ترجمات أجنبية

معهد واشنطن- تشارلز ثيبوت – جريمة جهادية أخرى تختبر صمود الشعب الفرنسي

معهد واشنطن –  تشارلز ثيبوت * – 22/10/2020

يُعتبر قطع رأس المدرّس صامويل باتي بالقرب من باريس في 16 تشرين الأول/أكتوبر الهجوم الإرهابي التاسع عشر الذي تشهده فرنسا منذ عام 2012. وحتى الآن، تسببت هذه الهجمات بمقتل 264 شخصاً، من بينهم ثلاثة جنود فرنسيين مسلمين، ومعلّم مدرسة يهودي، وثلاثة طلاب في آذار/مارس 2012؛ وموظفون في مجلة “شارلي إبدو” وعنصرا الشرطة أحمد مرابط وكلاريسا جان-فيليب في كانون الثاني/يناير 2015؛ ورواد مسرح باتاكلان في تشرين الثاني/نوفمبر 2015؛ وسكان من نيس في تموز/يوليو 2016؛ والكاهن هامل في تموز/يوليو 2016. وبينما كشفت الشرطة 32 مؤامرة ومنعت وقوعها منذ عام 2017، يؤكد مقتل باتي النمط الأخير لهجمات السكين المعزولة ضد أهداف رمزية للغاية، على عكس الهجمات الأوسع نطاقاً مثل تلك التي استهدفت باتاكلان.

ويبقى أن يُظهر التحقيق ما إذا كان عبدالله أنزوروف، الشيشاني البالغ من العمر 18 عاماً الذي قتل باتي، قد تصرف من تلقاء نفسه أو بالتنسيق مع جماعات إرهابية. وكما أشار خبير الإرهاب في معهد واشنطن، هارون زيلين، على موقعه على الإنترنت “جهادولوجي”، لا تزال مسألة “تشارلي إبدو” قضية مهمة بالنسبة لتنظيم «القاعدة» حتى يومنا هذا. فقبل شهر أصدر تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، الذي أعلن مسؤوليته عن الهجوم على مكاتب المجلة الساخرة عام 2015، بياناً دعا فيه إلى “نصرة رسول الله”. وأوضح زيلين أيضاً أن بإمكان الجهاديين الاستفادة من الرسائل الإسلامية المحلية، التي توفر لهم فرصة للتجنيد. ومع ذلك، لا يوجد دليل في هذه المرحلة على أن أنزوروف كان لديه أي دعم خارجي.

وتتمثل أبرز خاصية في جريمة قتل باتي في أنها كانت بتحريض من ناشطين إسلاميين فرنسيين محليين من خلال جماعات عبر الإنترنت. وكما اعتاد أن يفعل خلال السنوات السابقة، أعطى باتي محاضرة في الصف عن حرية التعبير. وكان قد أخبر طلابه أنه يعتزم استخدام بعض الرسوم الكارتونية لـ “شارلي إبدو” كأمثلة لمناقشة الحدود بين حرية المعتقد، وحرية الدين، والحق في التجديف. وسمح للذين قد يشعرون بالإساءة ألا يحضروا الصف.  

ومع ذلك، نشر والد أحد الطلاب (الذي لم يكن حتى في الصف في ذلك اليوم) مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي قال فيه إن باتي طرد الطلاب المسلمين من الصف في محاولة لإذلالهم. وقد حظي الوالد – الذي انضمت أخته غير الشقيقة إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في سوريا» عام 2014 وفقاً للمراسل الفرنسي ماتيو سوك – بدعم الناشطين الإسلاميين الذين شنوا حملة عبر الإنترنت ضد باتي. ورغم محاولات وزارة التربية الوطنية للتواصل مع الوالد لتوضيح الموقف، إلا أن الحملة اكتسبت زخماً كبيراً في غضون أسبوع لدرجة أنها أقنعت عبدالله، الذي كان يعيش في مدينة فرنسية أخرى على بعد ستين ميلاً، على السفر بالسيارة إلى المدرسة التي يدرّس فيها باتي وقتله في الشارع.  

النقاش الأكاديمي والسياسي في فرنسا حول الإرهاب

تفمثل جريمة القتل مفترق طرق للجدل المحلي بين نشطاء إسلاميين وهجمات جهادية. ففي فرنسا، سيطرت ثلاث وجهات نظر على النقاش الدائر حول العلاقة بين التهميش الاجتماعي، والإسلاموية، والعنف. ويشرح جيل كيبيل في كتابه “الإرهاب في فرنسا: صعود الجهاد في الغرب”، المسارات الإيديولوجية والشخصية للمسلمين الفرنسيين الشباب نحو التطرف والعنف. ويعترض باحث فرنسي مشهور آخر، أوليفييه روي، على محاورة كيبيل، في كتابه من عام 2017 بعنوان “الجهاد والموت: النداء العالمي لتنظيم «الدولة الإسلامية»”، حيث كتب أن المواطنين الفرنسيين المحرومين من حقوقهم، وهم مهاجرون من الجيل الثاني أو الثالث، قد عملوا بشكل مصطنع “على أسلمة” أنماط العنف الموجودة مسبقاً، ويعود ذلك جزئياً بسبب الانفصال عن ثقافة والديهم ودينهم. وتم تحديد التفسير الثالث من قبل فرانسوا بورغات، الذي يجادل في كتابه من عام 2019 بعنوان “فهم الإسلام السياسي” أن الإرهاب هو في الغالب رد فعل على تصور للعنف السياسي ضد المسلمين المتجذر في إرث الاستعمار الفرنسي والتدخلات الغربية في العالم العربي.

ويُعيد كل هجوم إرهابي في فرنسا إحياء هذا الجدل ويؤثر على المناقشات السياسية، حتى عندما يحدث في مدينة من الطبقة الوسطى مثل إيراغني. ويتناول أساساً التشريع الفرنسي الذي تمّ تقديمه في 2015 و 2017 الأبعاد الأمنية البحتة لمكافحة الإرهاب. ولكن في خطاب ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2 تشرين الأول/أكتوبر، عرض مبادئ قانون جديد يهدف إلى معالجة القضايا المرتبطة بالجذور الاجتماعية للتطرف، ويستهدف بشكل خاص الحملات التي تقودها جماعات [أنشأت ثقافة] شبيهة بالغوغاء أدت إلى مقتل باتي.

وقد شبّهت بعض ردود الفعل الدولية بشكل خاطئ خطاب ماكرون بخطوة يمينية متطرفة، أي “استفزاز ضد المسلمين” في كافة أنحاء العالم، أو محاولة للسيطرة على الدين. ومع ذلك، كان خطابه يتمحور عموماً حول القضايا الفرنسية المحلية ويتماشى مع تقليد “العلمانية” الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمن. وبالفعل، ذكّر الخطاب بالحياد الديني لمؤسسات الدولة وموظفيها، وإطار الحوار الذي تتّبعه الدولة في التعامل مع المنظمات الدينية لإدارة قضايا الأمن والصحة العامة مع تجنب التدخل في الأمور الدينية.

وعلى الصعيد المحلي، انصبّ تركيز الشعب الفرنسي بشكل رئيسي على فكرة “الانفصالية” المذكورة في الخطاب. وتم استخدام هذا المصطلح لوصف المحاولات الإسلامية للتحايل على مفهوم “العلمانية”، من بين أنواع أخرى من “الانفصالية”، ولكنها انتُقدت باعتبارها وصمة للمسلمين الفرنسيين. وعلى نطاق أوسع، أكد الخطاب على حرية الدين وأقر بالتحديات الاجتماعية والتاريخية الكامنة وراء التطرف الداخلي، بما في ذلك التمييز، والحرمان الاقتصادي، وإرث فرنسا الاستعماري. كما حقق توازناً واضحاً، حيث دعا إلى حماية حقوق المسلمين الفرنسيين وتحسين فرصهم مع التأكيد على مراقبة أكثر صرامة للأنشطة الإسلامية.

وتهدف المجموعة الأولى من الإجراءات إلى السيطرة على النفوذ الديني الخارجي بشكل أكثر صرامة فيما يتعلق بالتمويل والتجنيد. أما المجموعة الثانية، فترمي إلى تحسين طريقة إدارة المنظمات الإسلامية الفرنسية لأداء شعائرها الدينية، وتطوير برامج لتدريب الأئمة الفرنسيين، والتعامل مع مؤسسات الدولة على المستوى المحلي. ويسعى بعد ثالث إلى دعم المنظمات المدنية العلمانية في ظل تشديد الرقابة على المنظمات الإسلامية. وتهدف أولوية رابعة إلى إعادة الاستثمار في الخدمات العامة ضمن الأحياء الفقيرة، وخاصة برامج التعليم العام وإعادة التأهيل الحضري، مع مكافحة الممارسات التمييزية في التوظيف وفرص الإسكان. على سبيل المثال، أعلن ماكرون عن توظيف المزيد من المعلمين لخفض عدد التلاميذ في كل صف، فضلاً عن افتتاح أربعين مركزاً مجتمعياً جديداً وثلاثمائة مركز خدمة عامة محلي في مناطق الطبقة العاملة.
وإذ تمّ تنفيذ عملية قطع رأس مُدرّس بتحريض من ناشطين إسلاميين متطرفين، فهذا يؤكد بشكل كبير أهمية اعتماد هذه الأجندة وسيرسم بالضرورة معالم النقاشات البرلمانية المقبلة. وأكثر من أي وقت مضى، ستكون حادثة “شارلي إبدو” قضية محورية في فرنسا، وحتى أصبحت بشكل أكبر مسألة مبادئ مع موت باتي – “شهيد جمهوري” آخر. وإلى حد ما، لم تعد مجلة “شارلي إبدو” تنتمي بعد الآن إلى مجتمعها الصغير من القراء. وأدى مقتل موظفيها إلى تحويل المجلة الفظة والمتمردة إلى أيقونة رسمية تحمل رسالة بسيطة: في [دولة] ديمقراطية، لا ينبغي لأحد أن يموت من أجل رسم، بغض النظر عن موضوع الرسم.

وخارج إطار القوانين، تعتمد استدامة مبادئ مثل “العلمانية”، وحرية المعتقد، وحرية التعبير ضمن المجتمع الفرنسي إلى حدّ كبير على كيفية تطبيقها في الحياة اليومية. فقد أعرب الشعب الفرنسي، بما في ذلك المسلمين االمقيمين لشعائر دينهم، مراراً وتكراراً عن تعلّقه الكبير بهذه المبادئ المجتمعية “المنظِّمة”، وستقع مسؤولية تطبيق إطار “العلمانية” المتجدد الذي اقترحه ماكرون على عاتق الشعب.  

وبصرف النظر عن رد الشرطة والقضاء على مقتل باتي، يبقى السؤال الأساسي هو مسألة الصمود. وقد أثبت المجتمع الفرنسي قدرته على الصمود بعد الهجمات الإرهابية عام 2015. وعلى الرغم من أن البعض توقع اندلاع حرب أهلية في ذلك الوقت، إلّا أن الملايين تظاهروا معاً في فرنسا بعد أيام من الهجوم على مجلّة “شارلي إبدو”. وبالمثل، تجمّع الفرنسيون من جميع الخلفيات في الساحات العامة منذ مقتل باتي. وفي حين تستهدف الأصوات اليمينية المتطرفة أساساً الأجانب وسياسات الهجرة، إلّا أن العديد من الشخصيات العامة والسياسيين أكدوا أن هدف المنظمات الإرهابية مثل تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«القاعدة» هو تقسيم المجتمعات متعددة الثقافات وزرع بذور الاقتتال الداخلي بين الأديان في أوروبا. ومع تقديم مشروع القانون الجديد إلى البرلمان، يمكن أن يساعد النقاش العام الصريح حول الدفاع عن العلمانية في هزيمة تلك الأهداف.

الخاتمة

تم قطع رأس مُدرِّس لمجرد أنه كان يؤدي عمله، وردّ الفرنسيون بالصدمة والغضب. وسيكون التوازن الذي أظهره الرئيس ماكرون في خطابه في 2 تشرين الأول/أكتوبر – إعادة الاستثمار في التلاحم الاجتماعي مع عزل التطرف المحلي ومحاربته – حاسماً في معالجة الأسباب الجذرية لارتكاب مثل هذه الجريمة الرهيبة والحفاظ على تماسك المجتمع الفرنسي لمواجهة التطرف. وسيكون التصدّي للقنوات المحرّضة للهجمات على نفس القدر من الأهمية – سواء كانت هذه القنوات دعاية لتنظيم «الدولة الإسلامية» أو مؤسسات محلية.

والآن أكثر من أي وقت مضى، ستبقى محاربة الإرهاب من أبرز أولويات السياسة الخارجية للحكومة الفرنسية. بالإضافة إلى ذلك، ستظل الشراكات مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط مثل العراق – التي زار رئيس وزرائها مصطفى الكاظمي باريس في 19 تشرين الأول/أكتوبر – ذات أهمية قصوى. وللأسف، أكّدت جريمة عبدالله أنزوروف أن التطرف العنيف المحلي غالباً ما تكون له أبعاد دولية.

*تشارلز ثيبوت هو زميل زائر مقيم في معهد واشنطن.

6

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى