبدا ذلك واضحا في استقالة الحريري المفاجئة من الرياض في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 في خطوة يُعتقد أنها أتت بضغط من الرياض التي تأخذ عليه تنازله لحزب الله.
وتراجع الحريري عن الاستقالة بعد أسبوعين أمضاهما وسط ظروف غامضة في الرياض.
“منعيد ومنعيد”
ويتنافس 597 مرشحا بينهم 86 امرأة، موزعين على 77 لائحة للفوز بـ128 مقعدا. ويبلغ عدد اللبنانيين الذين يحق لهم الاقتراع 3.7 مليون شخص، خمسهم من الشباب الذين كانوا لم يبلغوا سن الاقتراع في العام 2009.
وتضيق الشوارع في المناطق كافة بصور المرشحين ولوحات إعلانية ضخمة. وخصصت وسائل الإعلام برامج خاصة للانتخابات، وتستضيف المرشحين مقابل مبالغ مالية ضخمة. لكن كثيرين يعبرون عن لامبالاة تامة بالاستحقاق.
وتقول جومانا (51 عاماً)، سكرتيرة في عيادة طبية في بيروت، “ما المثير في الاهتمام؟ الأسماء هي ذاتها، والوجوه ذاتها وحتى النكات ذاتها”.
وتضيف “يدرس ابني وابنتي في أوروبا، هذا ما يحدد لهم مستقبلهم وليس الدولة اللبنانية”.
ولعل أكبر مؤشر على عدم مراهنة شريحة واسعة من اللبنانيين على نتائج الانتخابات، النجاح الكبير الذي يشهده فيديو أغنية للشقيقتين ميشال ونويل كسرواني على مواقع التواصل الاجتماعي بعد نشره الأسبوع الماضي. وتسخر الشابتان في الأغنية تحت عنوان “منعيد ومنعيد”، من الطبقة السياسية التي تتكرر منذ عقود من دون أن تحقق أي إنجاز، وتشجعان على عدم التصويت لمرشحيها.
وللمرة الأولى، شارك مغتربون لبنانيون في العملية الانتخابية، إذ أدلى 59 في المئة من أصل نحو 83 ألف مسجلين بأصواتهم الأسبوع الماضي في خطوة تعتبرها السلطة من إنجازات قانون الانتخاب الجديد. كما يأمل كثيرون أن يتيح القانون الحالي لناشطي المجتمع المدني والأحزاب الصغيرة الوصول إلى البرلمان.
وقد صعد نجم المجتمع المدني في لبنان إثر أزمة النفايات التي ملأت شوارع بيروت في العام 2015.
وأنشأت مجموعات وشخصيات عدة من المجتمع المدني تحالف “كلنا وطني” الذي يشارك في المعركة بـ66 مرشحاً ومرشحة في تسع دوائر انتخابية. ويقدم نفسه على اعتبار أنه “الخيار البديل وبداية لتحقيق حلم التغيير”.
وتقول الإعلامية بولا يعقوبيان، إحدى المرشحات عن تحالف “كلنا وطني” في بيروت، “هناك فريق فاسد جدا، وفي المقابل هناك تيار من الشجعان الذين يحاولون أن يقولوا لهم: لسنا راضين”.
ولكن التحديات تبدو كبيرة جدا للحصول على الأصوات. وأوردت إحدى شركات الاستطلاع أن الزيادة في نسبة المشاركة لن تتخطى واحدا في المئة مقارنة مع العام 2009 (أكثر من 50 في المئة).
***
المشهد غداة الانتخابات اللبنانية
حسام عيتاني ٤-٥-٢٠١٨م
صباح الإثنين السابع من أيار (مايو) لن يكون المشهد السياسي في لبنان مختلفاً عما هو عليه اليوم. نتائج الانتخابات المقرر إجراؤها يوم الأحد لن تغيّر شيئاً في الصورة العامة. المفاجآت التي تحدث كُثُرٌ عنها، ستكون طفيفة وموضعية ولن تقلب التحالف الحاكم منذ وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية في تشرين الأول (أكتوبر) 2016.
ستبقى المواقع كما هي. كذلك الأسماء. «التيار الوطني الحر»، «تيار المستقبل»، الثنائية الشيعية، «القوات اللبنانية»، وليد جنبلاط أو وريثه الخ… وبغض النظر عن أعداد المقاعد التي ستحصل عليها كل لائحة مرشحة إلى الانتخابات، ما من شيء يقول إن الوضع الحالي سيتغير بعد فرز الأصوات.
ومثلما احتفظ «حزب الله» باليد العليا في السياسة اللبنانية على الرغم من نجاح قوى 14 آذار (مارس) في انتخابات 2005 و2009، متوسلاً الحرب ضد إسرائيل في 2006 لإفراغ اقتراع العام السابق والزخم الذي أحدثه اغتيال رفيق الحريري من مضمونيهما، وما يصب في هذه الخانة من الترهيب لاحقاً (كنشر «القمصان السود») لإفهام من لم يفهم أنه لن يترك الساحة لخصومه ولو سالت دماء غزيرة دون ذلك، سيصر هذه المرّة أكثر على القبض على المفاتيح الرئيسة لكل ما يتحرك في لبنان، خصوصاً مع تصاعد التهديدات الأميركية والإسرائيلية لإيران. وواهم من يعتقد أن معركة انتخابية في لبنان ستبدل قراراً استراتيجياً بإبقاء بلادنا في حالة استنفار واستعداد للانخراط الفوري في أي حرب إيرانية– إسرائيلية. واهم أكثر من يظن أن من اتخذ القرار سيبالي بمقدار حبة خردل بما ستقوله صناديق الاقتراع صباح الإثنين المقبل.
حظي لبنان بين 2005 و2011 بفرصة تاريخية لتعديل مصيره والانتقال من كونه كونفدرالية طائفية إلى دولة، لكنه أضاع الفرصة التي قد لا تتكرر في مستقبل منظور. لا معنى اليوم لتحميل هذا الطرف أو ذاك مسؤولية الحضيض الذي ما زلنا ننزلق إلى قعره بسرعة متزايدة، ذلك أن البنية الاجتماعية– السياسية والاقتصادية للبنان ما زالت تشكل حجر عثرة أمام كل محاولة للتقدم نحو هيكل أقل تخلفاً وبدائية للسلطة وأدواتها. ما يهم اليوم هو أن نافذة الفرص قد أقفلت وأن بلدنا عاد ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
مصير لبنان لا تقرره انتخابات تجري وفق قانون جُمع من رقعٍ وأفكار لا يجمع بينها إلا خدمة التحالف الحاكم. ولا حملات دعائية تملي محتواها الأهواء الشخصية والقدرة على شراء المقاعد في «اللوائح القوية». وبداهة أن مصير هذا البلد لن يقرره مجموعة من النواب يشكل الجهل والتفاهة قاسميهم المشتركين. فلبنان أعيد إلى سجن الارتهان لأحداث لا قدرة له على التأثير فيها.
فشل الثورة السورية ومأساة اللاجئين والخوف الأوروبي من تكرار مشاهد الزوارق على شواطئ القارة العجوز، إضافة إلى حرب الظلال بين إيران وإسرائيل، في سورية ولبنان وغيرهما، الغارات المجهولة– المعلومة على مواقع غامضة في الأرياف السورية، نزق الرئيس الأميركي وتقلباته، خبث السياسة الإيرانية والاستعاضة عن القدرة الفعلية بالتلويح بالردود المزلزلة (التي ستصيب أرضنا لا أرض غيرنا، بطبيعة الحال)، التدهور الاقتصادي اللبناني وفقدان معنى السياسة وانسداد الأفق صوب أي تغيير من أي مستوى ونوع… هذه العوامل وما يشبهها هي ما سيقرر مصير لبنان في الأعوام المقبلة.
الانتخابات، في السياق هذا، تلتقي مع عودة لبنان ساحة للصراعات الخارجية: مناسبة لاستعراض الوجاهة المحلية والانخراط في آلية الفساد العام… أما الحالمون فيبنون آمالاً لن تتحقق.
***
الانتخابات اللبنانية «النووية»
وليد شقير ٤-٥-٢٠١٨
تحل الانتخابات النيابية اللبنانية بعد غد الأحد وسط تعبئة سياسية وإعلامية استخدمت فيها كل الأسلحة التي تتيحها استعمالات اللغة العربية والأفكار الشيطانية في تبادل الاتهامات والتشهير بين المتنافسين والخصوم، فضلاً عن وسائل الضغط النفسي والمعنوي على جمهور الناخبين، والتدخلات ممن هم في مواقع مؤثرة في السلطة، فضلاً عن المال الانتخابي. هناك مرشحون دخلوا اللوائح فقط لقدرتهم على تمويلها ورشوة الناس في المناطق الفقيرة وحيث تعتبر شريحة أنها فرصة للارتزاق.
لم يبق فريق إلا واستعطف الجمهور بعبارات من نوع «محاولات عزلنا» و «السعي لإلغائنا» و «العمل على محاصرتنا» و «مصادرة قرارنا» و «إفشال شطبنا» و «تحرير مقاعدنا المسروقة» و «الرد على استفرادنا» و «حماية العهد القوي» و «نرفض الذوبان في القوى الأخرى»… حتى يخال المرء أن هناك قوة خفية تعمل على إخفاء الجميع من الوجود، فالجميع اتهم الجميع بالسعي إلى اقتلاعه، وفي الوقت ذاته مارس معظم الأطراف التكاذب اللبناني حول «العيش المشترك» و «الانفتاح» بين الطوائف والمكونات تحت عنوان أن هذا البلد لا يمكن فريقاً أن يحكمه لوحده. ذهب الفرقاء بعيداً في استنهاض ناسهم وطوائفهم، بشعارات متناقضة، على رغم صحة الانطباع بأن قوى نافذة حالية تسعى إلى شطب قوى أخرى من المعادلة متسلحة بأدوات السلطة. وهذا زاد عطف الناس عليها تلقائياً. يتساوى الاستعطاف هذا مع تبني القوى كافة شعار محاربة الفساد، وكأن هذه الآفة تأتي من خارج الطبقة الحاكمة، بل أن الأكثر فساداً فيها هم الذين يعيرون الآخرين فيها.
أسباب المغالاة في استعطاف الناس هي خوف الكثير من القوى السياسية، بمن فيها التي كانت من أكثر المتحمسين للقانون الجديد القائم للمرة الأولى على النسبية، وعلى الصوت التفضيلي الواحد في اللائحة، من أن يخذلها ناخبوها التقليديون القرفون من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها لبنان منذ 9 سنوات جدَّد خلالها النواب لأنفسهم مرتين، والذي جعل الطبقتين الوسطى والفقيرة تغرقان أكثر في العوز جراء تعطيل الحياة السياسية والمؤسسات، فمفاعيل هذا القانون مجهولة قياساً إلى النظام الأكثري.
لكن الانتخابات اللبنانية التي تسبق الانتخابات التشريعية في العراق بأسبوع، بالتزامن مع الأحداث المنتظرة خلال شهر أيار (مايو) الجاري، كانت أيضاً مادة لربط الاستحقاق اللبناني بالوضع الإقليمي في شكل لا يخلو من المغالاة، فبعض التحليلات اعتبرها محطة توجب على القوى الدولية والإقليمية أخذها في الحساب من أجل الحؤول دون الحرب التي يلوّح بها الإسرائيليون والإيرانيون هذه الأيام، أو من أجل تأخيرها، على خلفية الصراع على سورية وعلى إبقاء أو إلغاء أو تعديل الاتفاق النووي مع طهران.
قد يكون محللون غربيون محقين في الإضاءة على ما يوليه المجتمع الدولي من أهمية للاستحقاق النيابي اللبناني، من زاوية الحرص على تجديد السلطة وتداولها، لضمان استقرار المؤسسات كي تتمكن من التعامل مع أزمة النازحين السوريين التي باتت أزمة عالمية، ومن زاوية التأكد من أن إيران لن تحكم سيطرتها على القرار السياسي الداخلي عبر «حزب الله» وحلفائه، في سياق الجهود الدولية والعربية من أجل الحد من تمدد نفوذها الإقليمي، وهو ما لم يغب عن لغة فريقين رئيسين في التنافس الانتخابي اللبناني، مثل قول الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله إن «حماية سلاح المقاومة توفرها حماية سياسية، والحماية توفرها أصواتكم»، وتبرعه، خلال مهرجان انتخابي، بالإعلان نيابة عن طهران بأنها سترد على قصف مخازنها وطائراتها المسيرة في مطار «تي فور» في سورية. كذلك توصيف زعيم «تيار المستقبل» رئيس الحكومة سعد الحريري ربط الاستحقاق في إطار جولاته بالمنطقة بقوله: «الأربع سنوات المقبلة هي سنوات تاريخية للمنطقة وللبنان ولبيروت».
إلا أن ربط الانتخابات بحديث الحرب مغالاة أخرى، إضافة إلى تلك الحملات الهادفة إلى استعطاف الجمهور وشد عصبه الطائفي والمناطقي، فالحرب التي يكتب عنها وتتناقض التوقعات في شأنها تتعدى أهمية الرقعة اللبنانية الصغيرة، طالما أنها بالواسطة بين الدولتين الكبريين أميركا وروسيا. وطالما أنها تأخذ منحى استثنائياً في المبارزة بين الأسلحة «الذكية» على الجسد السوري الممزق، ومصانع الآلات التدميرية (على شاكلة القصف «المجهول» للقواعد الإيرانية في ريفَي حلب وحماة الأحد الماضي، الذي خلف قتلى للحرس الثوري أكثر بكثير مما أعلن)، وطالما أنها تشمل الحرب الإلكترونية الجهنمية.
اختلط «النووي» بالتضخيم المحلي في أحيان كثيرة في الحملات الانتخابية. فهل يعقل أن يوحي نصرالله بأن معركة بعلبك- الهرمل قد تحدد مصير المنطقة مثلاً؟
هذا لا يمنع القول إن ما بعد الانتخابات سيتأثر حكما بأدبياتها على صعيد التحالفات.
***
نموذج لبناني محدث للسلام الاقتصادي
بهاء ابو كروم ، الحياة ٣-٥-٢٠١٨م
تُفضي الانتخابات اللبنانية المُقرّرة بعد يومين إلى توازنات داخلية قد تشهد بعض التغيير، لكن نتائجها السياسية تبدو معروفة سلفاً وجُلّ ما يُقال فيها أنها تتماشى مع الإرادة الدولية التي فرضت تسوية تولي الرئيس ميشال عون منصب رئاسة الجمهورية، وتتلازم مع أجندات وبرامج عمل ذات طابع اقتصادي تشترك في صياغتها أطراف عدة وتُرسم لمرحلة ما بعد الانتخابات.
التحالفات الظرفية التي تسبق الانتخابات تعكس الخلل الذي أخذ ينهش التركيبة والبنية المجتمعية أكثر مما تعبّر عن مواكبة محطة أو استحقاق سياسي ينتظره اللبنانيون كل 4 سنوات. بدأت القصة مع المظلومية التي انساق لها الأطراف المسيحيون على خلفية التفوق الديموغرافي للمسلمين وتحكّمهم بعدد كبير من المقاعد النيابية الخاصة بهم. طال الأمر إلى حد إدخال المفهوم النسبي على نظام وتركيبة طائفية صُنعت لتحفظ خصائص لبنان المناطقية والزعامات المحلية التي صمدت طويلاً بما اختزنته من تنوع وليونة ميّزتها وانعكست على النظام السياسي اللبناني برمّته، لا بل صمدت بوجه مشاريع التغيير اليسارية التي حاولت تجاوز الصيغة التقليدية للنظام. وقد صيغ القانون الفسيفسائي لكي يضرب الأسس المنطقية للتحالفات السياسية، وهذا ما كان مطلوباً من القانون بهدف تحويل لبنان إلى ليبرالية مُحدّثة تحكمها مصالح كبيرة تتداخل فيها الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية وفقاً لنموذج شبيه بالفلسفة التي تقف خلف مفهوم «السلام الاقتصادي».
على هذه الخلفية تتشكل معالم انقسام سياسي يقلّل من حدة العناوين السياسية لمصلحة القضايا المعيشية الأخرى.
يتحضّر لبنان إذاً إلى الدخول في فلسفة «السلام الاقتصادي» بعد الانتخابات في ظل حجم متفاقم للدين العام يتجاوز الـ80 بليون دولار، وهذا وحده يكفل انسياق اللبنانيين إلى ترجيح أداء مصلحي جديد يرتبط بالحاجات الملحة أكثر مما يتعلق بالثوابت في السياسات العامة.
يكمن أساس هذه الفلسفة بشقها السياسي في الحفاظ على القرار 1701 الذي يضمن الاستقرار في جنوب لبنان، والإبقاء على سياسة النأي بالنفس كمعادلة حكومية مستدامة، واعتماد الحوار الطويل الأمد حول الاستراتيجية الدفاعية. ويعتمد شقها الاقتصادي على انخراط الكارتيلات اللبنانية بإعادة إعمار سورية، وترتيب ملفات النفط والثروات الاقتصادية بما يتلاءم مع هذه الرؤية التي تكفل بدورها مراوحة لبنان في الاعتماد على سياسة الاستدانة في شكل مستدام، وتلطيف أخطار السياسات الاقتصادية تلك عبر إقامة المؤتمرات الدولية.
طبعاً في الطريق إلى ذلك تتشكل القواعد الهجينة للتيارات الليبرالية في شكل عام، وبخاصة تلك المنخرطة في هذه الرؤية، بطريقة تجعلها مطواعة للزعامات التي تقودها. وقد جرى ترتيب البيوتات الداخلية على نسق يخلو من النقاش في الخلفيات ويُرجّح التعلّق بالحسابات المصلحية. وقد حَوَت لوائح الترشيحات لهؤلاء ثقلاً معتبراً لرجال المال والأعمال وحضوراً راجحاً للسياق الليبرالي الذي يشي بخصائص جديدة قد تطرأ على المعادلة الاقتصادية في السنوات المقبلة.
اللافت في كل ذلك أن توجهات المعادلة الاقتصادية أظهرت ابتعاداً مضطرداً عن الثوابت التي راكمها لبنان خلال الحقبة الماضية وبخاصة تلك المتعلقة بأخذ العبر من دروس الحرب الأهلية التي تأسّست في أحد أبعادها على أزمات معيشية.
هذه المرة الطائف في خطر! وقد تشبه هذه الحقبة مرحلة خروج لبنان من الحرب الأهلية والتركيز على إعادة إعماره وفق الفلسفة التي استمرت من 1990 وحتى عام 2000، حين رعى حافظ الأسد معادلة التوازن اللبناني بمعزل عن التطبيق السليم لاتفاق الطائف.
في المقابل لا بد أن يترتب على فئات واسعة قد لا تجتمع على قراءة إقليمية واحدة، أو هي في موقع الخصومة الداخلية، أن تنخرط في قراءة ثنائية الطابع يضمن أوّلها الحفاظ على قدر من واجبات الدولة في الرعاية والمسؤولية الاجتماعية، ويتعلّق ثانيها بالحفاظ على صيغة كرّسها اتفاق الطائف كمعادلة تحفظ توازنات الداخل.
هذه القراءة لا بد أن تطرح نفسها كقاعدة اصطفاف محوري لمرحلة ما بعد الانتخابات. وأيضاً لقواعد تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس للمجلس النيابي وغير ذلك من الاستحقاقات الداخلية.
بالتالي فإن الصراع الداخلي بعد 6 أيار (مايو) سينشأ وفق توزّع قوى جديد يُظهر في شقه الأوّل صراعاً يتمحور حول مَن يريد استثمار زخم العهد والمظلة الدولية لتعديل قواعد الطائف في مواجهة مَن يعمل على مُمانعة التحايل على جوهر ومضمون هذا الاتفاق، وفي شقه الثاني يُظهر أن تسويق قانون انتخابي على قاعدة النسبية مع الطائفية إنما أخذ البلد إلى نموذج منفعي ومصلحي يعزز التوجهات الشعبوية في السياسة والاقتصاد في شكل يحد من قيمة الثوابت الوطنية وحجم التضحيات التي قدمها اللبنانيون. وهذا نسق تقليدي تعتمده المدرسة النيو- ليبرالية في العادة. وقد احتضن هذا العهد توجهات تعكس البُعد المصلحي والذاتي البعيدة عن القيَم التي يتغنى بها اللبنانيون عادةً، بخاصة في التعاطي في موضوع النازحين السوريين. ولا شك في أن الضرر العميق الذي أوقعه هذا القانون يكمن في أنه أفسد القيمة الإصلاحية للنظام النسبي الذي بقي يمثل طموح فئة كبيرة تطمح للمشاركة في الحياة السياسية.
النيو- ليبرالية المُحدثة أو «السلام الاقتصادي» الذي تقوم رعايته في لبنان هذه المرة على تواطؤ روسي غربي إنما يقطع زمنياً مع مرحلتين، واحدة امتدت منذ الطائف حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والثانية امتدت منذ تلك اللحظة إلى تاريخ التسوية التي أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى