أقلام وأراء

مقال بقلم هاني المصري : أوروبا المشكلة والحل

 هاني المصري * المركز الفلسطيني للاعلام والأبحاث (بدائل)، 6/3/2012

لم تكن التوقعات لنتائج الزّيارة التي قام بها وفد فلسطينيّ إلى برلين وبروكسل عالية، لأن أوروبا مشغولة بأزمتها الاقتصاديّة، وبما يجري في المنطقة العربيّة من ثورات وتغيرات، وبالملف الإيراني، وبعد ذلك تأتي القضيّة الفلسطينيّة. لاحظنا المواقف الأوروبيّة المتباينة من الطلب الفلسطينيّ للحصول على العضويّة الكاملة في الأمم المتحدة ومن المصالحة.

بالرغم من كل ما سبق، كانت الزيارة التي استغرقت أسبوعًا كاملًا مفيدة ومثيرة للانطباع لجهة الالتقاء بعدد وافر من المسؤولين والنواب وقادة الأحزاب والمستشارين والمساعدين في برلين وبروكسل.

لقد وجد الوفد اهتمامًا ملفتًا يعكس كما قال لنا بعض المطلعين والفلسطينيين اهتمامًا خاصًا بوفد فلسطينيّ لم يعد متوفرًا مثله في هذه الآونة، وذلك يرجع إلى أن الوفد غير رسمي يتكون من شخصيات وطنيّة غير منتمية للفصائل، وأن زيارته تتم بعد “إعلان الدوحة” الذي رفع سقف التوقعات عند توقيعه في 6 شباط الماضي، إلى صدمة تعليق تشكيل الحكومة بعد اجتماعات القاهرة في 23 و24 من الشهر نفسه، وفي ظل الخلافات داخل “حماس” والبحث عن علاقتها بالثورات العربيّة، خصوصًا فيما يجري في سوريا.

أبرز ما يلاحظ في اللقاء مع المسؤولين والخبراء والنواب والمستشارين الألمان، والأوروبيين عمومًا، أنهم، على الأقل، لا يفهمون السياسة الفلسطينيّة الممارسة الآن، ولا يستطيعون توقعها أو البناء عليها أو التعامل معها.

فإذا أخذنا مسألة المصالحة الوطنيّة، فهم لا يعرفون بالضبط هل هي تحققت أم لا، وما الذي يمنع تحقيقها، خصوصًا بعد المتغيرات العربيّة والإقليميّة والدوليّة.

ويظهر ارتباك السياسة الفلسطينية بصورة أكبر وضوحًا على مسألة تشكيل الحكومة، وهي مسألة بالغة الأهميّة، لأن الحكومة هي التي تتعامل معها الحكومات. فالحكومة الفلسطينيّة منذ أكثر من ثلاثة سنوات بانتظار تعديل أو تغيير كامل لأسباب تتعلق باستقالة بعض أعضائها لأسباب خاصة، أو لتقديم لوائح اتهام ضد بعضهم، أو تمس الخلاف بين أوساط من “فتح” مع حكومة سلام فياض، أو لأسباب تتعلق باتفاقات المصالحة التي نصت على تشكيل حكومة من الكفاءات الوطنيّة المستقلة، حتى اتفاق القاهرة في أيار الماضي، إلى أن انتهى الأمر بالاتفاق على ترؤس الرئيس محمود عباس لحكومة الوفاق الوطني.

مثلًا من الملفت كما يقول أحد الدبلوماسيين إنّ “إعلان الدوحة” قد وُقِّع قبل أسابيع من الاجتماع الذي يعقد كل سنتين للمانحين، ما سيؤثر سلبًا حتمًا على التزاماتهم بدعم السلطة، لأنهم لا يعرفون من سيدعمون، هل حكومة سلام فياض، أم حكومة برئاسة محمود عباس، أم حكومة برئاسة شخصيّة وطنيّة مستقلة تتوافق عليها “فتح” و”حماس”.

وما يزيد الطين بلة أن الارتباك لا ينحصر في ملف المصالحة، وإنما في التردد الفلسطينيّ ما بين الاستمرار في خيار المفاوضات الذي يعترفون بفشله أو اتباع خيارات جديدة.

فالقيادة الفلسطينيّة تهدد منذ سنوات بأنها ستأخذ بدائل جديدة تتضمن عناوين عديدة، منها: استقالة الرئيس، وحل السلطة وتسليم مفاتيحها لحكومة الاحتلال، ووقف حالة السلطة التي ليست سلطة، أو طلب الوصاية أو الحماية الدوليّة، وسحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني واتفاقية باريس الاقتصاديّة، والتوجه إلى الأمم المتحدة للحصول على العضوية الكاملة للدولة الفلسطينيّة، والمقاومة الشعبيّة، والتهديد باتخاذ قرارات إستراتيجيّة ستغير الشرق الأوسط وتحديد تواريخ لذلك، مثل أيلول 2011؛ ونهاية العام الماضي؛ و26 كانون الثاني الماضي؛ وإرسال “أم الرسائل” إلى نتنياهو وأطراف اللجنة الرباعية في آذار الجاري.

بالرغم من كل ذلك، نجد أن القيادة الفلسطينية لم تحسم أمرها بأي اتجاه ستسير، وأقصى ما سارت فيه هو التوجه إلى مجلس الأمن بخصوص الاستيطان، وتقديم طلب للحصول على العضوية الكاملة والوقوف على أبوابه دون الدفع باتجاه التصويت عليه مهما كانت النتيجة، والاكتفاء بالحصول على العضوية في اليونيسكو دون تقديم طلبات جديدة إلى الجمعيّة العامة والوكالات التابعة لها، ودون تفعيل قرارات دوليّة سابقة يمكن أن يكون للإصرار على تطبيقها نتائج ملموسة، خصوصًا الفتوى القانونيّة لمحكمة لاهاي وتقرير غولدستون.

وإذا كانت القيادة والفصائل يفكرون جديًّا في اعتماد بدائل وخيارات جديدة، لماذا يغرَقون ويُغرِقون الشعب معهم في تفاصيل وإجراءات لا حصر لها بعيدًا عن إعطاء الأولوية لبلورة هذه البدائل التي من المفترض أن تحكم السياسة وكل التفاصيل.

هناك أوساط أوروبيّة صديقة لفلسطين، لا تفهم لماذا لم يتقدم طلب إلى الجمعيّة العامة للحصول على العضويّة المراقبة، وهذا أمر مضمون، ولا يمنع متابعة المساعي للحصول على العضويّة الكاملة في مجلس الأمن.

أوروبا ليست بريئة، فهي قدمت عرضًا للرئيس الفلسطيني في شهر أيلول الماضي لثنيه عن عدم تقديم طلب عضويّة كاملة لمجلس الأمن مقابل دعم أوروبي للحصول على العضويّة المراقبة، شريطة أن يلتزم بالعودة إلى المفاوضات المباشرة، وعدم تقديم طلب لمجلس الأمن أو للوكالات التابعة للأمم المتحدة، خصوصًا لمحكمة العدل العليا ومحكمة الجنايات الدوليّة.

هناك أحاديث الآن حول تطور في الموقف الأوروبي يظهر بالاستعداد للتنسيق مع الفلسطينيين للحصول على العضويّة المراقبة دون شروط مسبقة، لا نستطيع أن نصدقها ما لم يتم اختبارها على أرض الواقع.

طبعًا، الأوروبيون يقولون إنهم أعلنوا بأنهم لن يوقفوا المساعدات للفلسطينيين إذا تم تطبيق اتفاق القاهرة أو “إعلان الدوحة”، وأنه سبق وأن زادوا مساعداتهم المقدمة للفلسطينيين حتى في فترة حكومة “حماس”، ولكن تغيرت الكيفيّة التي يتم فيها تحويل المساعدات.

أوروبا ليست بريئة أيضًا في أنها شاركت في وضع شروط اللجنة الرباعية الدولية الظالمة كشرط للاعتراف بأي حكومة فلسطينية، وهي شروط لعزل “حماس”، وللتحايل على القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وتقزيمها، وبالرغم من أنها لا توضع الآن كشرط لكنها لم تراجع، ولا تزال دول أوروبية هامة تعتمدها.

على أوروبا ألا تنسى أن الفلسطينيين تحت الضغوط الدولية والمقاطعة والتهديد بها اضطروا إلى الأخذ بشروط الجنة الرباعية من خلال الموافقة أولًا على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، في حين أنهم بأمس الحاجة إلى حكومة وحدة وطنية تشارك فيها الفصائل والمستقلون، وثانيًا بالاتفاق على أن يترأس الرئيس محمود عباس حكومة الوفاق القادمة، حتى لا تتعرض للحصار والمقاطعة مع أن هذا يتعارض مع القانون الأساسي للسلطة، ومع الديمقراطية التي ترفض احتكار شخص واحد لكل هذه المناصب، ومع النظام السياسيّ الفلسطينيّ المختلط الرئاسيّ – البرلمانيّ.

على أوروبا، إذا كانت وفيّة للمبادئ والقيم التي تنادي بها، أن ترفع الشروط التي تضعها على الفلسطينيين، أو على الأقل تضع شروطًا مماثلة على إسرائيل.

من ينتظر موقفا أوروبيًا خارجيًا موحدًا، خصوصًا إزاء القضيّة الفلسطينيّة، سينتظر طويلًا، فهناك مواقف لبعض الدول الأوروبيّة، مثل ألمانيا وهولندا والدول الأوروبيّة الشرقيّة، سلبيّة جدًا لا تساعد على اتخاذ موقف أوروبي موحد فاعل، ولكن هذا لا يقلل من أهميّة أوروبا، وخصوصًا أن الموقف الأوروبي في السابق كان أفضل مما هو عليه الآن، ويمكن أن يعود كما كان وأفضل.

كما أن الرأي العام الأوروبي، حتى في ألمانيا تغير بشكل ملموس، وهذا يمكن البناء عليه في حملات التضامن والمقاطعة، وصولًا إلى مرحلة يستطيع فيها الرأي العام الأوروبي أن يعكس نفسه على سياسات وقرارات الحكومات الأوروبيّة والاتحاد الأوروبيّ.

أوروبا يمكن أن يتطور موقفها لأنها قريبة من المنطقة، وتتأثر سلبًا وإيجابًا فيما يجري فيها، وبعدها النسبيّ عن السياسة الإسرائيلية وقربها الجغرافي وتاريخها الاستعماري للمنطقة؛ يجعلها أكثر معرفة بما يجري فيها من الولايات المتحدة الأميركيّة.

ولكن الدرس القديم المتجدد والذي يخرج منه الزائر لأوروبا، أن أوروبا والعالم اليوم، في عصر العولمة وانهيار نظام القطبين والشيوعيّة، لا يفهم سوى لغة واحدة أو لغتين، وهما القوة أو المصلحة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة ولا يحسن استخدام هاتين اللغتين أو إحداهما لا يستطيع إحداث التغيير.

إن خطاب الحقوق والعدالة والإنسانيّة والحريّة والديمقراطيّة مهم جدًا، ولكنه يؤثر على الشعوب والرأي العام، أما الحكومات فلا تفهم سوى لغة القوة أو المصلحة، وعلينا إتقان استخدامهما أو أحدهما حتى يأخذنا العالم على محمل الجد.

ولن يتغير الموقف الأوروبي ولا الدولي ولا حتى العربيّ إذا لم يغير الفلسطينيون ما في أنفسهم حتى يكونوا موحدين وفاعلين في إطار إستراتيجية جديدة قادرة على تحقيق ما عجزت عنه الإستراتيجيات السابقة.

إن الدبلوماسيّ الفلسطينيّ في وضع لا يُحسد عليه، لأن الانقسام السياسيّ والجغرافيّ يضعفه كثيرًا، وتيه الخيارات البديلة يربكه، وتبدل السياسات يكاد أن يشله، بالرغم من أن المتغيرات العربية والدولية تفتح آفاقًا إستراتيجية رحبة بصورة غير مسبوقة.

لقد كان الوفد الذي ضم شخصيات مستقلة ولديه ملاحظات جوهرية على السياسة الفلسطينية ومواقف الفصائل المختلفة مدافعًا عن فلسطين وقيادتها وعن “فتح” و”حماس”، لأنه يدرك أن الفلسطينيين مهما اختلفوا في مركب واحد إذا غرق غرقوا جميعًا وإذا نجا نجوا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى