أقلام وأراء

نبيل فهمي يكتب – دعوة إلى إفاقة مجتمعية عالمية

نبيل فهمي *- 29/12/2020

مستجدات 2020 أظهرت قصورا في النظام الدولي المعاصر وتعاملاتنا ‏مع المنظومة البيئية

من الصعب أن ينظر أحد إلى عام 2020 على أنه كان عاماً خيراً ومفيداً ومثمراً، إلا طبقة محدودة من البشر، لها مصالح مادية في صناعة الخدمات الطبية أو وسائل الاتصال والتجارة الرقمية، استفادت من الإجراءات الطبية والعزل والتباعد الاجتماعي المصاحبة لفيروس كوفيد 19، ‏وحتى هؤلاء لم يكونوا محصنين من المشاكل الصحية والمجتمعية التي شهدناها إزاء التحديات الضخمة والفريدة في مواجهة مآس إنسانية وحالة طارئة ‏في الصحة العامة والأوضاع الإنسانية والانكماش الشديد في مجال التنمية.

وليس من المبالغة القول إن أبرز المستجدات السلبية لعام 2020 كانت ظهور الفيروس الجديد والظروف الذي ترتبت عليه، وإنما في الوقت نفسه يجب عدم تحميل الفيروس مسؤولية كافة المشكلات الجوهرية في النظام الدولي والمجتمعي المعاصر القائمة من قبله، فهي ثابتة وممتدة ومترسخة منذ مدة طويلة، كشفها الفيروس ورد الفعل الدولي له، وسلط الأضواء عليها، ولم يكن السبب الأساس لوجودها.

مستجدات 2020 كشفت وأظهرت قصوراً في النظام الدولي المعاصر وتعاملاتنا ‏مع بعضنا بعضاً، في ظل نسبة ‏فساد عالمي لم نشهدها قبل 80 عاماً، وبسبب نقاط ضعف عديدة أخرى وطويلة الأجل في ما بيننا، منها على وجه الخصوص عدم التعامل السوي أو العادل ‏بين فئات المجتمع الدولي.

‏وفي ظل الطمع المادي العالمي، والمبالغة في تبني معايير مادية كدلالة على النجاح، تجاوزنا في التعامل مع بيئتنا، واستنزفنا مواردنا الطبيعية بشكل كارثي، ما سيحمل للأجيال القادمة عبئاً ثقيلاً ومشاكل جمة، في ظل ما نشهده من ‏الارتفاع الحراري العالمي، والتآكل البيئي، والمشكلات والعقبات التي نواجهها في السعي لتنمية مستدامة متساوية وجامعة للكل.

‏ولم يخطئ أو يبالغ سكرتير عام الأمم المتحدة عندما أعلن أخيراً أن هناك “كسراً في حالة كوكبنا، ‏وأن الإنسانية في حالة حرب انتحارية ‏مع الطبيعة، التي سيكون لها رد فعل عنيف وقوي”. بل أصاب في توصيفه للأوضاع، حيث نشهد الآن ‏انهياراً في التنوع الحيوي، بعد أن أصبح أكثر من مليون كيان في بيئتنا على وشك الانقراض، وتختفي النظم البيئية أمام عيوننا، وهناك توسع بالغ وسريع في الرقعة الصحراوية، يقابله انكماش سريع في المسطحات المائية، ‏وتلوث بيئي متزايد وسريع في المحيطات من عادم البلاستيك، وتدمير للصخور المرجانية، وتلوث ‏في الهواء والمياه يؤدي إلى قتل 9 ملايين شخص سنوياً.

وكان العقد الأخير الأكثر حرارة في تاريخ الإنسانية، وتعرضت 80 في المئة من محيطات العالم إلى موجة حارة، وساحت الثلوج ‏الشديدة، وأطلقت انبعاثاتها من الغازات وأضرت بالمناخ العالمي، ونحن الآن في الطريق إلى زيادة أخرى في درجات الحرارة، في ما بين ثلاث إلى خمس درجات خلال العقد الحالي، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر ‏وأضرار، في حين أن المستهدف الآمن هو ضبط الارتفاع الحراري عند 1.5 درجة ‏زيادة مما كانت عليه قبل الثورة الصناعية الأخيرة القرن الماضي.

ومع توسع رقعة التعامل الإنساني وبهذه الأنماط المضرة على حساب المساحات التي كانت تعيش فيها الكائنات الحية الأخرى نشهد تصاعداً في سرعة انتقال الأمراض من البيئة الحيوانية إلى الإنسان.

‏وتعكس التقارير العلمية أن تداعيات كل هذه السياسات الخاطئة تؤثر في المقام الأول وتكون أكثر شدة على أضعف الفئات البشرية تحملاً، على رغم أنهم يتحملون مسؤولية أقل في خلق المشاكل البيئية من الأطراف الأقوى أو الأكثر ثراءً.

لذا أدعو أن يخرج المجتمع الدولي من أزمة كورونا بإفاقة، لمراجعة نظمه وسلوكياتنا، تطبيقاً للمقولة أو المثل الداعي “إن في كل أزمة أو مشكلة فرصة للإنجاز والاستفادة”.

وفي هذا السياق أرجو أن نتيقن أننا في الشرق الأوسط لسنا محصنين من تلك المشاكل البيئية والمجتمعية العالمية الضخمة، بل نتعرض لعديد منها وأحياناً بنسب أعلى من قارات ومناطق أخرى في عالمنا، وعلى سبيل المثال نواجه عربياً مستويات شديدة من الفقر المائي، ‏مشكلة ينتظر أن تتفاقم مع زيادة التداعيات المترتبة على التغيرات المناخية، وبما يؤثر ليس فقط في احتياجاتها التنموية ‏من الزراعة والغذاء، بل حتى في الحد الأدنى من مستويات المياه المطلوبة لتوفير الاحتياجات اللازمة من مياه الشرب.

كما تعاني منطقتنا أكبر نسبة تفاوت مادي بين المستويات والطبقات الاقتصادية، وتوفر أقل نسبة في الخدمات الاجتماعية. تحديات ومشاكل يومية تصعب الاستجابة لها والتعامل معها في غياب إدارة كفاءة الموارد، وإنسانية واعية في التعامل مع الطبقات الأكثر تضرراً، وتوفر السياسات الاقتصادية والبيئية التي تشجع الإنتاج والاستثمار والتجارة دون إهدار مواردنا الطبيعية، لضمان التنمية المستدامة، مع الاحتفاظ برؤية ثاقبة لكيفية توفير الساحات الفكرية التي تشجع المبادرة والابتكار.

واتصالاً بالإفاقة التي أتمناها على المستوى الدولي، وكخطوة أولى نحو تعاون أوسع، أقترح أن تشكل الحكومات العربية عدداً من المجموعات الفكرية العامة والمدعمة بالمعلومات الرسمية الحكومية، لوضع تصورات وتوصيات للتعاون الإقليمي حول بعض القضايا التي لها طابع أو انعكاسات تتجاوز حدود وسيادة الدول منفردة، ومنها الآتي:

1 – تأثير التغيير المناخي في المنطقة العربية.

2 – رؤية مستقبلية لاحتياجات العالم العربي من المياه.

3 – وضع منظومات لتوفير الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية للمواطنين بما في ذلك الخدمة الطبية.

4 – تطوير النظم والمناهج التعليمية بما يتوافق مع تطورات الحداثة ومتطلبات العولمة الدولية.

5 – منظومة لتبادل المعلومات والمساعدات الطارئة بين الدول العربية مثل حالات الكوارث الطبيعية أو الأوبئة، ولعل مراجعة تعامل الاتحاد الأوروبي مع فيروس كورونا بأخطائه وإيجابياته تؤكد أهمية هذا الاقتراح وتفيد في تطويره.

وأرجو أن يكلف الوزراء المعنيون في الحكومات العربية بدراسة الخلاصات والتوصيات المقدمة في المجالات المختلفة للبدء في التنفيذ السريع الكامل أو الجزئي في ما بين الدول التي تقبلها، آملاً أن تكون نواة لتعاون عربي ثم إقليمي كامل مستقبلاً.

*وزير الخارجية المصري السابق .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى