ترجمات أجنبية

ميدل ايست أي ، ديفيد هيرست يكتب – السعودية تدفع لإقامة حكم ذاتي “سني” في العراق

ميدل ايست أي، بقلم ديفيد هيرست * 25/1/2020

يغلي مرجل حرب بالوكالة في الشرق الأوسط قد تكون عواقبها أكبر بكثير من تلك التي يشهدها اليمن وتشهدها ليبيا وسوريا. كل من يقرأ هذا المقال فهو ممن لديهم دراية بالمشهد السياسي، إننا بصدد حرب نجوم بين المجرات تخوضها ثلاث كتل من القوى الإقليمية، بينما تنسحب الولايات المتحدة في حالة من الفوضى والارتباك.

تدور رحى الصراع على النفوذ في صناديق رمل متتابعة، الواحد تلو الآخر، اليمن أولا، ثم ليبيا ثم سوريا، دون كثير اعتبار لما يمكن أن يحيق باليمنيين والليبيين والسوريين الذين يعيشون هناك.

يُنظر إلى أهل البلاد بازدراء، ويُعاملون كما لو كانوا وكلاء لإرادة عليا، وهم في تلك الأثناء عرضة للبيع والشراء، بل وللخيانة، تبعا لأهواء الأسياد ورغباتهم. وما الديمقراطية والسيادة وتقرير المصير إلا مفاهيم بلا معنى، لا تخاطب بها إلا الجماهير الغربية، وكل ما يهم هنا هو القوة والسلطة التي تهيمن. وتجد في كل بلد الشخصيات نفسها، والقوى نفسها، والسلطة نفسها المدمرة، في وضع أشبه ما يكون بالفيلم السينمائي الذي تصدر منه سلسلة متتابعة لا نهاية لها. يظهر في كل حلقة من حلقاته ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وهو يحث الخطى حول نجم الموت التابع له، بينما أسرابه وداعموه ومرتزقته والقتلة المأجورون من قبله يعدون الخطة لتوجيه الضربة التالية.

لا ينبغي أن يستغرب أحد أن ثمة حربا أخرى بالوكالة يجري شنها. وهذه يظهر أنها أكبر من اليمن ومن ليبيا ومن سوريا. وإذا ما نجحت الخطط التي أوشك أن أصفها، فإن الغزو الذي نفذه بوش وبلير في عام 2003 سيبدو شاحبا بالمقارنة. لقد انتقلت اللعبة الكبرى إلى العراق، وبات هذا البلد الذي كان في يوم من الأيام دولة عزيزة وقوية يواجه خطرا عظيما.

ما سأورده ههنا مأخوذ من ثلاثة مصادر عراقية رفيعة المستوى لديها اطلاع جيد على المعلومات الاستخباراتية التي حصل عليها رئيس حكومة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي، وكذلك على الإجراءات التي اتخذها والمحادثات التي دارت بهذا الشأن.

المؤامرة

قبل تسعة أشهر، دعوت مجموعة من السياسيين ورجال الأعمال العراقيين من مناطق الأنبار وصلاح الدين ونينوى إلى لقاء خاص في مقر السفير السعودي لدى الأردن في عمان.

كان مضيفهم الوزير السعودي المكلف بالشؤون الخليجية ثامر بن سبهان آل سبهان، الذي يعتبر رجل مهمات ولي العهد محمد بن سلمان في المنطقة. لا يُعرف ما إذا كان محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان الذي تربطه علاقات وثيقة بإيران والسعودية في الوقت نفسه، كان حاضرا في ذلك اللقاء السري في عمان، ولكن يُقال إنه قد تمت إحاطته علما بالتفاصيل.

وكانت أجندة اللقاء تتضمن مناقشة خطة للدفع نحو إقامة إقليم سني يتمتع بحكم ذاتي كما هو عليه حال إقليم كردستان.

الخطة ليست جديدة، ولكن ما هو جديد هو أن الفكرة التي طالما راودت الولايات المتحدة وهي تسعى جاهدة لإبقاء العراق ضمن دائرة نفوذها، وجدت من يبعثها من جديد في خضم تنافس المملكة العربية السعودية مع إيران على النفوذ والهيمنة. تشكل الأنبار واحدا وثلاثين بالمائة من مجمل أراضي الدولة العراقية، ويحتوي باطنها على مخزون كبير من النفط غير المستخرج بعد، وكذلك على احتياطيات من الغاز والمعادن. إنها المنطقة المحاذية لسوريا. فيما لو أجبرت القوات الأمريكية فعلا من قبل الحكومة العراقية القادمة على الخروج من البلد، فسيتوجب عليها ترك حقول النفط في شمال سوريا أيضا، لأن الأنبار هي المنطقة التي يتم من خلالها تزويد هذه العملية باحتياجاتها، ففي الأنبار توجد حاليا أربع قواعد عسكرية أمريكية.

وبفعل الضغوط التي تمارس عليها، عززت واشنطن من الجهود التي تبذلها لتقسيم العراق كوسيلة لمواجهة النفوذ الإيراني. تتشكل المحافظة الغربية إلى حد كبير من أراض صحراوية يزيد عدد سكانها قليلا عن المليوني نسمة، ولكن لو أريد لها أن تصبح إقليما مستقلا ذاتيا فستكون بحاجة إلى قوة عاملة، التي – كما قيل في الاجتماع – يمكن أن يوفرها اللاجئون الفلسطينيون، الأمر الذي يتناسب بشكل جيد مع مخططات دونالد ترامب التي باتت تعرف باسم “صفقة القرن”، التي تهدف إلى تخليص إسرائيل من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. يذكر أن الأنبار محافظة سنية بالمجمل، أما محافظتا صلاح الدين ونينوى فليستا كذلك. وإذا ما نجحت الفكرة في الأنبار، فمن الممكن أن تلحق بها المحافظات السنية الأخرى. انتهى الاجتماع باتفاق قوي، ولكن لم يكن المشاركون فيه من عراقيين وسعوديين وحدهم في الاستماع.

كانت المخابرات الأردنية تتنصت على اللقاء، ولم يسرها ما سمعته، علما بأن المخابرات في الأردن تتمتع بنفوذ هائل تكاد معه تعتبر الحكومة الموازية في البلاد. لم يرق للمخابرات الأردنية استخدام السبهان لسفارة السعودية في الأردن كقاعدة لحياكة المؤامرات ضد العراق. وذلك أن الأردن يتمتع بعلاقات دافئة مع بغداد، خاصة بعد أن بدأ عادل عبد المهدي يزود المملكة باحتياجاتها الملحة من النفط.

وبشكل أو بآخر، تم تسريب ما جرى خلال اللقاء إلى رئيس الوزراء العراقي. في ذلك الوقت، كانت العلاقات بين عادل عبد المهدي والمملكة العربية السعودية جيدة، ولا أدل على ذلك من أن محمد بن سلمان فتح أبواب الكعبة في مكة أمام الزائر الوجيه، وطلب منه أن يكون وسيطهم مع إيران. شعر رئيس الوزراء في قرارة نفسه بالانزعاج، ولكنه لم يكن يعرف حينها مدى جدية المشروع وما إذا كان يحظى فعلا بمساندة ولي العهد. لم يمكث عادل عبد المهدي طويلا حتى أثار موضوع اللقاء الذي جرى في عمان مع ولي العهد في الرياض.

ويذكر أن التوترات الطائفية قد تراجعت في عهد رئاسته للوزراء، وهو الذي بادر إلى سحب مليشيات الحشد الشعبي الشيعية من مراكز المدن والبلدان السنية، وتفاخر بأنه عمل على ضمان ألا يتعرض أهل السنة للاعتقال بشكل غير قانوني على أيدي القوات الحكومية.

ولكن تارة أخرى تجري حياكة مؤامرة من وراء ظهره من شأنها أن تؤجج التوترات الطائفية من جديد، وقد تؤدي على المدى البعيد إلى تقطيع أوصال البلاد. عندما تمت مواجهة محمد بن سلمان، لم يكن منه إلا أن كذب، كما هي عادته، فقد قال لعادل عبد المهدي إن الخطة “كلام فارغ”، وأنه سيأمر رجاله بالانتهاء عما كانوا يفعلون. إلا أن الاجتماعات ما لبثت أن استؤنفت، وبعد بضعة أسابيع عقد اجتماع أكبر في عمان، حضره هذه المرة – كما تقول مصادري – ممثلون عن الولايات المتحدة وعن إسرائيل. لم يصرح المندوب الأمريكي بدعم علني ولم يحضر سوى جزء من اللقاء، ربما لم يتجاوز حضوره الساعة، ولكنه قال لنظرائه السعوديين: “إذا كنتم قادرين على فعل ذلك، فهو أمر مرحب به.” إلا أن التوترات الأخيرة ما لبثت أن غيرت المعادلة، وأصبحت واشنطن الآن مؤيدة للخطة بشكل كامل.

والأهم من ذلك أن مندوبا عن الإمارات العربية المتحدة كان حاضرا في اللقاء الثاني في عمان، وكان المقصود من ذلك إعلام البرلمانيين العراقيين الحاضرين بأن ملف مشروع الأنبار قد انتقل من أيدي السعوديين إلى أيدي حلفائهم الإماراتيين. كما سمح ذلك لولي عهد السعودية بأن يزعم بألا علاقة له بتلك الخطة. وافق الاجتماع الثاني في عمان على منح الدعم الكامل للحلبوسي، رئيس البرلمان العراقي، فيما كان يبذله من جهود لإضعاف الحكومة وللقيام باستمرار بإثارة قضية السنة الذين تعرضوا للاختفاء بعد توقيفهم على نقاط التفتيش الحكومية، وهي القضية التي يحقق فيها مجلس القضاء الأعلى في العراق.

ناقش المجتمعون في عمان سبل “إعادة تحشيد” الرأي العام السني ضد الحكومة في بغداد. وكما حصل من قبل، تم تسريب الاجتماع الثاني إلى الحكومة في بغداد، التي قررت هذه المرة إرسال مبعوث أمني رفيع المستوى للاجتماع بالسعوديين. حصلت مواجهة خلف الكواليس في باريس. وعن ذلك قال مصدر حكومي عراقي: “حينها فقط أدركت الحكومة العراقية أن السعوديين كانوا جادين وأنهم لا يسمعون.” وأضاف: “قلنا لهم: كيف سيكون شعوركم لو استقبلنا في بغداد نشطاء سياسيين من منطقتكم الشرقية الشيعية، وناقشنا معهم سبل إعلان استقلالهم عن الرياض؟” لا أن الاعتراضات العراقية لم تجد نفعا.

ثم عُقد اجتماع ثالث في دبي. وقد تم نشر قائمة بأسماء الأشخاص الذين حضروا اللقاء، وعلى نطاق واسع. كان الحلبوسي حاضرا هذه المرة بالإضافة إلى عدد من أعضاء البرلمان السنة، ورجل أعمال يملك قنوات تلفزيونية وأحد زعماء الأحزاب. على الرغم من أن الحلبوسي نفى على الملأ أن خطة إقامة إقليم سني مستقل ذاتيا قد طرحت للنقاش أو أنه تم الاتفاق على الشروع في ذلك، إلا أن غيره من أعضاء المجموعة ما لبثوا أن بدأوا بالبوح بتفاصيل ما جرى وكشف المستور.

كان أبرز المتحدثين من داخل هذه المجموعة النائب عن محافظة الأنبار فيصل العيساوي، الذي قال إن “خطوات عملية” بدأت باتجاه تشكيل إقليم مستقل ذاتيا، على نسق كردستان العراق في شمال البلاد. وقال العيساوي في حديث مع موقع روداو، إن فكرة إنشاء إقليم سني مستقل ذاتيا، كانت مما أوحى به النجاح الذي حققته كردستان وأضاف: “الأقاليم حالة دستورية متطورة وأغلب دول العالم تعتمد عليها في توزيع الصلاحيات وتخفيف العبء عن المركز”. رفض مسؤول في مكتب رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تأكيد أو نفي التقرير الذي ورد حول المحادثات. في تلك الأثناء، نفى الحلبوسي علانية أنه تم مناقشة خطط لتقسيم العراق، أو أنه تم الاتفاق على الشروع في ذلك.

العواقب

رغم أن هذا المخطط اكتسب بعض الزخم خلال الأسابيع القليلة الماضية، إلا أنه سابق على عملية اغتيال قاسم سليماني وعلى أزمة الصواريخ مع إيران. ومع ذلك فقد ردت إيران عليه بعنف مؤخرا فقط. بمجرد أن علمت طهران أن الإماراتيين استلموا ملف الدفع باتجاه إقامة جيب سني مستقل ذاتيا في غرب وشمال العراق، أعلنت بوضوح بعد أيام من مقتل قاسم سليماني بأن القواعد الأمريكية الموجودة في الأراضي الإماراتية سوف تعتبر أهدافا مشروعة.

لا يقلل تقريري هذا من شأن القوى الداخلية القوية المتدافعة في العراق، ولا من شأن المناورات التي تجري بشأن اختيار الحكومة العراقية القادمة ورئيس الوزراء فيها. لا ينبغي إطلاقا وصف القوى السياسية داخل العراق بأنها مجرد أحجار على رقع الشطرنج التابعة لدول الجوار، كما تعلم إيران جيدا لسوء طالعها. ومع ذلك، فإن الاجتماعين السريين اللذين عقدا في عمان ثم الاجتماع الذي اعترف على الملأ بعقده بعد ذلك في دبي، تشهد بأن ولي العهد السعودي عازم على فرض حكمه ونفوذه على المنطقة أيا كانت العواقب.

وكما رأينا حتى الآن في اليمن، لا يعتبر تفتيت الدولة بالضرورة من العواقب غير المتوقعة لحملة عسكرية جنحت عن سواء السبيل، بل يمكن لعملية التفتيت تلك أن تكون إحدى الأهداف التي تعمل على تحقيقها مثل تلك الحملة. سوف يفرض الملك القادم حكمه أيا كانت التكلفة، وحتى لو كان ذلك وسط الأنقاض، إذا اقتضت الضرورة. وفيما لو أتيح له تحقيق مراده في الأنبار، فسوف يكون العراق دولة أخرى من بين الدول التي حولها إلى ركام.

*ديفيد هيرست ، مدير تحرير ميدل إيست آي، وكبير الكتاب في الجارديان البريطانية سابقاً .

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى