أقلام وأراء

نبيل عمرو – زمالة الرمزيّة للبراغماتيّة في حياة الفلسطينيّين

نبيل عمرو * –  16/10/2021

ميّزت الكفاحَ الوطني الفلسطيني، منذ بدايته حتى الآن، ظاهرةٌ تمثّلت في تزاوج البراغماتيّة والرمزيّة، اللتين كانت لكلٍّ منهما وظيفتها الفعّالة في حياة الفلسطينيين ومسارات قضيّتهم.

البراغماتية سُمِّيت بـ”التنازلات”، منذ وضع البرلمان الفلسطيني، المسمّى بـ”المجلس الوطني”، برنامجاً مرحليّاً جوهره إقامة سلطة وطنية على أيّ جزء يتحرّر أو ينسحب عنه الاحتلال. وحين وُجِّه نقدٌ شديدٌ لمفردة “المرحليّ”، رُفِعت من الأدبيّات ولم يعد يأتي على ذكرها أحدٌ من منتسبي منظمة التحرير وأصحاب القرار فيها، وأُلغيت المفردة لأسباب براغماتيّة.

وإذا ما توغّلنا في إيراد الأمثلة فهي كثيرة، ولعلّ آخرها، بل وأبرزها، حكاية اتفاق أوسلو التي أنتجت ذهاباً فلسطينياً إلى ما كان أكبر الكبائر والمحرّمات، وهو الاعتراف القانوني والصريح بحقّ إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها، قبل أن يُمسكوا بأيديهم ولو حفنة تراب.

بين القرار الفلسطيني الأوّل في هذا المسار والقرار الأخير، ظهر كثيرٌ من المبادرات التي وصفها أصحابها بالبراغماتيّة التي هي شرط الحلّ، ووصفها معارضوها بالتنازلات الفادحة عن الحقوق الأساسية والتاريخية. غير أنّ هذه المبادرات البراغماتية كانت تترافق مع رمزيّات لها الأثر الأقوى في تشكيل الوجدان الشعبي الفلسطيني. منها، مثلاً، اعتماد المفتاح رمزاً لحقّ العودة، وما من مخيّم فلسطيني أو حيّ إلا ووُضِع مجسّمه على بابه، وما من منشأة فلسطينية إلا وحملت اسم حيفا ويافا وعكّا، وإذا ما قمت بجولة في مدينة رام الله، التي هي الآن عاصمة البراغماتية الفلسطينية، تقرأ على كلّ الشوارع ومفارق الطرق أسماء مدن وقرى فلسطينية استولت عليها إسرائيل في عام 1948، وبعضها أبادته من الوجود.

ذلك ليس على أرض الوطن الذي لا يزال محتلّاً، وإنّما في كلّ مكان يوجد فيه فلسطينيون، وهم في كلّ مكان.

البراغماتية سُمِّيت بـ”التنازلات”، منذ وضع البرلمان الفلسطيني، المسمّى بـ”المجلس الوطني”، برنامجاً مرحليّاً جوهره إقامة سلطة وطنية على أيّ جزء يتحرّر أو ينسحب عنه الاحتلال.

مغزى التزاوج بين البراغماتيّ والرمزيّ ليس انفصاماً كما يمكن أن يظنّ البعض، ولا تناقضاً في الوعي والسلوك، وإنّما هو سلاح يستغلّه البراغماتيّون للمساومة في تسوياتهم من جهة، ويعتنقه معارضوهم لحماية الحلم والرواية من جهة أخرى.

وكلّما كان يظهر أفقٌ لحلٍّ، كانت الرمزيّات تتراجع عن الواجهة مفسحة في المجال للبراغماتيّة. وكلّما سُدَّت الآفاق تنهض الرمزيّات بقوّة أكبر وحضور أوضح.

يخاف الإسرائيليّون بشدّة من هذا الأمر ويسوِّقون أمام أنفسهم والعالم تفسيرهم الخاصّ لهذه الظاهرة الفلسطينية المستمرّة. فهم يتّخذون من الرمزيّات الفلسطينية قرائن على أنّ الفلسطينيين البراغماتيّين مجرّد متحايلين مخادعين، وأنّ المعتقد الأعمق في حياتهم جميعاً هو أنّ كلّ البلاد لهم، ويافا وحيفا قبل جنين والخليل. ولو دقّقنا في مقولات الإسرائيليين لتبرير تمسّكهم بالاحتلال وسعيهم الحثيث إلى السيطرة على الفلسطينيين بشتّى الوسائل، لوجدنا أنّ أساس روايتهم المضادّة هو كلّ هذه الرمزيّات الشعبية التي يرونها أعمق دلالة من كلّ ما أقدم عليه البراغماتيّون من تنازلات.

ستظلّ هذه المزاوجة قائمة، ولا سبيل إلى محوها. فإذا ما تمّ التوصّل إلى تسوية سياسية براغماتية يرضى عنها الفلسطينيون عبر استفتاء شعبي وبفعل ضغط ضرورة الحياة، فسوف تتقدّم البراغماتية على الرمزية، وإذا لم يحدث ذلك تصبح البراغماتية تهمةً والرمزيّة ملاذاً.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى