#أقلام وأراء

من هي قوى الثورة المضادّة ؟ الجيوش أم النظام القديم أم الجماعات الإسلامية؟

صقر ابو فخر 20-9-2021م

أُطروحة الثورة والثورة المضادة مشهورة جدًا في التاريخ السياسي، وفي تاريخ النظريات السياسية في الوقت نفسه. وقد تطوّرت بالتدريج وبالتراكم المعرفي، حتى باتت مسألة تُستعاد في كل مرة تُهزم فيها ثورة منتصرة. والعودة إلى هذه الفكرة حتمية في بلادنا العربية اليوم، خصوصًا في خضم الوقائع الجارية في تونس، وموقع حركة النهضة في الانتكاسات المتلاحقة، ومسؤوليتها عن المصير الذي آلت إليه تونس و”النهضة” معًا، وكذلك في المغرب بعد الهزيمة الساحقة لحزب العدالة والتنمية. وفي السياق نفسه، يمكن الاقتراب من تحوّلات الأوضاع في ليبيا، وانكماش فاعلية الإخوان المسلمين إلى حد التلاشي، لولا الدعم العسكري التركي المباشر. وهذه المقالة تُفصح، ولو بشكل أولي، عن أن الجهاز القديم للدولة والمصالح المرتبطة به، علاوة على الجماعات الإسلامانية، هي ما ينطبق عليها كلها مصطلح “الثورة المضادّة”، ولا سيما بعد الإخفاق المعمم في إدارة شؤون الدولة في مصر وتونس وليبيا والمغرب. والجماعات الإسلامية بما فيها “الإخوان المسلمون”، على سبيل المثال، يمكنها، في أحوال ملائمة، أن تتسلّم السلطة في هذا البلد أو ذاك، لكنها لا تستطيع الاحتفاظ بها ألبتة، وليس في إمكانها أن تُدير الدولة ومؤسساتها بطريقة أكثر فاعلية من السلطة السابقة المهزومة.
إبّان ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، استقر في الأذهان أن قوى الثورة المضادّة تُقتصر على بقايا النظام القيصري وضباطه ومليشياته (الروس البيض)، ومُلّاك الأرض والفلاحين الميسورين (الكولاك) والرأسماليين. وكان البرنامج السياسي والاجتماعي للبلاشفة آنذاك يُبشّر بالعدالة الاجتماعية (الاشتراكية)، ويدعو إلى القضاء على الإقطاع والرأسمالية، واجتثاث النظام القيصري ومؤسساته ورجاله. لكن قائد ثورة أكتوبر، لينين، اختار، بوعي كامل، سياسة “النيب” New Economic Policy التي تقوم على تشجيع عودة المستثمرين الرأسماليين، ولا سيما غير الروس، إلى الاستثمار في روسيا. وتعكس هذه المفارقة مقدار الاصطدام بالواقع ومدى إكراهات الواقع التي تفرضها الأحوال المتغيرة على القوى السياسية، حتى على التي تزعم إنها تنتمي إلى التغيير. ولينين نفسه، ومعه ليون تروتسكي قائد الجيش الأحمر، سحق التمرّدات الشعبية التي انتفضت احتجاجاً على مصادرة القمح من الفلاحين، وعلى نقصان الخبز والسلع الغذائية، وعلى إنهاء المؤسسات التمثيلية الثورية، مثل السوفياتات، كما جرى في بتروغراد في مارس/ آذار 1921. إذاً، مَن هي الثورة المضادة إذا لم تكن الإجراءات التي اتخذها لينين بنفسه، والتي أدت، لاحقاً، إلى استيلاء ستالين على السلطة، واستخدام القوة القاهرة الدموية لإدامة سلطاته؟

الجيش والتغيير
تقدّم لنا حركات الاحتجاج العربية التي اندلعت في عام 2010 درسًا نظريًا وسياسيًا في تاريخ الحركات السياسية العربية، وهو أن المؤسسة العسكرية هي القوة الحاسمة في أي تغيير، لا القوى السياسية التي ترفع شعار التغيير والإصلاح والعدالة؛ فتلك القوى السياسية يمكنها أن تدفع الأمور نحو التغيير، أو أن تساهم في إطلاقه، لكنها قلما تمكّنت من إدارة الشؤون العامة ومصالح الناس ما بعد التغيير، وهي فشلت في ذلك في معظم الأحيان، وتحوّلت، جرّاء فشلها، إلى واحدة من قوى الثورة المضادّة أو، في أحسن الأحوال، إلى قوة معيقة للتقدّم والإصلاح، ولم تستفد من معادلة “الإسلام + الديمقراطية” التي حظيت بدعم أميركي مكشوف.

في تونس وقف الجيش إلى جانب المحتجين في عام 2010، فسقط الرئيس زين العابدين بن علي. وفي مصر اتخذ الجيش موقف الحياد غير الإيجابي بين المحتجين والرئيس حسني مبارك في سنة 2011 فسقط مبارك. وفي عام 2013 وقف الجيش إلى جانب المحتجين على حكم الرئيس محمد مرسي، فسقط محمد مرسي. وتفكّك الجيش في ليبيا فانتهى حكم معمر القذافي. ووقف الجيش إلى جانب الرئيس قيس سعيّد فطار راشد الغنوشي من البرلمان. ولم يقف الجيش إلى جانب المحتجين في سورية فسقط الجميع وبقي النظام السياسي، ودفعت سورية أثمانًا باهظة جدًا جراء استعصاء الحسم بين النقائض.

أمراء الفشل
من الصعب، بل ربما من المحال، أن نعثر على جماعة سياسية عقائدية تستلذّ بالفشل مثل الجماعات الإسلامانية، ومنها الإخوان المسلمون وردائفها العجيبة مثل حزب التحرير الاسلامي وحركة النهضة وجبهة العمل الإسلامي في الأردن وحزب العدالة والتنمية في المغرب. ومع ذلك، قلما أعادت تلك الجماعات النظر في أفكارها وتجاربها واتجاهاتها وسياساتها. وكل ما قامت به هو تكتيكات تراجعية بسيطة هنا وهناك، مثل قبولها صيغة “الدولة المدنية”، وهي صيغة مُلفّقة تُضمر هروبًا من “الدولة الديمقراطية” العَلمانية الطابع. والإخوان المسلمون ضد مبدأ الديمقراطية عقيديًا، لأن الديمقراطية تعني، بالتعريف البسيط، حكم الشعب للشعب بواسطة الدستور. أما “الإخوان” فهم يريدون إقامة حكم الله بواسطة الشريعة في دولة مؤسّسة على منهج الخلافة الراشدة. ومع أن الإخوان المسلمين باتوا، منذ فترة قصيرة، يتحاشون استعمال مصطلحاتهم القديمة، كالخلافة والدولة الراشدة والإحياء والوسطية وأسلمة المجتمع وأسلمة المعرفة وإشاعة التربية الاسلامية وتكفير الدول والنظم السياسية الحاكمة، إلا أنهم اعتقدوا، منذ فترة قصيرة أيضًا، أي منذ عام 2011 فصاعدًا أنهم قادرون على إقامة هلال إسلامي يصل أوروبا بأفريقيا، أي أنه يمتد من تركيا إلى المغرب حيث أردوغان يحكم تركيا، ومحمد مرسي يحكم مصر، وغزّة تحكمها حركة حماس، ومصطفى عبد الجليل وخالد المشري يحكمان ليبيا، وتونس يحكمها راشد الغنوشي والمغرب يحكمه حزب العدالة والتنمية، ولا يبقى غير الأردن وسورية كي يكتمل الهلال الأخواني. وتوهّموا، فوق ذلك، أن سورية ستسقط حتمًا كالثمرة الناضجة بين قرني ذلك الهلال المتخيل، وحينذاك يصبح مصير الأردن ولبنان مجرّد وقت، وكذلك مصير السودان والجزائر. وكثيرًا ما اعتقد الواحد منهم أنه سيأتي بالضبع من ذيله، لكن الزمان دولاب سريع الانقلاب، فقُلّمت أظافرهم بسهولة فائقة في مصر وتونس والسودان وليبيا، وعصيت عليهم الجزائر وسورية، وباتوا بلا تأثير جدّي في الأردن ولبنان، وصار العراق، بطبيعة الحال، خارج حساباتهم، وها هي هزيمتهم في المغرب تطنطن بأجراسها، فانحطوا من 125 مقعدًا نيابيًا والمرتبة الأولى في سنة 2016، إلى 13 مقعدًا والمرتبة الطش في سنة 2021، ولم ينفعهم أنهم كانوا ملوك التطبيع مع إسرائيل لإرضاء الملك وحاشية القصر معًا.

تجربة الإخوان المسلمين ناجحة جدًا في إقامة العلاقات العامة، وفي تأسيس شركات الأموال، وفي الإعلام إلى حد ما، لكنها فاشلة جدًا في حقول الفكر المعاصر وفي ميدان السياسة. وعلى سبيل المثال، كان أول تبشير لهم في ليبيا بعد سقوط معمّر القذافي هو إعادة العمل بتعدّد الزوجات (ما شاء الله). وفي تونس تجرأ راشد الغنوشي على القول في ندوة عقدها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إن حل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي يعود إلى الطرفين (…). أنا مهتم بتونس فيما الآخرون مهتمون بفلسطين أو ليبيا. الكل مهتم بمصلحته الخاصة، ومصلحتي هي تونس (السفير، 3/12/2011). وامتدح الغنوشي في الندوة نفسها موقف حلف الناتو والموقف الأميركي من الحدث التونسي. وقد اعتُبر هذا الكلام انقلابًا على المواقف التقليدية لحزب النهضة من قضية فلسطين، وخنوعًا أمام الولايات المتحدة و”الناتو” وسياستهما المعهودة في بلادنا. وفي مصر كان إصدار الرئيس محمد مرسي الإعلان الدستوري في 22/11/2012 الذي نص على تحصين قرارات الرئيس من الطعن بها أمام أي جهة قضائية، ثم مبادرته إلى عزل النائب العام غير القابل للعزل بموجب القوانين المصرية المستقرة، في منزلة المحراك الذي حرّك الاحتجاجات الجامحة، ودفع المجلس الأعلى للقضاء والمجمع الأعلى للكنيسة الإنجيلية واتحاد الكتاب المصريين والمفوضية السامية لحقوق الإنسان في جنيف وحركة تمرد المؤلفة حديثاً وجبهة الإنقاذ الوطني التي ضمت 35 حزباً وحركة سياسية إلى التنديد بهذا الإعلان، وانقسم الشارع المصري الثائر إلى فسطاطين، الأمر الذي جعل الجيش ينتهز الفرصة ليقطف ثمرة الإعلان الدستوري الفاشل، ثم يحسم الأمر في 3/7/2013، ويستولي على السلطة بتأييد من شيخ الأزهر وبابا الأقباط.
في فلسطين، وبالتحديد في قطاع غزة الذي استولت عليه حركة حماس بانقلاب عسكري في 14/6/2007، لم تقدّم “حماس” أي طرازٍ راقٍ للحكم، وكان عليها أن تحكم بطريقة أفضل من حكم السلطة الوطنية في الضفة الغربية، كي تصبح المقايسة أو المعايرة ممكنة، لكنها أظهرت نفسها غير صالحةٍ للحكم ولإدارة شؤون الناس؛ فمن أين للمشايخ المقدرة على إدارة المجتمعات بطريقة عصرية؟ وقديمًا قالوا للجمل: زمّر، فأجاب، لا شِفّة مطبوقة ولا أصابع مفروقة، فمن أين لي القدرة على التزمير؟ والإسلاميون المعادون للغرب، بحسب المُعلن والظاهر، لم يتورّعوا عن مناداة حلف شمال الأطلسي بأعلى أصواتهم كي يتدخل في ليبيا، وكرّروا النداء نفسه للتدخل في سورية. وبهذا الموقف، صار التدخل الخارجي أمراً معتادًا بعدما كان شأنًا مرذولاً في حقبة جمال عبد الناصر، أي في حقبة الاستقلال العربي غداة الحرب العالمية الثانية فصاعدًا؛ وبهذه الصناعة كسدت البضاعة. والأخوان المسلمون إياهم استنكروا الانقلاب العسكري في مصر ومحاولة الانقلاب في تركيا، لكنهم كانوا قد أيّدوا الانقلاب العسكري في غزّة. وبعض الشظايا الإسلامانية هاجمت زيارة وزير الخارجية المصرية، سامح شكري، إسرائيل، وهي مستنكرة بالطبع، لكنها صفّقت طويلاً للاتفاق التركي – الإسرائيلي، حتى أن حركة حماس أرسلت إلى أردوغان رسالة شكر غداة ذلك الاتفاق، الأمر الذي أعاد إلى ذاكرتنا رسالة محمد مرسي إلى نتنياهو التي لم يتجرأ حتى أنور السادات على تضمينها عبارات المودّة والتفخيم التي حفلت بها تلك الرسالة، فكأن الضارب بالطبل يعيب على النافخ بالمزمار.

مكابح التغيير
قصارى الكلام هنا أن “الثورة المضادّة” لا تتجسد في قوى سياسية معروفة ومكشوفة دائمًا في مواجهة قوى الثورة، أي خندق في مقابل خندق. هذا تصوّر ساذج وغير صحيح وغير واقعي. الثورة المضادة هي أحد معوّقات الدينامية السياسية التي تطلقها الثورة في البداية، وهي أحد كوابح التحوّل من الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن الاقتصاد المريض إلى الاقتصاد الحيوي، ومن الاضطهاد الطبقي إلى العدالة الاجتماعية، ومن النهب المنظّم والفساد إلى المحاسبة والشفافية. لكن تلك الدينامية سرعان ما تبدأ في التباطؤ كحجر قُذف في الهواء، فيبدأ جهاز الدولة بالهلهلة، وتُسارع المجموعات الرجعية إلى التمايز عن قوى التغيير الجذرية والعصرية، وتحاول الاستيلاء على السلطة وحدها، وفرض أيديولوجيتها على المجتمع. وبهذا المعنى، الثورة المضادّة هي حالة سياسية اجتماعية عميقة ومتشعبة ومتراكمة ومتعدّدة الأبعاد، وهي تُظهر حيويتها لا في الخفاء، بل في سياق ثوري وتغييري؛ إذ لا ثورة مضادّة من دون ثورة. والثورة المضادّة حالة مخاتلة سياسيًا وفكريًا؛ فهي تدعو إلى التغيير والإصلاح، بينما هي معادية في الجوهر للتغيير الجذري وللإصلاح الحقيقي، ومناقضة لتصوّرات القوى الراديكالية عن التغيير والتطلع إلى المستقبل، لا إلى الماضي. وفي هذه الحال، يصبح من المحال الاندفاع نحو التغيير مع وجود قوى كابحة للتغيير، خصوصًا إذا تمكّنت قوى الكبح تلك من الوصول إلى السلطة (كما حدث في مصر)، أو استطاعت أن تنتزع لنفسها مكانة الشريك الأكبر في السلطة (كما حدث في تونس) حيث اعتُبرت الدولة غنيمة خالصة لحزب النهضة. وبدلاً من التصدّي لمهمات الإصلاح أغرقت “النهضة” مؤسسات الدولة بأنصارها؛ فقد كان عدد الموظفين العموميين في سنة 2011 نحو 370 ألفًا، فصاروا في سنة 2016 نحو 630 ألفًا، الأمر الذي جعل ميزانية الدولة تذهب في معظمها إلى الرواتب، وتوقفت مشروعات التطوير والتنمية والخدمات، وشُلّت الدينامية السياسية والحيوية الإدارية جرّاء ذلك، وعمّ الفساد السياسي والمالي حتى طمّ البلاد كلها. أما ما حصل في مصر وتونس فهو أن الجيش أسقط الثورة المضادّة لمصلحته وحده، ما يبرهن مجدّدًا أن الجيش ما برح هو المؤسسة الحاسمة في أي إصلاح أو تغيير في العالم العربي، أَكان ذلك تغييرًا نحو السالب أو نحو الموجب. وأعتقد أن الجيش في المغرب (والملك بالطبع) ساهم في هزيمة “العدالة والتنمية”، علاوة على صناديق اقتراع الشعب في سبتمبر/ أيلول الجاري.

الفشل والتحول إلى الثورة المضادّة
هل فشلت الجماعات الاسلامية؟ نعم، فشلت فشلاً ذريعًا بالتأكيد، وصارت كجادع أنفه بكفّه. ولا بد في هذا الحقل من التأمل في المثل الذي يقول إنّ من المحال استيلاد العقيم، والاستشفاء بالسقيم؛ فثوب الجماعات الإسلامية كلها، بما فيها جماعة الأخوان المسلمين وحزب العدالة والتنمية وحركة النهضة وحتى حزب التحرير، مرقّع ومهلهل، لا يصلح حتى لإعادة ترقيعه، ولا لاستخدامه في ترقيع الثياب المهلهلة؛ فبضاعتهم كسدت وتجارتهم أفلست، وصاروا، مثلما كانوا، ثورة مضادّة تماماً.
* * *
يُنسب إلى تشرشل كلام يقول: إن الحرب مسألة جدية جدًا وخطيرة جدًا بحيث لا يمكن تركها للعسكريين. وعلى هذا القياس، نقول إن الحكم والسلطة والسياسة وإدارة شؤون الدولة ومصالح الناس مسائل شديدة الأهمية، بحيث لا يُمكن أن تُترك للجماعات العقيدية كجماعة الإخوان المسلمين، ومن على غرارها ومثالها وهيئتها وقوامها من الجماعات الإسلامانية الأخرى.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى