الصراع الفلسطيني الاسرائيليغزة

معهد دراسات الأمن القومي – عن الردع والمعادلات والترتيبات والاستراتيجية

معهد دراسات الأمن القومي – بقلم  عاموس يدلين – 24/7/2018

نقطة بدء نقاش التطورات الأخيرة في قطاع غزة هي أن الصواب حقيقة الابتعاد عن المواجهة في الوقت الحالي، ودراسة نقطة خروج كل واحد منالطرفين المتورطين فيه واستراتيجيتهما لتحقيق الأهداف الوطنية المركزية.

دراسة كهذه ستظهر أنه وبمصطلحات الأمن القومي، دولة إسرائيل لم تكن على الإطلاق أقوى. تفوقها العسكري في محيطها الاستراتيجي تفوق صلب؛ تمتلك مجتمعًا استخباريًا نوعيًا وسلاح جو ممتاز ومنظومة دفاعية متطورة في مواجهة القذائف والصواريخ، وتفوق تقني كبير، وعلاقاتها مع الدول العربية من فوق ومن تحت الطاولة تتركز حول المصالح المشتركة، ودعمها من قبل البيت الأبيض غير مسبوق، وعلاقات الثقة تسود بين إسرائيل وموسكو.

مقابل ذلك، حماس تنتقل من فشل إلى آخر، حكمها في قطاع غزة أدى إلى أزمة اقتصادية وإنسانية خطيرة في هذه المنطقة، وعلى الساحة السياسية العالم العربي يعاديها ويرى فيها وكيلًا للإخوان المسلمين وإيران، وعلى الساحة العسكرية يقف التنظيم أمام عقبات خطيرة لا تسمح له بأن يطور تهديدًا خطيرًا على دولة إسرائيل، إذ أن الصواريخ التي يمتلكها بالفعل تحيّد من قبل منظومة القبة الحديدية، والأنفاق التي حفرها تحت السياج الحدودي تُكتشف وتُدمر بيد الجيش الإسرائيلي، وإدخال الذخيرة والسلاح من خارج قطاع غزة يُواجه مصاعب إثر أعمال المنع المصرية الفاعلة في سيناء، حتى على الساحة الفلسطينية الداخلية؛ فالصراع بينه وبين فتح بعيدًا عن الحل، رغم المحاولات الكثيرة لدفع اتفاق بين المعسكريْن.

لكن ورغم عدم التكافؤ القاطع هذا في موازين القوة، تنجح حماس في تحدي إسرائيل، وفي أن تحقق مرة أخرى “تعادلًا استراتيجيًا”، فقد استطاعت حماس ان تُآكل الردع الإسرائيلي الذي أوجد في أعقاب معركة “الجرف الصامد” صيف 2014، وأن تخرق الهدوء الذي ساد الجنوب من حينها وتحاول وضع معادلات وقواعد عمل جديدة. رغم ان حماس لم تخطط لمسيرة العودة ولا هجمات الحرائق من خلال الطائرات الورقية والبالونات؛ إلا أنها وجدت فيها قناة عمل كانت وما تزال جذابة، وجعلت منهما مجهوديْن تنفيذييْن مركزييْن.

كلا الطرفين لا يرغبان بالحرب، إسرائيل تكتفي بالهدوء مقابل الهدوء وتجديد الردع، حماس من جانبها معنية أولًا وقبل أي شيء باختراق “الحصار” بهدف إنعاش الاقتصاد في القطاع وتحسين الظروف المعيشية فيه، بل وتمكينه من التقوّي عسكريًا بشكل متسارع، ومن خلال كل هذا تسعى لتثبت بأن طريق “المقاومة” التي تعمل على نهجها كانت وما زالت الحل الصحيح والأكثر جدوى للشعب الفلسطيني ضد إسرائيل.

إسرائيل – التي أبدت إصرارًا على إحباط توجهات حماس في اختراق السياج الحدودي بهدف تنفيذ اختطاف أو الانقضاض على مستوطنة إسرائيلية والمساس بالمواطنين والجنود – تجد صعوبة في العثور على استجابة تشغيلية للطائرات الورقية والبالونات التي تطلق باتجاه اراضيها وتمس بسيادتها وتتسبب بأضرار بيئية واقتصادية وتوعوية كبيرة، والحقيقة أنه ورغم الضرر الذي توقعه الحرائق فإنها في نهاية المطاف لم تعرض حياة الإنسان للخطر، وقد خلقت جدلًا شعبيًا إسرائيليًا حول الاستجابة المناسبة، الجدل الشعبي المشروع في مجتمع ديمقراطي وكذلك التسريبات من جلسات الكابينت – إلى جانب سياسة استخدام النيران الحذرة في عمل قوات الجيشالإسرائيلي – أوضحت لحماس بأن إسرائيل مردوعة أمام جولة مواجهة أخرى على جبهة غزة. بشكل متناقض، استعداد إسرائيل للخروج إلى عملية عسكرية واسعة ضد حماس في غزة هو بمثابة عامل لاجم ومهدئ، وفي المقابل الإحجام عن عملية يمكن أن تقودها إليها بشكل مرجح.

حماس فهمت جيدًا إحجام إسرائيل عن جولة أخرى، وحاولت فرض معادلتيْن جديدتيْن “القصف بالقصف” و”الدم بالدم”، نجاحها في تأسيس المعادلة الأولى من خلال إطلاق قذائف الهاون والصواريخ على غلاف غزة، بعد ان أحبط الجيش الإسرائيلي محاولات اختراق الجدار الحدودي، شجعها على محاولة فرض معادلة المساس بالإسرائيليين بعد ان قتل الكثير من الفلسطينيين في المواجهات على السياج. الجمعة (19 يوليو) أطلقت النار على جندي إسرائيلي من قبل قناص فلسطيني وتبنت حماس المسؤولية عن العملية، وإن لم يكن هناك ما يثبت بأن العملية بادر بها أو صودقت من قبل قيادة التنظيم (تواجد رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية على الحدود، وحقيقة ان رجال الجناح العسكري الذين كانوا في نقطة مراقبة لم يخلوها قبل إطلاق النار؛ دليل على أنه من المحتمل ان العملية نفذت دون علم القيادة أو قرارها).

إسرائيل هي الأخرى تحاول تصميم معادلات خاصة بها: “إرهاب” النار الذي يمس بالسكان المدنيين – حتى ومن دون خسائر في الأرواح – سيُرد عليه بوقف إدخال البضائع والوقود ومواد البناء إلى القطاع، والمساس بجنود الجيش الإسرائيلي أو إطلاق القذائف على مستوطنات غلاف غزة سيُرد عليه بهجوم مركز على مواقع حماس، وتدفيعها ثمنًا باهظًا في هذه المرحلة في الممتلكات على وجه الخصوص، وليس في الأرواح.

بعد نهاية الأسبوع الأخير، يزعم الطرفان في ذات الوقت بنجاحهما في فرض معادلاتهما، لكن كليهما غير مقنعين، مزاعم حماس لا توافق الحقائق: دفع التنظيم ثمنًا باهظًا نتيجة عمليات الجيش الإسرائيلي في القطاع، ولم يرد بـ “القصف مقابل القصف”، وكذلك دماء أعضاء الجناح العسكري الثلاثة الذين قتلوا نتيجة رد الجيش الإسرائيلي على مقتل الجندي بنيران القناصة لم يُنتقم لهم (إلى الآن)، وما يزال من المبكر الحكم فيما إذا كانت إسرائيل حققت وقف “إرهاب” الحرائق أو أنها جددت الردع أمام حماس. يبدو ان حماس ما تزال تقدّر بأن إسرائيل محجمة عن القيام بمواجهة واسعة النطاق، الأمر الذي يُمكن ان يشجع التنظيم على محاولاته المساس بإسرائيل، ومع ذلك واضح أيضًا لحماس أن هناك حدود لقدرة إسرائيل على ضبط النفس، وإذا تجاوزتها لا تستطيع إسرائيل الامتناع عن الرد الموسع.

هكذا أوجد ذات التعادل الاستراتيجي غير المتكافئ الذي تقرر مع انتهاء عملية “الجرف الصامد”. في ميزان القوة الصعب والحرب الحركية، لدى إسرائيل بدون شك إنجازات كبيرة: حدودها لم تخترق، ومواطنوها لم يصابوا، ومواقع إنتاج السلاح ومعسكرات التدريب ومخازن حماس محيت عن وجه الأرض في هجمات سلاح الجو؛ وما تزال حماس تخرج بشعور من أنجز، فقد طرحت مجددًا ملف غزة على جدول الأعمال من الجوانب الانسانية والسياسية، وأضرت بصورة إسرائيل، ونحتت الشعور بالأمن لدى سكان الغلاف، وتحدت السيادة الإسرائيلية في منطقة الحدود.

بهدف خرق التعادل المستمر، على إسرائيل أن تصمم استراتيجية مبادرة لا ان ترد وتجر، يجب اعتماد أسلوب هدفه تغيير الواقع وليس تقديس الوضع الراهن. طيف الخيارات يجب أن يتضمن خطوات سياسية وخطوات عسكرية، مع التأكيد على الجمع المناسب بينهم.

الصيغة التي اقترحتها الحكومة الإسرائيلية بعد “الجرف الصامد” (الإعمار مقابل نزع السلاح) رفضتها حماس بشكل قاطع، وتمسكت برفضها لنزع سلاحها مقابل أي هدف لأعمار القطاع، سواء لصالح رفع الحصار أو لصالح اتفاق مع فتح والسلطة الفلسطينية، ومحاولات الإقناع المصرية والجهات الدولية لم تكلل في الوقت الحالي بأي نجاح. فكرة “الهدنة” (وقف إطلاق النار طويل الأمد) ليست واقعية، المعايير التي قدمتها حماس كشرط لاتفاق “هدنة السنوات الطويلة” أخطر على إسرائيل من الشروط التي فشلت بسببها مرة تلو أخرى المفاوضات بيت حماس وفتح والسلطة الفلسطينية. في المقال الذي نشرته “واشنطن بوست” الأسبوع الماضي، الطاقم الذي عينه الرئيس الأمريكي حاول دراسة جدوى “صفقة القرن الصغيرة” في قطاع غزة، عبّر عن فهمه بأنه من غير الممكن دفع إعمار غزة إثر رفض حماس التنازل عن هويتها كتنظيم “إرهابي” والتخلي من سلاحها.

لكن يجب ويمكن محاولة دفع تفاهمات أكثر تواضعًا: هدنة محدودة تتضمن الاتفاق على معايير تستطيع كل من إسرائيل وحماس أن يتعايشا معها، شرط مثل هذا الاتفاق هو وقف شامل “للإرهاب” من غزة وإعادة المواطنين وجثث المفقودين الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس؛ بعد ذلك مباشرة يُقدم برنامج لتحسين الوضع الإنساني في غزة وإقامة مصانع بنيوية في مجال الكهرباء والمياه والمجاري والنقل، ويتم التوافق على فتح مراقب للمعابر المؤدية إلى قطاع غزة وفق معايير أمنية مشددة، لا يُطلب من حماس تفكيك جناحها العسكري، لكن تعهد بتجميده وعدم العمل على تقوية أخرى (من المهم القول بأن إسرائيل في الأصل حيّدت القدرتيْن العسكريتيْن الأساسيتيْن لدى حماس: سلاح الصواريخ والأنفاق).

الحكومة الإسرائيلية المعنية بتجدد العملية السلمية تدفع أيضًا باتجاه إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة لكن وفق شروط ابو مازن “سلطة واحدة وسلاح واحد” من خلال استبعاد نموذج حزب الله، الذي تريد حماس ان تتصرف وفقه. مصر ووفق مصالحها هي شريك كامل في أي اتفاق مصالحة فلسطينية داخلية تعيد السلطة إلى غزة.

إذا لم تنجح خطوات الاتفاق وتمسكت حماس بمواقفها وواصلت تحدي إسرائيل عسكريًا، فلن يكون هناك مناص سوى الاستعداد لعملية عسكرية واسعة النطاق في القطاع، الهدف الأدنى لعملية كهذه يكون المساس الشديد جدًا بحماس، وسيما الجناح العسكري، بهدف تأسيس ردع فاعل لوقت طويل يسمح بفرض اتفاق أكثر استقرارًا (هدنة محدودة) بمعايير توفر استجابة للأزمة الإنسانية في غزة والأمن والهدوء في الجانب الإسرائيلي على الحدود، وذلك بتأسيس منظومات فاعلة تؤكد أن حماس لا تبني قدرات عسكرية جديدة ولا تحظى بإنجازات سياسية تعزز قوتها على الساحة الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى