أقلام وأراء

مهند عبد الحميد: حول الإنقاذ الوطني والتغيير

مهند عبد الحميد 2022-08-02

تقدم د. ناصر القدوة ومجموعة من الشخصيات الوطنية بمبادرة للإنقاذ الوطني، بهدف الدفع نحو حالة وطنية تنجز تغييراً واسعاً وعميقاً في النظام السياسي الفلسطيني. والمبادرة تدعو إلى تشكيل هيئة انتقالية لإنجاز التغيير وإعادة البناء، وتدعو كذلك إلى لقاء وحوار وطني يقود إلى توافق وطني، وإلى إعادة انتخاب مجلس وطني وتشكيل حكومة جديدة.

لا يختلف كثيرون حول أهمية الخروج من المأزق، ويتفق كثيرون على الأسباب والمخاطر التي تترتب على استمراره، ولمّا كان استمرار الحال من المحال، فإن الوضع المرشح – في حال الاستمرار – هو الدخول في مرحلة الانهيار المؤسسي. لكن سؤال الخروج من المأزق يبقى شائكاً.

في مقدمة ذلك يبرز سؤال: هل يمكن لمجموع المأزومين الذين ينتمون إلى بنية مأزومة أن يتوافقوا على الحل؟ واقع الحال عندما لا يتوفر طرف من خارج البنية المأزومة العابرة للتنظيمات، فإن المستهدف من المبادرة هي التنظيمات، ولا يغيّر هذا الهدف إضافة المواطنين والتجمعات. نظرياً، الطرف غير المأزوم، الذي تناط به المبادرة إلى التوافق، هو مجموعة مستقلة تتعامل مع الكل الفلسطيني بمسؤولية تستند إلى ميزان قوى جماهيري ونخبوي ضاغط ومؤثر، فضلاً عن تمتعها بمصداقية نابعة من المصلحة الوطنية العليا.  

ما يجعل الإنقاذ ضرورياً حقيقة أن دولة الأبارتهايد الاستعماري تراجعت عن فكرة التقاسم الوظيفي الذي يحيل حكم السكان لسلطة فلسطينية، مقابل استحواذها على السيادة والسيطرة التامة على الإقليم. التحوّل الإسرائيلي حدث بدعم أو تواطؤ أو صمت دولي وعربي رسمي.

في هذا الصدد، كشف تقرير منظمة جنود «لنكسر الصمت» عن آلية جديدة للسيطرة الإسرائيلية المباشرة على الفلسطينيين، من خلال حزب الإدارة المدنية أو حزب المنسق. (عميرة هس – «هآرتس»). بهذا المعنى يجوز القول: إن دائرة القوى الفلسطينية، التي لها مصلحة حقيقية في الخروج من المأزق، تتسع وتتمركز حول حركتَي «فتح» و»حماس».

الخروج من المأزق يبدأ بوحدة كل القوى المتضررة من خطر التصفية والانهيار، خاصة التنظيمَين الحاكمَين، لذا يجدر التوقف عند عائقَين كبيرَين. ودون اختراقهما جزئياً أو كلياً من قبل التنظيمين، فإن كل كلام عن التوافق يبقى كلاماً. العائق الأول هو امتلاك حركة «فتح» المنظمة الشرعية الفلسطينية ومركز القرار بدعم عربي ودولي رسمي. تلك الشرعية التاريخية التي ما زالت مغرية للاستمرار من قبل الفئات المستفيدة والنافذة. ولكنْ هناك فرق بين استمرارية مشروعة مغطاة بدعم وثقة شعبية كما كان عليه الحال قبل ما ينوف عن عقد زمني، تلك الاستمرارية تحتاج راهناً إلى إصلاحات تتيح التغيير والتجديد الديمقراطيين.. وبين استمرارية غير مغطاة بدعم وثقة شعبية، حيث تتم الاستعاضة عنهما بسيطرة سلطوية قامعة وبتعاقدات الولاء النفعي وبإجازات إقليمية. هنا يقع على عاتق تنظيم «فتح» مسؤولية تاريخية في عدم الوصول إلى استمرارية الحكم والسيطرة بمعزل عن ثقة المواطنين، وبمعزل عن إصلاح وتجديد يستطيعان استعادة الثقة الشعبية، ذلك أن استمرار حكم «فتح» المترهل، والمنزوع الصلاحيات من قبل دولة الاحتلال، يعني وضع نهاية مأساوية لدور حركة «فتح» التحرري، ولا أخال أن الجسم الأكبر في حركة «فتح» وقواعدها الاجتماعية يقبل بذلك.. هل يمكن إزالة هذا العائق من أمام الإنقاذ؟

العائق الثاني يتمثل في عدم امتلاك حركة «حماس» للشرعية الفلسطينية والعربية والدولية، حيث يتم التعامل مع الحركة «كتنظيم إرهابي» خارج القانون. وفي أحسن الأحوال، فإن امتلاك حركة «حماس» للشرعية العربية والدولية يستدعي المرور بسلسلة من مواقف وتغييرات من شأنها دخول الحركة في مسار أوسلو بأردأ نسخة له. يذكر أن الحركة دخلت المسار الأصلي منذ مشاركتها الانتخابات على قواعد اتفاق أوسلو، لا سيما ضبط الأمن الحدودي، واستحواذها المطلق على قرار المقاومة والتهدئة. يضاف إلى ذلك رسوب «حماس» في المسألة الديمقراطية، فتجربتها في قطاع غزة خلت من الانتخابات، وبقيت معتمدة على كتلتها في المجلس التشريعي سارية المفعول رغم حل المجلس، وتلجأ إلى قمع أي حراك مطلبي، وتتعامل بفئوية مفرطة في ظل امتثالها المعلن غير المعلن لمركز الإخوان المسلمين الإقليمي والدولي. أما في المسألة الاجتماعية، فتنتمي «حماس» إلى المدرسة المحافظة المتزمتة، التي تبتعد بفلسطين عن كونها جزءاً من المجتمع الدولي وأنظمته الإنسانية والديمقراطية المشتركة. كل هذه المواصفات تجعل من «حماس» بديلاً غير مأمون الجانب سياسياً وديمقراطياً، وما لم تُدخل «حماس» تعديلات جوهرية على سياساتها ومواقفها، فإن التوافق معها يفقد وظيفته التغييرية.

إذا لم يحفز الخطر الخارجي الداهم كلا التنظيمَين أو أحدهما، للتراجع عن أشكال السيطرة والاستفراد، فإن ذلك يعني استمرار الرهان على عوامل خارجية للبقاء في سدة حكم دون صلاحيات، باستثناء صلاحية القمع. من دون تراجع التنظيمين جزئياً أو كلياً، يظل التوافق حبراً على ورق، وبنداً لعلاقات عامة مع دول عربية وعالمية. وتصبح الهيئة الانتقالية هيئة لحوار الطرشان. لأن الأهداف غير المعلنة هي بقاء «فتح» في الحكم إلى ما لا نهاية، أو وراثة «حماس» للشرعية واستدامة سيطرتها بغطاء شرعي.

هل يمكن تشكيل مجلس وطني بالانتخاب وبالتوافق؟ نظرياً، نعم. غير أن التشكيل يمر عبر انتخاب مجلس تشريعي أولاً، وانتخاب الاتحادات الشعبية ولجان المخيمات، والمجالس البلدية والمحلية، وممثلي الجاليات والنقابات. لحسن الحظ، فإن تجربة الانتخابات في بعض الاتحادات والنقابات، كنقابة المحامين، تشجع على المضي في عملية التصويب. فثمة أهمية للمضي في انتخاب ممثلين حقيقيين يتولون مهمة الدفاع عن المصالح الخاصة بكل مهنة، والقضية العامة في الوقت ذاته. وإذا ما انتقل الحراك الانتخابي الديمقراطي إلى اتحاد المرأة والكتاب والصحافيين والمعلمين والطلبة، بعيداً عن نظام الكوتا، وتجاوز التحول الرجعي المتمثل بالانتقال من بنية الأحزاب إلى بنية العائلات والعشائر، فإننا نكون قد عبرنا عملية التغيير. نعم الحراك الديمقراطي الانتخابي سيبني لبنات الديمقراطية في المجلس التشريعي والمجلس الوطني، وبهذا لن يتكرر إنتاج البنية المأزومة العاجزة عن توحيد الشعب، والعاجزة عن مواجهة الخطر الداهم.  

بعد الجمود والتشوّه الذي اعترى العملية الديمقراطية، يبدو أن التغيير الحقيقي سيكون بطيئاً، وعبر تراكم النقاط، وبمبادرات من قلب الحراكات الاجتماعية المتزايدة، وبحاجة إلى مبادرات من داخل الجامعات والتعليم والأكاديميا والثقافة والفنون، وفي أوساط العمال والعاملات. التغيير الحقيقي بدأ يأتي من تحت، وبالقدر الذي يتطور هذا النوع من التغيير بالقدر الذي نكون فيه أقوياء في مواجهة كل أنواع الغطرسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى