أقلام وأراء

معين الطاهر: سياسة الضفدع في الغلاية

معين الطاهر 1-3-2023: سياسة الضفدع في الغلاية

“الضفدع في الغلاية” عنوانٌ مستوحى من ورشة عمل مغلقة أُقيمت في البحر الميت، شاركت فيها مع نخبة أردنية وفلسطينية، تناولت خيارات الأردن في مواجهة سيناريوهات المستقبل الفلسطيني، بدعوة من مركز القدس للدراسات السياسية ومؤسسة كونراد أديناور. وهدفت إلى وضع توصياتٍ أمام صانع القرار بما على الأردن فعله أمام سيناريوهات المستقبل الفلسطيني، وانعكاسها على مصالح الأردن الوطنية، وتقييم سياسات الأردن تجاهها وتطويرها، مستعرضة أدوات السياسة الخارجية المتاحة في ظل السياقين، الدولي والإقليمي، وعناصر القوة والضعف، والفرص والتحدّيات. أما حكاية الضفدع، فأُشيرَ إليها في واحدٍ من السيناريوهات المحتملة في فلسطين، وهي قصة معروفة بين دارسي علم الأحياء، فحين يوضَع ضفدع في وعاءٍ فيه ماء، ثم يُسخّن تدريجياً، وترتفع حرارة الماء رويداً رويداً وصولاً إلى درجة الغليان، فإن الضفدع الذي يعجز عن إدراك ارتفاع درجة حرارة الماء المستمرّ يموت من دون أن يبدي أي ردّة فعل، فيلقى مصيره المحتوم.

لا تهدف هذه المقالة إلى عرض التوصيات التي خرج بها المؤتمرون، ولا إلى التطرّق لفحوى النقاشات التي تناغمت بعض نتائجها وتنافرت أخرى، فثمّة توافقٌ وثمّة خلافٌ على قضايا مصيرية، لكنها تميّزت جميعها بالوضوح الكامل لمواقف أصحابها، من دون محاولة إخفائها أو الدوران حولها، بحيث جاءت الورشة تعبيراً عن اتجاهاتٍ يعكس بعضُها الرأي العام، ويذهب بعضُها إلى تبنّي أفكار وسياسات براغماتية، ترى في ميزان القوى السائد حالياً قدراً لا مناص ولا بديل من الرضوخ له والتناغم مع سياساته. اتّسم النقاش بالصراحة التي وصلت إلى حدّ إثارة سؤالٍ كبير فيما إذا كانت إسرائيل عدوّاً أو حليفاً محتملاً في الأيام المقبلة، وإلى المدى الذي ستتأثر فيه السياسات الأردنية بمتغيّرات المشهد الفلسطيني، وانعكاس ذلك على التطبيع الرسمي، ومعاهدة وادي عربة، والاتفاقات الاقتصادية، والوصاية الهاشمية، ودور الأردن في مستقبل المنطقة. بالطبع، وكما هي العادة في مثل هذه الورش، لا تُحسَم آراءٌ بالتصويت، ولا تخضع لاعتبارات الأقلية أو الأكثرية. أما التوصيات، حتى التي تباينت، فسيضعها المنظّمون أمام صُنّاع القرار، عسى أن تجد من يوليها اهتماماً، وهنا تنتهي مهمّة مراكز الدراسات والبحوث.

عُرضت في هذه الورشة سيناريوهات ثلاثة؛ اثنان منها وجدتهما متقاربين، ويقود أحدهما إلى الآخر، وهما سياسة حافّة الهاوية وسيناريو الانفجار الكبير، أما السيناريو الثالث فلعله الأكثر تفاؤلاً، وهو سيناريو المخرج الذي يلمح زيادة حدّة التناقضات داخل المجتمع الإسرائيلي بين المتدينين اليهود و”العلمانيين والليبراليين”، وتزايد كلفة احتلال التمييز العنصري بشأن صورة إسرائيل في الخارج، متوقعاً أن يواجه الإسرائيليون مفترقاً صعباً بين مزيد من التشدّد والاستعداد للذهاب إلى معادلات صفرية مع الفلسطينيين، أو الرغبة في صيغة تسوية توافقية تفصلهم عنهم، وقد يترافق ذلك مع انتقالٍ محتملٍ من نظام القطب الواحد على المستوى الدولي إلى نظام متعدّد الأقطاب، وكذلك قد نشهد موجة ثالثة من موجات الربيع العربي، وتراجعاً في مسارات التطبيع الإبراهيمية.

أما فلسطينياً، فتتجسّد وحدة الشعب والأرض والقضية، وتُطلق حملة منظمّة لنزع الشرعية عن نظام الأبارتهايد الصهيوني، ويتصاعد خطاب المجتمع المدني العالمي المندّد بإسرائيل ونظام الفصل العنصري، ويتراجع التعاطف معها، وستواجه العلاقات الإسرائيلية – الأميركية فتوراً وتوتراً، وتتراجع قدرة الغرب على الدفاع عن الديمقراطية المزعومة لدولة الاحتلال، وتتعزّز مقاومة الفلسطينيين الاحتلال وصمودهم على أرضهم، فيما يشهد الأردن تغييراً جوهرياً في مقاربته ملف الصراع مع إسرائيل، باعتبارها خطراً وجودياً على أمنه واستقراره وهويته وكيانه.

يختلف سيناريو حافّة الهاوية الذي يوضع فيه الضفدع في الغلاية بأنه يدفع التطوّرات إلى حافّة الهاوية من دون الوصول إلى قعرها النهائي، وهي السياسة المتبعة منذ حرب 1967، وأصبحت أكثر وضوحاً بعد اتفاق أوسلو وفشل المفاوضات بشأن الحل النهائي، وفي عهد الرئيس محمود عبّاس. ولا تزال هذه السياسة مستمرّة، وتزداد وضوحاً في كل يوم، وتلقى إجماعاً صهيونياً من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي تختلف في ما بينها حول الديمقراطية لليهود وبينهم، وتتفق في ظل صعود الفاشية الصهيونية على تعزيز الاستيطان، وطرد العرب، وتصفية القضية الفلسطينية. ووصول هذه السياسة إلى نهايتها الموصوفة بالانفجار الكبير يتمثل بالضمّ الرسمي للمنطقة (ج) التي تشمل ثلثي الضفة الغربية، وتهجير سكّانها، وفرض نظام فصلٍ عنصري على الشعب الفلسطيني في مختلف مناطق وجوده، وصعود كبير لدور المليشيات اليهودية، وزيادة كبيرة في القمع الدموي الإسرائيلي للفلسطينيين. وهي إجراءاتٌ تعني حسماً للصراع من جانب واحد، وانهياراً للسلطة الفلسطينية، أو تغييراً في وظيفتها، وهزيمة للمشروع الوطني الفلسطيني بصيغته الحالية، وتهديداً لدوري الأردن ومصر ما قد ينعكس على أوضاعهما الداخلية.

في الوضع الراهن، ما نشهده هو خطواتٌ متسارعة نحو الانفجار الكبير، ووقوفاً على حافّة الهاوية؛ الحكومات الإسرائيلية تضع الجميع (السلطة الفلسطينية، والنظام العربي الرسمي، والمجتمع الدولي) في غلاية تسخن تدريجياً في وقتٍ تواصل فيه قضم الأرض الفلسطينية، والقمع الدموي المتصاعد للفلسطينيين، وسن التشريعات التي تتيح لها إبعادهم عن أرضهم، وخصوصاً في القدس، ومنعهم من البناء والاستقرار، أو من تحرير اقتصادهم من التبعية الإسرائيلية، كما أنها تُنهي عملياً أي دور سياسي للسلطة الفلسطينية، وتعمل على تجويفها، وحصر مهماتها بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وتسعى جاهدة إلى زيادة التطبيع العربي الرسمي معها، بمعزلٍ عن تطورات القضية الفلسطينية، ونقله إلى مرحلة التحالف، بادّعاء مواجهة محاور إقليمية، والتبجّح بقدرتها على توفير الحماية لأنظمة عربية.

مقابل تلك السياسات تستمر سياسة إدارة الصراع، والحفاظ على استقرار المنطقة، ومنع الانفجار، واحتواء التوترات، وتقديم بدائل مؤقّتة، وجرعات تخدير صغيرة، وحلول اقتصادية محدودة، كسياسة متّبعة عند الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، كما هي عند النظام العربي الرسمي، الذي لم يعد يشترط مقابل هذه الإجراءات اتّخاذ الجانب الإسرائيلي أي خطواتٍ، ولو محدودة، مثل وقف الاستيطان أو تجميده، ويصبح الحديث عن حلّ الدولتين مجرّد لغوٍ سياسي يتصدّر البيانات العربية والدولية، لكنه لا يساوي الحبر الذي كُتب به. أما السلطة الفلسطينية فهي تقبع تحت الضغطين، الأميركي والإسرائيلي، وتبدو عاجزة عن التقدّم بأي اتجاه، فالمسار الدولي المحدود الذي تحاول أن تتقدّم فيه، مثل إصدار قرار من مجلس الأمن بإدانة الاستيطان، يُستبدل به بيان هزيل لا جدوى منه، رغم أن الفرصة كانت متوفّرة لتحقيق ذلك، وهذه هي حال محكمة الجنايات التي تستقبل الشكوى الفلسطينية، ثم لا تجرُؤ على متابعتها، فضلاً عن قرارات وقف التنسيق الأمني المتكرّرة التي تمخضت عن خطّة أميركية لفرض السيطرة الأمنية على نقاط الاشتباك اليومية في نابلس وجنين، بحيث تضطلع الأجهزة الأمنية الفلسطينية بهذه المهمات بدلاً من قوات الاحتلال، وبالتنسيق معها، وثمن ذلك كله بقاء مؤقت للسلطة ودورها، ومن دون أي أفق سياسي مهما كان محدوداً.

بإيجاز، يقبع الجميع في الغلاية الصهيونية ويستكينون لها، في حين تتواصل المخطّطات لابتلاع الأرض، وتجعلنا نقترب من الانفجار الكبير، لكن ثمّة جيل وُلد بعد “أوسلو”، ولم يشهد مرحلة الفصائل، عانى عذاب الاحتلال ومرارات السلطة الفلسطينية، وعجْز النظام العربي والدولي، هذا الجيل وحده قفز خارج الغلاية، واستمر في حمل راية المقاومة بأشكالها المختلفة، ليرسم سيناريو جديداً قد يترك أثراً في مسارات الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى