نبيل فهمي: قراءة في إستراتيجية ترمب للأمن القومي الأميركي
نبيل فهمي 8-12-2025: قراءة في إستراتيجية ترمب للأمن القومي الأميركي
استراتيجية الأمن القومي الأميركي الصادرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 ليست مجرد وثيقة سياسية، إنما الميثاق الفكري لإستراتيجية جديدة ترفض صراحة رؤية ما بعد 1991 التي كانت ترى الولايات المتحدة الضامن الذي لا غنى عنه لنظام عالمي ليبرالي، وتقدم واقعية قومية منضبطة تخضع كل التزام خارجي لاختبار واحد: هل يخدم مباشرة المصالح الحيوية الأساس للأمة الأميركية، أمنها، ازدهارها، حدودها، ونمط حياتها؟
عالمياً النتائج زلزالية، ففي آسيا تتخلى الإستراتيجية عن “الردع المتكامل” لمصلحة ترتيب أولويات قاس: الصين هي المنافس الند الوحيد، وكل قضية أخرى، تايوان، بحر الصين الجنوبي، كوريا الشمالية، تُقيم فقط من زاوية ما إذا كانت تساعد أو تعوق المهمة المركزية وهي منع بكين من تحقيق الهيمنة على المحيطين الهندي والهادئ، ويُقال للحلفاء بصراحة إما أن تنفقوا أكثر بكثير على الدفاع أو تفقدوا الحماية الأميركية، فاليابان والهند ستُسلحان تسليحاً ثقيلاً، بينما قد يُترك شركاء أقل أهمية لمصيرهم.
أوروبا تواجه أقسى إنذار في تاريخ الـ “ناتو”، ارفعوا الإنفاق الدفاعي إلى ما بين ثلاثة وخمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال خمسة أعوام (الوثيقة تصف نسبة 2 في المئة بأنها مضحكة) وإلا فإن الضمانة الأمنية الأميركية ستتلاشى، والرسالة الضمنية هي أنه يجب على أوروبا أن تتعلم من جديد كيف تكون فاعلاً إستراتيجياً جاداً وإلا تصبح منطقة محايدة بين روسيا المنهكة وأميركا “أميركا أولاً”، محذرة من فقدانها هويتها الحضارية.
في نصف الكرة الغربي تعيد الإستراتيجية إحياء “مبدأ مونرو” وتحديثه باسم “ملحق ترمب”، معلنة أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي مجالاً أميركياً حصرياً يُطرد منه كل قوة أجنبية معادية (الصين روسيا وإيران) بالإكراه الاقتصادي أو العقوبات، أو إذا لزم الأمر التدخل المباشر، وأفريقيا تُعد تقريباً منطقة ثانوية إلا حيث تهدد هيمنة الصين على المعادن أو مسارات الهجرة الجماعية المصالح الأساس، فعصر المساعدات التنموية الكبرى وحفظ السلام الأميركي انتهى.
وتستخدم الإستراتيجية ثلاث أدوات ثورية:
أولاً: تسليح هيمنة الطاقة الأميركية للحد من مصادر دخل الخصوم.
ثانياً: النظام المالي القائم على الدولار كخنق للاقتصادات المعادية.
ثالثاً: استعداد للانسحاب من أي التزام لا يخدم المصالح الأميركية بصورة واضحة وفورية.
ولا مكان ستكون فيه هذه التحولات العالمية أكثر وضوحاً من الشرق الأوسط، المنطقة التي نزفت الولايات المتحدة فيها أكثر من أية منطقة أخرى، دماً وأموالاً وصدقية خلال العقود الثلاثة الماضية.
الشرق الأوسط في النظام الإستراتيجي الجديد
تختصر الإستراتيجية طموحات أميركا في الشرق الأوسط في جملة واحدة بلورية في الصفحة الـ 27: “نريد منع أية قوة معادية من الهيمنة على الشرق الأوسط وإمداداته من النفط والغاز ونقاط الاختناق التي تمر منها، مع تجنب الحروب الأبدية التي أوقعتنا في المنطقة بكلفة باهظة”، ولا ذكر لنشر الديمقراطية، حقوق الإنسان، بناء الأمم، أو حتى عبارة “حل الدولتين”، فالقضية الفلسطينية تُخفض من “ضرورة إستراتيجية” إلى هامش إنساني، وللمرة الأولى منذ 1945 تعلن الولايات المتحدة سياسة شرق أوسطية هي فعلياً “توازن بحري”: حافظوا على النفوذ الحاسم لكن بثمن زهيد عبر وكلاء إقليميين ونفوذ اقتصادي وتطبيق انتقائي للقوة العسكرية الساحقة.
والنتائج تتكشف عبر ستة مجالات مترابطة.
أولاً: إيران، الحصار المطلق وانهيار النظام نتيجة مقبولة.
تتعامل الإستراتيجية مع عملية “مطرقة منتصف الليل”، الضربات الجوية واسعة النطاق التي دمرت منشآت نطنز وفوردو والبنية التحتية النووية المرتبطة بها خلال الأشهر الأولى من الولاية الثانية وكأنها خط الأساس الإستراتيجي الجديد، ومع تراجع التهديد النووي لعقد في الأقل، تحررت واشنطن من القيود السياسية التي منعت حملة ساحقة حقاً في 2018 – 2020.
“الضغط الأقصى 2.0”: العقوبات ستُرفع إلى مستويات تجعل سياسة “تصفير صادرات النفط” 2019 تبدو معتدلة، والبنوك الأوروبية والهندية والصينية ستواجه خياراً بسيطاً وهو الوصول إلى النظام المالي الأميركي أو التجارة مع إيران، وصادرات الغاز الطبيعي المسال والنفط الخام الأميركي ستغمر الأسواق في الوقت نفسه، ومن ثم ستكون طهران محرومة من أي أمل في أسعار أعلى.
والوثيقة لا تذكر “تغيير النظام” لكن كل أداة من دون غزو علني، عمليات سرية، دعم الاحتجاجات الداخلية، عمليات سيبرانية، تنسيق هادئ مع إسرائيل ودول أخرى، ستُستخدم من أجل تسريع انهيار إيران من الداخل، فهي منهارة ومُضعفة ولا تعد خطراً بل أسرع طريق لاستقرار المنطقة على الشروط الأميركية.
ثانياً: إسرائيل وما وصف بأنه محور سني: تفويض أميركي مطلق لنظام إقليمي جديد.
تُعد القدس صراحة الركيزة الشرقية لتحالف جديد ضد إيران، وكل قيد أميركي سابق، دعوات علنية لضبط النفس في غزة أو لبنان، الضغط على المستوطنات، ربط مبيعات الأسلحة بتقدم على مسار الدولة الفلسطينية، أُلغي، وستُعزز “اتفاقات أبراهام” تعزيزاً هائلاً بكميات ضخمة من السلاح المتقدم والغطاء الأمني في مقابل تطبيع كامل مع إسرائيل وإنشاء قيادة عسكرية مشتركة تمتد من الأطلنطي الي الخليج وتل أبيب، علماً أن الولايات المتحدة لن تُعلق على استخدام ما تبيعه طالما وُجه ضد إيران أو وكلائها.
والملف الفلسطيني مغلق عملياً كقضية إستراتيجية، وغزة سيعاد بناؤها بشرط نزع السلاح الكامل، والضفة الغربية ستتجه نحو ضم فعلي دون اعتراض أميركي، وللمرة الأولى منذ 1967 تتمتع إسرائيل بحرية إستراتيجية غير محدودة مدعومة بتأييد أميركي لا لبس فيه.
ثالثاً: الطاقة كسلاح لا كثغرة أمنية.
هيمنة الطاقة الأميركية تحوّل جيوسياسية النفط، فلم تعد الولايات المتحدة طالبة عند “أوبك” بل أصبحت المُفسد الأول، وكلما حاولت “أوبك+” خفض الإنتاج لرفع الأسعار ستفتح واشنطن الصنابير وتغرق السوق، وأمام الدول البترولية خيار وجودي، إما الاصطفاف الكامل مع الكتلة الأميركية – الإسرائيلية وقبول نفط بين 50 و60 دولاراً كوضع طبيعي جديد، وإما المقاومة ومشاهدة اقتصادها ينهار تحت الغاز الصخري والغاز الطبيعي المسال الأميركي.
وتهدف هذه السياسة إلى تجويع إيران وروسيا من دولارات البترول، وتنزع السياسة من الصين أي نفوذ على أسواق الطاقة العالمية، وتمنح الولايات المتحدة قوة إكراه غير مسبوقة على كل دولة مستوردة للنفط من ألمانيا إلى الهند.
رابعاً: مكافحة الإرهاب: نحيف قاتل ومحلي.
دفنت عمليات مكافحة التمرد بصورة واسعة النطاق القوات الأميركية المحدودة الباقية في سوريا والعراق وستعمل بقواعد اشتباك مرنة للغاية، معتمدة على القوة الجوية والطائرات المسيرة والقوات الخاصة والشركاء المحليين، “قسد” في سوريا، إسرائيل في الجنوب، وقبائل سنيّة سيتحملون عبء السيطرة على الأرض.
“داعش” و”القاعدة” سيُضربان بلا هوادة، لكن لا اهتمام بإعادة بناء دول فاشلة، فحملة 2014 – 2017 التي سحقت الخلافة إقليمياً ستكون النموذج: دمر، غادر، كرر عند الحاجة.
خامساً: روسيا والصين: في الشرق الأوسط.
وضع روسيا في سوريا أصبح لا يُحتمل مع تجويع موسكو من الأموال بالعقوبات وأسعار الطاقة المنخفضة، ومع منح تركيا (عضو الـ “ناتو” الذي تسعى الوثيقة إلى استعادته كلياً) يداً حرة في الشمال، فإن الشرق المتوسط سيعود للسيطرة الغربية، واستثمارات “الحزام والطريق” الصينية في باكستان والعراق والخليج ستواجه عقوبات ثانوية عنيفة ومنافسة من منطقة اقتصادية مدعومة أميركياً من المغرب إلى عُمان.
سادساً: أخطار حرب كبرى: أعلى قصير الأجل، أقل طويل الأجل
من المفارقات أن أكبر خطر لحرب إقليمية كبرى هو إغلاق إيران مضيق هرمز، مع هجمات جماعية على بنية الطاقة الخليجية أو صراع مباشر بين إيران وإسرائيل قد يبلغ ذروته في 2026 – 2028 بالضبط، لأن طهران ستكون محاصرة ويائسة وتواجه انهياراً وجودياً، لكن إذا نجت الولايات المتحدة وحلفاؤها من تلك العاصفة فالنتيجة طويلة الأجل هي شرق أوسط لا تستطيع فيه أية قوة معادية تهديد ممرات بحرية حيوية أو إمدادات طاقة، وتكون فيه الالتزامات الأميركية ضئيلة جداً، والخلاصة شرق أوسط أكثر برودة، أوضح، وأكثر أميركية.
إستراتيجية الأمن القومي 2025 لا تَعد بشرق أوسط ألطف أو أرحم، بل إنها تَعد بشيء أثمن بكثير من وجهة نظر واشنطن: منطقة تُؤمن فيها المصالح الأميركية الأساس مع منع هيمنة قوة معادية على نقاط اختناق الطاقة بجزء ضئيل من الدماء والكنوز والطاقة الدبلوماسية مقارنة بأي وقت منذ 1979.
وتفعل ذلك بتفريغ كل الأعباء العسكرية والحكومية تقريباً على عاتق الحلفاء الإقليميين (إسرائيل وبعض الدول العربية) باستخدام نفوذ اقتصادي ساحق (عقوبات + صادرات طاقة)، وبقبول قدر أعلى من العنف الإقليمي والاستبداد كثمن الابتعاد من “الحروب الأبدية”، والنتيجة ستكون على الأرجح نظاماً إقليمياً أكثر برودة وأكثر قسوة لكنه أكثر وضوحاً، وللمرة الأولى منذ عقود تعامل الولايات المتحدة الشرق الأوسط كما قالت النظرية الواقعية دائماً أن القوى العظمى يجب أن تفعل، منطقة مهمة لكن ليست وجودية، ولا يهم استقرارها إلا بقدر ما يؤثر في المصالح الأميركية الأساس، سواء أخلق منطقة أكثر سلاماً بشكل عام من عدمه، طالما ظلت أكثر اتساقاً وملاءمة للأولويات الأميركية، في إستراتيجية ستواجه عدداً من التحديات ويكون لها كثير من النتائج والتداعيات للعالم أجمع على مدى ولاية ترمب الثانية وما بعدها.



