شؤون إسرائيلية

من “الحسم” إلى “النصر”: عن الارتباك في المفاهيم العسكرية في إسرائيل (قراءة في دراسة جديدة)

عبد القادر بدوي – 5/7/2021

تُشكّل مفاهيم “الردع”، “الحسم” و “الإنذار المبكّر” المرتكزات الأساسية الثلاثة للعقيدة العسكرية- الأمنية الإسرائيلية التي أُرسيت أُسسها ومبادئها خلال خمسينيات القرن المنصرم، وعلى الرغم من الضرر الذي أصاب هذه العقيدة في الحروب المُتعاقبة التي شنتّها إسرائيل على الدول العربية، ولا سيّما حرب أكتوبر 1973، إلّا أنها تميّزت بالثبات نسبياً، حيث لم تسعَ لتطويرها كلياً انسجاماً مع المتغيّرات المستمرّة في البيئة الجيو- سياسية المحيطة بها. جدير بالذكر أن إسرائيل لا تمتلك نظرية أمنية- عسكرية مكتوبة وواضحة المعالم على غِرار ما هو موجود في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، بل يُمكن إدراك هذه النظرية والتعرّف عليها من خلال مجموعة المفاهيم والمبادئ الأمنية- العسكرية التي تتّبعها في حروبها، أو تلك التي يتم التنظير لها بواسطة الخبراء والمحلّلين العسكريين والأمنيين في هذا السياق.

إن الحروب التي شنّتها إسرائيل بعد حرب 1937، والتي استهدفت بشكل رئيس كيانات ومنظّمات (لا دولانية)، أجبرتها على التفكير بجدّية باستحداث آليات جديدة، كون هذه الكيانات والمنظمات تختلف كلياً عن الجيوش التقليدية، وبالضرورة وسائلها وأساليبها القتالية والدفاعية (نمط حرب العصابات)، الأمر الذي فرض ضرورة استحداث آليات ووسائل حربية جديدة تتناسب مع هذه المتغيّرات. غير أن هذا التوجه لم يحظَ باهتمام المستويين السياسي والعسكري إلا بعد حرب عام 2006؛ والتي فرضت مُجرياتها وأحداثها ونتائجها واقعاً جديداً على إسرائيل يختلف عن السابق، من حيث طبيعة المواجهة وآلياتها.

لم يفرض هذا النمط من الحروب (الموجّهة ضد المنظَمات الفلسطينية واللبنانيةاللادولانية) تغييراً في طبيعة المواجهة والوسائل والأساليب فحسب، بل حملت معها أيضاً اختلالات عصفت بالمفاهيم العسكرية نفسها، إذ لم تَعُد مفاهيم مثل “الردع” و”الحسم” تُشير إلى المعاني المتأصلة والمترسّخة في الذاكرة الإسرائيلية، رسمياً وشعبياً على حدٍّ سواء. وقد أصبحت عملية تعريف هذه المفاهيم مع مرور الوقت أمراً مُعقّداً سيّما وأن النتائج التي ترتّبت على هذه الحروب، إسرائيلياً، لا تُشبه تلك المُترتبة على الحروب التقليدية التي شنّتها ضد الدول العربية (الجيوش). كما أن هذا الأمر انعكس بشكل كبير على المجتمع الإسرائيلي نفسه الذي لم يَعُد يرى أن إسرائيل قد حقّقت خلال هذه الحروب، وبالذات منذ حرب العام 2006، “نصراً” أو “حسماً” باللغة الإسرائيلية العسكرية، الأمر الذي دفع المستويين العسكري والسياسي إلى توخّي الحذر في استخدام هذه المصطلحات، كما دفع الباحثين والمنظّرين الإسرائيليين إلى إعادة النظر في هذه المفاهيم، ومدى صلاحيتها، أو للدقّة، مدى انسجامها مع الطبيعة الجديدة للحروب رغبةً منهم في تحسين أداء الجيش الإسرائيلي وإظهاره منتصراً، عبر إزالة كل الشوائب التي تجعل من هذا “النصر” ضبابياً أو غير واضح من الناحيتين النظرية والعملية.

في سياق هذا كله، تأتي دراسة الباحثة الإسرائيلية في الشأن العسكري أور برْاك بعنوان “من “الحسم” إلى “النصر”: إتاحة الارتباك في المفاهيم العسكرية في إسرائيل”، والصادرة مؤخراً عن معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب، وهي محاولة للدفع باتجاه عملية انتقال سلس، أو تحوّل، في المفاهيم العسكرية التي ترى في ثبات بعضها أمراً خطيراً يُلحق الضرر بالجيش وعقيدته و”انتصاراته”، بما يضمن المصلحة العليا لإسرائيل على مختلف الصُعد، وهي دراسة ملفتة سنقوم هنا بتقديم قراءة موجزة في أهم مفاصلها وادّعائها الرئيس وفرضياتها كذلك.

تتّبع الدراسة عملية التأصيل، المتأخرة نسبياً، لمصطلح “الحسم”- بمعناه العسكري- في المجتمع الإسرائيلي، وتُركّز على “الاضطرابات المفاهيمية” التي ولدت مع عملية استيعابه. كما تتبّع تعدّد المعاني، الأصلية والمستعارة، التي نُسبت على مرّ السنوات إلى المصطلح في السياقات العسكرية وتُسلّط الضوء على المخاطر الكامنة في ذلك، وفي مقدّمتها “تعتيم” و “ضبابية” مصطلح “النصر”. هذا الفشل المفاهيمي لا يتم التعبير عنه بلغة الجيش فحسب بل- والأسوأ من ذلك- في رؤيته/ تصوّره أيضاً. وبناءً عليه، فإن مُساهمة هذه الدراسة- بحسب كاتبتها- تكشف عن أن عملية السماح بالارتباك المفاهيمي بين “النصر” و”الحسم” لا تُعيد فقط معنى “الانتصار” إلى مكانه الصحيح في السياق العسكري، بل تزيد من قوة الرؤية الأمنية الإسرائيلية ومصداقيتها مُستقبلاً.

جدير بالذكر، أن المصطلحات والأفكار الواردة أدناه تُعبّر عن آراء كاتبة الدراسة فقط.

مقدّمة

عند توليه منصب رئيس هيئة أركان الجيش سعى أفيف كوخافي لإعادة فحص معنى مصطلح “النصر” في السياق العسكري، وأقام لهذه الغاية ورشة بعنوان “ورشة عمل النصر” استمرّت على مدار ثلاثة أيام، تناقش فيها أعضاء هيئة أركان الجيش وجنرالات كبار بقيادة رئيس قسم العمليات في الجيش، الجنرال أهارون حاليفا، حول مفاهيم عديدة لمصطلح “النصر” بهدف أن يتم تضمينها في الخطط “متعدّدة السنوات” الخاصة بالجيش. يُذكر أن هذه المحاولة ليست الأولى، فقد عُقدت في وقت مبكّر من العام 2001 ندوة واسعة النطاق، اختبرت فيها القيادات الأمنية والعسكرية آنذاك معنى مصطلح “الحسم” من جوانب عسكرية وأمنية عددية ومتنوعة.

تستعرض براك تعريف القادة العسكريين على مدار عقود طويلة (رؤساء هيئة أركان الجيش ووزراء الدفاع) لمصطلحي “النصر” و “الحسم”، مُستخلصة أن الاختلاف في تعريف كلّ منهم هو الذي أدّى إلى حالة من الغموض المفاهيمي والتي قادت بدورها إلى “ارتباك مفاهيمي” حادّ بين المصطلحين. وبحسب دوف تماري، الذي تستند إليه براك كثيراً، فإن الاستخدام المتكرّر وغير الحذر (تصفه بالمُهمل) لمصطلحي “النصر” و”الحسم” يعود للجيش ورؤساء هيئة الأركان والذي انعكس بشكلٍ سلبي على المصطلحين؛ إذ أن استخدامهما وتوظيفهما من قِبَل وسائل الإعلام، أعضاء الكنيست، المحلّلين وغيرهم في الحروب يتم بناءً على الحروب السابقة، وهذا ما يُعزّز من غموض وضبابية المفهومين، وطريقة التعبير عنهما أيضاً في إشارة إلى ماهية محدّدة. وقد شهد المجتمع الإسرائيلي الحالة الأبرز من الارتباك في النقاش والجدل العام بسبب الغموض الذي يكتنف المفهومين خلال الفترة التي أعقبت حرب تموز (حرب لبنان الثانية 2006)، وهو الأمر الذي انعكس على وسائل الإعلام وفي المنتديات العسكرية والسياسية، وليس كذلك فقط؛ وإنما على لجنة فينوغراد الحكومية أيضاً، حيث استخدم أعضاؤها مصطلح “النصر” في تقريرهم النهائي أكثر من 60 مرة دون تعريف ماهيته بدقّة، أو حتى الإشارة إلى أن المصطلح يحمل نفس الدلالة والماهية لدى كلّ الأشخاص الذين تم استجوابهم والأخذ بشهاداتهم، كلّ هذه العوامل- على سبيل المثال لا الحصر- ساهمت في زيادة حالة الارتباك المفاهيمي للمفهومين وغموضهما، لدرجة أصبح من الصعب فيها على الجميع، بما في ذلك المستويات الرسمية، تحديد الطرف المنتصر في نهاية الحرب، أو ما إذا كان “نصراً” أو “حسماً”، وما هو الفرق بينهما إذا تم التحديد، على أقل تقدير.

الخطأ الكامن في مصطلح “الحسم” نفسه

تدّعي براك أن مصطلح “الحسم”، بمعناه العسكري، ينطوي على خطأ/ مغالطة بنيوية جوهرية – تُطلق عليها “فشل ذاتي”- وهي المغالطة التي تراكمت وترسّخت على مدار السنوات الماضية. فاستخدام المصطلح في المجال العسكري (الحروب) لا يُشبه استخدامه؛ أي “الحسم”، في المجالات الأخرى كالمجال القانوني والديني والرياضي مثلاً؛ إذ أن المُشرّع في الحالة الدينية “حاسم” في مجاله؛ القاضي في المحكمة “حاسم” في قراراته؛ والحكم أو (قاضي المحكمة الرياضية) “حاسم” في قراره، وكلّ هؤلاء يستندون في قراراهم “الحاسم” إلى لوائح وأنظمة متخصّصة مُعترف بها لدى الجميع، أو مقبولة بالحدّ الأدنى. في هذا السياق يبدو التساؤل الأكثر منطقياً: من الذي يحسم في حالة الحرب؟ وهل هناك قاضٍ أو مُحكّم يُحدّد معيار “الحسم” وماهيته في الحروب؟ وهل هناك جهة يكون قرارها “حاسماً” ومقبولاً لدى الجميع بوجود “حسم عسكري”؟

في قاموس الجيش الإسرائيلي، يرِد تعريف “الحسم” على أنه “تحطيم قوة مقاومة العدو العاملة ضدّنا، من خلال خلق وضع تكون فيه (من وجهة نظر الحاسم- صانع القرار) الشروط والظروف مُهيّأة لتحقيق المهمّة المحدّدة”. يُبرز التعريف السابق، الحاجة إلى وجود كيان فعلي لإعلان “الحسم”، الكيان الذي يقرّر وجود “نصر حاسم” في المعركة/ الحرب، وهو الكيان الغائب عن الساحة العسكرية، إذ أن حقيقة وجود فرق واضح بين “الحسم” في المجالات المذكورة سابقاً، والمجال العسكري يجعل من “الحسم”، بمعناه العسكري، حالة استثنائية على أقل تقدير.

خلوّ اللغة الإنكليزية والقاموس العسكري الأميركي من مفهوم “الحسم”

تدّعي براك أن اللغة الإنكليزية، وبالتحديد القاموس العسكري، تخلو من مصطلح “الحسم”، حيث تتم الإشارة إلى بعض المصطلحات عوِضاً عن ذلك. فقاموس الجيش الأميركي على سبيل المثال، ووثائق عقيدته، لا تحدّد مصطلح “الحسم” ولا تستخدمه حتى، حيث يرِد مصطلح “التغلّب على” كهدف للقوة العسكرية في الحرب، وهو ما يجعل الأمر أكثر سلاسة كلما تم الابتعاد عن معايير ثابتة. في اللغة العبرية، يأتي “الحسم العسكري” كمرادف لمصطلح “القرار العسكري- military decision” في قاموس الجيش الأميركي، والذي يحيل إلى عملية اتخاذ القرار في الجيش الأميركي التي تتكون من سبع مراحل يتم استخدام المصطلحات فيها بشكل تكتيكي، وهنا بالتحديد، يؤكّد موشيه سوكولوف أن الترجمة للعبرية يجب أن تتم بحذر؛ “فالرحمة” في العبرية ليست mercy بالإنكليزية، الأمر الذي يفرض على عملية الترجمة والاشتقاق أن تكون أكثر حذراً خلال عملية تبادل المعرفة والأفكار بين الثقافات من خلال الترجمة من الإنكليزية إلى العبرية أو العكس. هذا الادّعاء يزداد قوة ليس فقط بسبب خلوّ قاموس أكسفورد الأساسي للمصطلحات العسكرية (The Oxford Essential Dictionary of the U.S Military)؛ وإنما في إطار سعي العديد من المنظّرين العسكريين الأميركيين، أمثال مارتل، لاستبدال مصطلح “النصر” بسلسلة من المصطلحات البديلة كما ترد في اللغة الإنكليزية:

conquest, triumph, vanquish, subdue, subjugate, and overcome، والتي لا تُشير قط إلى “الحسم” ظاهرياً وجوهرياً. إن تحويل الصفة “حاسم” إلى مصدر “الحسم” في اللغة العبرية غير قائم في اللغة الإنكليزية، وهو التحويل الذي يستبدل عبارة “نصر حاسم”- والحسم هنا صفة، بمصطلح “حسم النصر”، والحسم هنا يُشير لإجراء وأداء ما- وهي مغالطة كبيرة تنطوي عليها الترجمة العبرية، أو عملية التحويل. 

“الحسم” في المصادر التي استوحى منها الجيش الإسرائيلي مصطلحاته العسكرية

تُشير عملية فحص مصطلح “الحسم” ودلالاته في كتابات المنظّر كارل كلاوزوفيتش- أبو النظرية العسكرية الحديثة والذي يُعتبر من الشخصيات الأكثر تأثيراً على عقيدة الجيش الإسرائيلي منذ بدايتها- وبالذات في كتابه “مبادئ الحرب”، بشكل واضح وصريح، إلى أن استخدام مصطلح “الحسم” يأتي في ثلاثة سياقات؛ في سياق وصف النصر أو الهزيمة؛ في سياق القرار (القرار العسكري)؛ وفي سياق الإشارة إلى أمر عظيم وهام، وتخلُص عملية الفحص هذه إلى أنه وعلى الرغم من أن “النصر” قد يكون “حاسماً”، فإن “الحسم” هنا لا يُشكّل أي موقف أو وضع عسكري محدّد، وإنما يأتي في سياق وصفي أكثر منه إجرائي/ عملياتي.

كما تُشير عملية تتبّع المصطلح نفسه؛ أي “الحسم”، في مساهمات بن غوريون التأسيسية للجيش- رغم أنه لا يُعتبر مُنظّراً عسكرياً ككلاوزوفيتش- والتي ساهمت في مأسسة الجيش في ضوء العقيدة الأمنية لإسرائيل حتى يومنا هذا، والتي تم تجميعها لاحقاً في كتاب “التفرّد والغرض” الذي يضمّ مجمل “خطابات وكلمات وزير الدفاع الأول لإسرائيل الموجّهة للجيش، وعن الجيش، وعن أمن إسرائيل أيضاً”، إلى أن كلمة “الحسم” لا تصف نتيجة الحرب، كما أن بن غوريون كان حريصاً في صياغاته للنتائج التي حقّقها الجيش في المعارك والحروب والصراعات والعلاقات مع “الأعداء” على استخدام كلمة “نصر” دون غيرها، وهو ما يدعم الادّعاء الرئيس لهذه الدراسة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تقتبس براك من النقاشات التي دارت خلال صياغة “أمر تأسيس الجيش الإسرائيلي”، حيث صرّح بن غوريون قائلاً: “إن كلّ شيء يخدم هدفاً واحداً وهو النصر”…. “إن الاختبار الحقيقي والوحيد هو الانتصار في الحرب…”. إن غياب مصطلح “الحسم” بشكل كلّي في كتابات وخطابات بن غوريون، إلى جانب العديد من القيادات العسكرية والأمنية- حاييم بارليف مثلاً- والتي تعود إليها براك هنا (لا يُمكن التطرّق لهم جميعاً في القراءة) عن مفاهيم الحرب، أهدافها ونتائج الحروب المختلفة، يشير إلى حقيقة أن هذا الغياب ليس صدفة، وإنّما بسبب مقصد ونيّة واعية لدى كلّ هؤلاء الذي أرسوا القواعد المفاهيمية العسكرية الإسرائيلية.

التأصيل خاطئ لمصطلح “الحسم” في السياقات العسكرية الإسرائيلية

تدّعي براك أن الطرق التي أدّت إلى التأصيل الخاطئ لمصطلح “الحسم” في السياقات العسكرية الإسرائيلية كثيرة ومتنوعة، بعضها معروف والبعض الآخر ليس كذلك، حيث أن هذه العملية- والحديث هنا لا يدور عن نقطة/ لحظة زمنية محدّدة وإنما هي نتاج عملية تدريجية (تراكمية)- تشعبّت فيها العديد من العوامل، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تستند براك- من بين أمثلة أخرى- إلى بن غوريون في إطار سعيها لإثبات ادّعائها الرئيس في هذه الدراسة، فهو بالنسبة لها، أي بن غوريون، واضع الأصول الأمنية التي تُشكّل العصب الرئيس والأساس للعقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تتضمّن أيضاً العقيدة الأمنية، ومن السهل تفنيد أو إثبات أي مسألة أو تفنيدها في هذا السياق من خلال الرجوع إليه.

إن رؤية بن غوريون الأمنية، والتي تستند أساساً إلى فكرة “الجدار الحديدي” التي صاغها زئيف جابوتنسكي في بداية عشرينيات القرن المنصرم، تطورت بطريقة معروفة للجمهور ومركّزة وموجزة في ثلاثية: “الردع”؛ “الإنذار المبكّر”؛ “الحسم”، لذلك، ليس من الغريب أن يتبنّى العديد من القيادات العسكرية، والباحثين كذلك، على مرّ السنوات مصطلح “الحسم” كجزء لا يتجزأ من العقيدة العسكرية الإسرائيلية، لكن العديد من الباحثين وبعد عملية بحث مُعمّقة وصلوا إلى استخلاص مفاده أن هوية الشخص الذي صاغ جوهر الرؤية الأمنية لدى بن غوريون واختصرها في ثلاثة مفاهيم (ثالثها مفهوم الحسم) مجهولة وليست معروفة، كما أنه ليس معروفاً إن كانت لصاحب هذه الصياغة (الاختصار) دوافع أيديولوجية أو شخصية وما هي أصولها ومرتكزاتها، ويُصبح هذا الفهم أكثر دقّة بعد إجراء فحص عميق لرؤية بن غوريون الأمنية التي لا يتطرّق فيها (سبق أن تم توضيح بعض الأمثلة أعلاه) لمفهوم “الحسم” كإشارة لنتيجة عسكرية أو وضع عسكري محدّد، بالإضافة إلى أن بن غوريون لم يستخدم هذا المفهوم- كإجراء أو عملية- إلا في الجملة التالية: “مطلوب “حسم” واضح ودائم”، والحسم هنا إشارة إلى قرار حاسم وليس أي شيء آخر، علاوةً على ذلك، فقد تعمّد بن غوريون، وبشكلٍ واعٍ بحسب براك، استخدام مفهوم “الانتصار” بدلاً من “الحسم” في كل الوثائق والخطابات في السياقات العسكرية، النظرية والعملية، ما يجعل من مسألة التأصيل لمصطلح “الحسم” أمراً غير منطقي وساهم في خلق حالة من الارتباك المفاهيمي في هذه المصطلحات، خصوصاً وأن براك، تلجأ إلى العديد من الخطابات والمقولات لجنرالات الجيش وقياداته على مرّ السنوات التي أسهمت بدورها في تعميق هذا الارتباك وزادت من حدّته.

ترى براك أنه ومع مرور الوقت، وبتأثير العديد من العوامل والدوافع السرّية والعلنية المتأثرة بدورها بالسياقات السياسية والأمنية والاجتماعية الإسرائيلية، تم اعتماد مفهوم “الحسم” كبديل لمفهوم “النصر” التقليدي، وتستعين هنا لإثبات هذا الادّعاء بفرضية غابرييلا بلوم في مقالها “ضبابية النصر”. فهي ترى أنه ومنذ “الانتصار” الواضح في حرب 1967 لم يخرج أحد لإخبار المجتمع الإسرائيلي أن مفهوم “النصر” بمعناه الحديث يختلف كلياً عن المعنى التقليدي لـ”النصر” الذي نشأ عليه المجتمع كما في هذه الحرب (الإخبار يعني عملية تجديد المفاهيم)، ويعود السبب في ذلك، بحسب بلوم، إلى ما تُسميه “الفشل في التحديث” أو “عدم تجديد المفاهيم”، وهو ما تراه براك أيضاً سبباً في خلق صعوبة في الفهم والاستيعاب لدى المجتمع الإسرائيلي لمفهوم “النصر” في الحقبة المعاصرة- وهي الحقبة التي أصبح فيها الانتصار في المعارك يعتمد على عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها وليس فقط على العامل العسكري، أي ليس فقط ما إذا تم تحقيق الأهداف العسكرية التي يتم تحديدها قبل وخلال المعارك والحروب كما كان في السابق.

“الحسم” هو “النصر” بحدّ ذاته

تدّعي براك في نهاية الدراسة أن مفهوم “الحسم” ليس سوى مفهوم “النصر” المُشار إليه في كل السياقات العسكرية التي بحثتها، وفي السياقات التي أعقبت كل الحروب، حيث أن الخلط بين المفهومين، وإظهار حالة من التفريق بينهما، لا أساس لهما من الصحة، وعملا فقط على خلق حالة من الارتباك أضرّت بشكل كبير في مفهوم “النصر” الإسرائيلي وصورته وحقيقة وجوده. وترى براك أنه لا بدّ من النظر إلى المفهومين “النصر” و “الحسم” على أنهما يحملان نفس المعنى، وليس الذهاب للبحث عن الاختلاف بينهما. إن إتاحة الارتباك المفاهيمي يعني إهمال مفهوم “الحسم” والاختيار الواعي لمصطلح “النصر” كبديل له، وعلى الرغم من التعقيد الذي تتضمّنه هذه العملية، إلّا أنها تتطلّب، أولاً وقبل كل شيء، إبداء الموافقة والاستعداد العام لقبول الماهية المقصودة والحقيقية للمفهوم، وليست تلك التي يكوّنها التفكير الرغبوي، أو إسقاط التمنّيات.

وسعت هذه الدراسة لإثبات حقيقة أن مفهوم “الحسم” في السياق العسكري لا يُعبّر عن معنى واضح، وأن الضرر الناجم عن ذلك يُلقى بالكامل على مفهوم “النصر”، حيث أن إسقاطات ذلك لا تكمُن فقط في لغة الجيش وخطابه، بل الأسوأ من ذلك، في التصوّر والرؤية العسكرية للجيش، ومن هنا هدفت الدراسة إلى إعادة معنى مصطلح “النصر” إلى المكان الذي يستحقّه (مكانه الحقيقي) في السياق العسكري الإسرائيلي، وتستند براك (كاتبة الدراسة) في ذلك إلى كلاوزوفيتش في طرحه القائل بعدم صوابية التعامل مع النظرية على أنها تعليمات تشغيلية ميكانيكية، لأن مبادئها لا تُقدّم وصفة جاهزة للانتصار في المعارك، وإنما تُقدّم المفاهيم الأساسية التي تسمح للقائد العسكري بصياغة الطريقة والوصفة الأنسب والأنجع لمواجهة المشكلة العسكرية المحدّدة، وهي الرسالة نفسها التي ترى براك أنها تُعبّر عن توجّه “رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي” أفيف كوخافي في إطار سعيه لتعزيز مكانة مفهوم “النسبية” كتوجّه جديد للجيش. أخيراً ترى أنه من الضروري بمكان التخلّي عن مصطلح لا يخدم المصالح العسكرية الإسرائيلية لصالح مصطلح آخر يدعم العقيدة الأمنية الإسرائيلية ويُكسبها قوة، لذلك تقترح التخلّي عن استخدام مصطلح “الحسم” كإشارة لنتيجة عسكرية، أو وضع عسكري محدّد، واستبداله بمصطلح “النصر” كي يأخذ الأخير مجده في التعبير عن النتائج العسكرية للحروب التي يخوضها الجيش، وهو نفس النهج الذي تعتقد الكاتبة بأن أفيف كوخافي، ووثيقة تصوّر الجيش 2015، والتحديث المرافق لها 2018، يتّبعه، من خلال اللجوء إلى تعريف مفهوم “النصر” بشكل واضح لا لُبس فيه، بحسب كاتبة الدراسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى