أقلام وأراء

مهند عبد الحميد يكتب – تفكير بصوت عالٍ

مهند عبد الحميد

نعيش مع تناقضات فلسطينية داخلية لا حصر لها، والسبب يعود للصراع المحتدم مع الاحتلال على الأرض، وللاستجابات الفلسطينية المتباينة والمتعارضة، يحدث ذلك في غياب اتجاه مركزي يستنبط المشترك ويفتح الأبواب أمام الأكثرية لدخول البوتقة الوطنية، والانخراط في حل التناقض الرئيسي مع المستعمِر (الاحتلال). بعد الإعلان عن صفقة القرن وخطواتها المتتالية التي كان آخرها اتفاقات التتبيع العربية مع دولة الاحتلال، حدث مستوى من التقارب والتناغم وسط النخب السياسية على اختلاف ألوانها، ولكن بعد سقوط ترامب وفوز بايدن تلاشى التقارب والتناغم، أو بعبارة أخرى انتهى شهر العسل، وارتفع صوت الصراع الداخلي على حساب الصراع مع تجليات صفقة ترامب نتنياهو على الارض. كان من المفترض ان يُحدِث سقوطُ ترامب راعي الصفقة الأميركي انفراجة فلسطينية تشمل كل الذين قاوموا ورفضوا مشروع التصفية، لكن حدث العكس وتأزم الموقف. لماذا عُدنا الى الوراء؟
كانت المفاجأة، إعلان رسمي بالعودة الى الاتفاقات مع دولة الاحتلال، واعتبار ذلك انتصاراً او إنجازاً فلسطينياً، في الوقت الذي واصلت فيه حكومة الاحتلال إجراءات التوسع الاستيطاني وكثفت جهودها لتطوير بنية تحتية تعزز ربط وضم المستعمرات ومناطقها بإسرائيل، وباستمرار ممارسة أشكال من التطهير العرقي في منطقة الأغوار وأجزاء أساسية من المنطقة (سي) لدواعي ضمها. هذا يعني ليس فقط عدم وجود تراجع إسرائيلي عن الضم، بل بوجود إمعان إسرائيلي في مزاولة وتكريس الضم على الأرض. لقد جرى تجاهل حقيقة ان صفقة القرن استندت للوقائع الاستيطانية على الارض، وللسيطرة العملية على الموارد الفلسطينية، وللقواعد والمواقع العسكرية كأداة للسيطرة الدائمة. وما فعله كوشنير وفريقه في مشروع صفقة القرن هو محاولة ترسيم المتغيرات التي أحدثتها إسرائيل على الأرض بقرارات أميركية إسرائيلية، علماً أن الترسيم قضية مُختلَف عليها داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، عدا عن كونها مرفوضة دولياً، يقول جنرالات الاحتلال، لا تحتاج سيطرتنا وضمنا للأجزاء الحيوية من أراضي الضفة، الى ترسيم يُعرض إسرائيل لضغوط ومشكلات هي في غنى عنها. لا يهم الترسيم راهناً لطالما هو متحقق على الأرض، وقد يحتاج الى إشهار بعد وقت قد لا يكون طويلاً. لهذا السبب جاء في اتفاق الامارات مع اسرائيل تعليق الضم وليس إلغاءه.
المعركة التي لا مناص من خوضها فلسطينيا، في عهد إدارة بايدن هي مصير الوقائع التي صنعها الاحتلال وكان الهدف منها تقويض الحل السياسي الذي ينهي الاحتلال. ان بقاء الوقائع والاستمرار في تعميقها وتشريعها قاد ويقود الى حل صفقة القرن (أرخبيلات حكم ذاتي محدود تحت سيادة الاحتلال). بعد سقوط ترامب يطرح سؤال: ما هو مصير الوقائع لطالما انه لا يمكن الجمع بين وقائع الهيمنة الاسرائيلية والحل السياسي المنشود؟ الوقائع الاستعمارية أفضت الى حل الصفقة المدمر، وزوالها سيفضي الى حل الدولة الفلسطينية. بدون ذلك لا تتغير قواعد اللعبة السياسية. المساران على طرفي نقيض، ولا يتبدل الواقع بأقوال تتحدث عن تفاوض ودولة ومؤتمر دولي. أقوال حتى لو كانت تنطوي على عدل بلا أفعال، تعني إدارة الصراع لمصلحة الاحتلال الطرف الذي يصنع الحقائق على الأرض، يعني استكمال صناعة الوقائع والهيمنة على الارض بغطاء دولي وعربي وفلسطيني وصولا الى الترسيم. المؤتمر الدولي مع بقاء حقائق الهيمنة على الأرض دون تراجع لا يؤدي الى الحل. لقد اعترف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بالفشل في إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي في كتابه «ارض الميعاد»، وبنجاح نتنياهو في التحدث باسم الأميركيين اليهود ومنظماتهم. وهذا يعطي مؤشرا على سقف التوقعات من إدارة بايدن والتي تشير تجربة أوباما ومختلف التقديرات بأنها لا ترقى الى ممارسة ضغط على الحكومة الإسرائيلية.
تغيير قواعد اللعبة السياسية لمصلحة تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة، له صلة بموازين القوى السياسية والاقتصادية المناهضة والرافضة للاحتلال والمؤيدة والداعمة للحقوق الفلسطينية المشروعة. إذا أخذنا بالاعتبار أن المشروع الوطني الذي بدأ في سبعينات القرن العشرين، تأسس على ميزان قوامه الدعم الدولي المتأتي من الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، ومن الاتحاد الأوروبي، ثم اختزل العامل الدولي بعد الانهيار الاشتراكي بوصاية أميركية منحازة لإسرائيل، واعتمد ميزان القوى بالدرجة الثانية على الدعم العربي الذي كان يتبنى ويؤيد المواقف الفلسطينية، لكن هذا العامل شهد تحولات كان فصلها الجديد موجة التتبيع الخليجية والعربية المنفلتة من أي ضوابط والتزامات ومواقف مشتركة سابقة، موجة اندلاق خليجية على دولة الاحتلال. موقف جامعة الدول العربية كان صادما عندما أمن الغطاء لاتفاق الإمارات مع إسرائيل وتمرد على فلسطين، هذا الموقف طرح ضرورة إعادة تعريف الموقف العربي الرسمي، الذي لم يقتصر على الانفكاك عن القضية الفلسطينية، بل وكأنه يكافئ دولة الاحتلال على جرائمها وانتهاكاتها وتنكرها للحقوق المشروعة المكفولة بقرارات الأمم المتحدة وبالقانون الدولي. كانت الاتفاقات التجارية الإماراتية والبحرانية، مع مستوطنات ومستوطنين، وكان تبني البعض الخليجي للرواية الإسرائيلية المؤسسة على الأساطير، يفوق اقصى التقديرات الإسرائيلية تفاؤلاً. التحول في الموقف العربي قوض الركيزة الثانية للمشروع الوطني بالمفهوم الرسمي الفلسطيني. وإذا أخذنا بالاعتبار التحولات الاسرائيلية نحو اليمين القومي والديني، وتبلور معسكر إسرائيلي متطرف، يرفض الحقوق الفلسطينية جملة وتفصيلا ولا يعترف بأي مرجعية غير التوراة.
على ضوء انهيار الركائز الدولية والعربية للمشروع الفلسطيني، وفي غياب طرف إسرائيلي يقبل ويعترف بالحقوق المشروعة الفلسطينية. وطالما ان قواعد اللعبة السياسية لا تتغير الا بموازين قوى مؤثرة، فإن هذا يطرح إعادة بناء العامل الذاتي الفلسطيني، من هنا يبدأ التأثير في المواقف الدولية والعربية والإسرائيلية التي لا يمكن التسليم بأنها تحولت الى الضد. المقصود هنا المجتمعات العربية ومجموعات إسرائيلية تعترف بالحقوق الفلسطينية ومنظمات ومؤسسات وحركات اجتماعية وأحزاب ونخب على صعيد كوني. ان العودة الى المسار التفاوضي في ظل التحولات المشار اليها لا يعطي اكثر من خطابات تأييد ووعود كلامية بالحل وبعض الدعم المادي في الوقت الذي تقوم فيه قوات الاحتلال باستثمار الوقت لاستكمال صناعة الوقائع الاستعمارية. لقد بدا المستوى السياسي «صاحب القرار» وكأنه ينسحب من المهمة الداخلية ويعود الى البحث عن حل تفاوضي برغم افتقاد الركائز العربية والدولية او ضعضعتها. تراجع خطاب الحوار الداخلي وضاق هامش التعبير عن الرأي في مسألة مصيرية، تراجع الاهتمام بالانتخابات واستحقاقاتها، تراجع الاستعداد النظري لإعادة بناء المؤسسة. السؤال الأهم، هل تستطيع القيادة البقاء في مسار أوسلو في الوقت الذي تهجره او لا تثق به النسبة الأكبر من المواطنين ؟
mohanned_t@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى