أقلام وأراء

معين الطاهر يكتب – معارك ترامب الأخيرة

بقلم معين الطاهر 

لم يقرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعد النزول عن الشجرة. ما زال يزعم الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، مصرًّا، حتى اللحظة، أن ثمّة تزويرًا واسع النطاق قد وقع، وأنّ الانتخابات قد سُرقت، لاجئًا إلى ساحات القضاء، وحشد جمهور مؤيديه وأنصاره في الميادين، رافضًا أن تكون وسائل الإعلام الجهة التي تحدد الفائز، واثقًا، حتى اللحظة، أنّ القضاء سيقول كلمته، ويعيده رئيسًا متوّجًا إلى البيت الأبيض أربعة أعوام إضافية. وهي توقعاتٌ تخالف آراء معظم المتابعين والمحلّلين الذين يرون جو بايدن الرئيس المنتخب الذي سيجلس في المكتب البيضاوي. 
تُنذر هذه الأجواء الصاخبة التي شهدت استقطابًا حادًا بانقسام شديد في المجتمع الأميركي؛ أمام تعنّت دونالد ترامب، ورفضه قبول نتيجة الانتخابات، وانفراده باتخاذ القرارات من دون مشاركة الفريق الانتقالي الذي عيّنه بايدن لإنهاء ترتيبات نقل السلطة، سواءً في ما يخص متابعة ملف كورونا، أو في إجراء تعديلات كبرى، مثل إقالة وزير الدفاع ومسؤولين مخضرمين كبار في البنتاغون، وتعيين كريستوفر ميلر وزيرًا للدفاع، وعدم إحاطة بايدن وفريقه بأي تطوّراتٍ تخصّ الوضع الداخلي أو الأمن القومي، كما درجت العادة في الانتخابات السابقة، ما أدى إلى إثارة تساؤلاتٍ عما سيفعله ترامب في الأسابيع المتبقية من ولايته، وما هي آخر معاركه التي سيخوضها داخل الولايات المتحدة أو خارجها.

تُنذر  الأجواء الصاخبة التي شهدت استقطابًا حادًا بانقسام شديد في المجتمع الأميركي؛ أمام تعنّت ترامب، ورفضه قبول نتيجة الانتخابات

أثارت ذلك تكهّنات حول خطوات يعتزم الرئيس دونالد ترامب اتخاذها قبل انتهاء ولايته، وراجت أخبار عن احتمال توجيه ضربة أميركية لإيران، قاطعًا الطريق أمام إدارة بايدن مستقبلًا من العودة إلى الاتفاق النووي السابق الذي عقدته المجموعة الدولية مع إيران. كما نشرت تحليلات عن ضربات إسرائيلية لمواقع إيرانية في سورية، أو ضربة على لبنان، واجتياح لقطاع غزة، بضوء أخضر أميركي، يترافق مع تنفيذ بنيامين نتنياهو قرار الضم، وتنفيذ بنود صفقة القرن، لقطع الطريق أيضًا على إدارة بايدن لوضع سياسة جديدة مختلفة عن سياسة إدارة ترامب، وقريبة من السياسات الأميركية التقليدية لإدارة الصراع في الشرق الأوسط.
لا تبدو احتمالات ضربة عسكرية أميركية على إيران أو منشآتها النووية عالية، لسببين رئيسين؛ أولهما أنّ عهد الحروب الخاطفة انتهى، وأن الحرب قد يبدأها أحمق، لكنه لا يستطيع التنبؤ بنتائجها وآثارها، وخصوصًا في منطقةٍ ملتهبةٍ مثل منطقة الخليج، والتي تعجّ بالمصالح الأميركية والغربية، وهي المفترض أن تكون حريصة على استقرار المنطقة وهدوئها. وحتى لو استُخدمت قوة مفرطة، أو أسلحة نووية تكتيكية، في بلد مثل إيران، فإنّ هذا لن يكون سوى بداية حرب طويلة. السبب الثاني أنّ قرارًا من هذا النوع لن يتمكّن الرئيس ترامب من اتخاذه منفردًا، على الرغم من الصلاحيات المطلقة التي يمتلكها في النظام السياسي الأميركي، إذ يستوجب قرار كهذا ما يشبه الإجماع الأميركي ضمن المؤسسات الأميركية والدولة العميقة في الجيش والكونغرس. لذلك، ووفق المنطق السليم، يُستبعد أن يلجأ ترامب إلى خطوةٍ كهذه من شأنها أن تجرّه إلى حربٍ طويلة الأمد، وتعرّض المصالح الأميركية للخطر الشديد، وهو الذي يعلن أنّ سياسته هي إعادة الجنود الأميركيين إلى الوطن، زاعمًا أنّ هذا هو سبب التغييرات التي أجراها في وزارة الدفاع، وهي سياسةٌ اصطدمت، خلال ولايته، بمعارضة جنرالات كبار في الجيش الأميركي، والذين لجأوا إلى المناورة والالتفاف على قراراته.

معركة ترامب الأخيرة ستكون داخل الولايات المتحدة الأميركية، وقد لا تهدف بالضرورة إلى احتفاظه بموقعه في البيت الأبيض

ويعني هذا التحليل استبعاد الحرب الأميركية المباشرة على إيران، لكنه يترك ثغرة أمام إسرائيل بأن تلجأ إلى توجيه ضربةٍ لإحدى المنشآت النووية بواسطة سلاحها الجوي، وبضوء أخضر أميركي، وتكون على استعدادٍ لتحمل تبعات رد الفعل الإيراني، المتمثل بقصف أهداف إسرائيلية من المواقع الإيرانية في سورية، أو من حزب الله في الجنوب اللبناني. احتمال تطور ذلك إلى حربٍ شاملة يبدو محدودًا. ويتعلق السؤال هنا بالتقدير الإسرائيلي للمدى الزمني اللازم لقدرة إيران على إنتاج قنبلتها النووية، وهو تقدير مبني على اعتبار أنّ انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي، وزيادة إيران معدلات تخصيب اليورانيوم ردًّا على ذلك، قد قلّص الفترة اللازمة لحصولها على سلاح نووي. كما ينبني هذا القرار على الثمن الذي على إسرائيل أن تتحمّله مقابل هذه الضربة، وهو ثمن معقول مقابل ضرب المنشآت النووية الإيرانية في أذهان شريحة واسعة من الجنرالات الصهاينة.

استبعاد حرب أميركية مباشرة على إيران يترك ثغرة أمام إسرائيل بأن تلجأ إلى توجيه ضربةٍ لإحدى المنشآت النووية بواسطة سلاحها الجوي، وبضوء أخضر أميركي

هل تستغل إسرائيل الفترة الانتقالية في الولايات المتحدة لتصعيد غاراتها في سورية، أو شنّ حربٍ على حزب الله في لبنان، لإحداث وقائع جديدة أمام إدارة جو بايدن؟ الغارات على سورية لم تتوقف، وردة فعل إيران وحزب الله عليها باهتة، إن لم نقل منعدمة. ويبدو أن استمرار هذا النهج مرجّح خلال الفترة المقبلة، ما لم يلقَ ردعًا مناسبًا. وإذا كان ثمّة مبرّرات لانعدام وجود مثل هذا الردع سابقًا، وهو يتمثّل باستكمال ترسانة حزب الله الصاروخية، وتعزيز المواقع الإيرانية في سورية، فإن ذلك قد استُكمل بما يكفي ليشكّل قوةً رادعة، بحسب التصريحات الصادرة، والزمن الذي انقضى. والسؤال هنا: هل سنشهد مثل هذه الحالة تقريبًا، علمًا أنّ الوصول إليها يُضعف احتمال توجيه ضربة إسرائيلية لمنشأة نووية في إيران؟ أما الحرب على حزب الله في لبنان، فمرتبطة أساسًا بملابسات المشهد السياسي اللبناني، وتداخلاته الإقليمية، وهي ظروفٌ تكاد تشابه زمن الاجتياح الإسرائيلي في 1982. وقد يتداخل هذا المشهد مع ضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية، لكنها في هذه الحالة ستوسّع من مدى الحرب ومدّتها.

يبقى السؤال عن تنفيذ نتنياهو الضمّ القانوني في الضفة الغربية، أو توجيه ضربة عسكرية كبيرة في قطاع غزة، فمثل ذلك يرتبط أساسًا بالمشهد الإسرائيلي الداخلي، في ظلّ تزايد الحديث عن انتخابات جديدة في شهر مارس/ آذار المقبل. ومن الواضح أنّ الضمّ الفعلي، وتوسيع المستوطنات وزيادتها، قائم على قدم وساق، ولن تعيقه إدارة أميركية جديدة.
أين ستكون معركة ترامب الأخيرة؟ واضح أنها ستكون داخل الولايات المتحدة الأميركية، وقد لا تهدف بالضرورة إلى احتفاظه بموقعه في البيت الأبيض، إذ يبدو أنّ هذا الموضوع يقترب من الحسم، لكن ما يهدف إليه ترامب هو التشكيك بشرعية جو بايدن رئيسًا، واستثمار ذلك في معركة مفتوحة تستمر طوال ولايته، استعدادًا للانتخابات التالية، والتي بدأ التحضير لها، عبر ازدياد نفوذ “التيار الترامبي” داخل الحزب الجمهوري، وزيادة التوتر الداخلي والصراع طوال الأعوام المقبلة، والذي سيؤدي إلى مزيدٍ من الانقسام، وإلى انشغال الولايات المتحدة بنفسها أكثر من أي وقت مضى، ولعلّ في ذلك فرصة للتحرّر والتغيير على مستوى العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى