ترجمات أجنبية

معهد بروكينغز- جيفري فيلتمان – مؤتمر برلين حول ليبيا : هل سيقوض الرياء النتائج؟

معهد بروكينغز  –  جيفري فيلتمان* –  21/1/2020

عبر إقصاء ليبيا علناً من المشاركة، يكون مؤتمر برلين حول ليبيا الذي أقيم في نهاية الأسبوع الماضية قد انتهك توجيهات الأمم المتحدة من أجل الوساطة الفعّالة للعام 2012، وتشديد هذه التوجيهات على توخي “الشمولية” و”المُلكية الوطنية” كعنصرين أساسيين للحلّ السلمي للصراعات. لكنّ البيان المفصّل لمؤتمر برلين، الذي يغطّي مجموعة واسعة من القضايا، يشير إلى أنّ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والمبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، يستحقّان فضلاً أكبر بكثير من الذي سينالانه على الأرجح، بما في ذلك الفضل في التركيز في هذه المرحلة على الجهات الفاعلة الخارجية وليس الجهات الليبية، وفي إعادة جلب انتباه العالم إلى الصراع الليبي. وكان المؤتمر متماشياً مع منطق خطّة العمل ثلاثية الأقسام التي قدّمها سلامة لنيل تأييد مجلس الأمن في تموز (يوليو): هدنة لعيد الأضحى؛ ومؤتمر دولي (مثلاً في برلين)؛ وعملية سياسية بقيادة ليبيا ورعاية الأمم المتحدة.

يمثّل مؤتمر برلين مفترق طرق، فإمّا أن تُطبّق الجهات الفاعلة الخارجية ما التزمت ظاهرياً بالقيام به، بما في ذلك الانصياع لحظر السلاح الدولي المفروض على ليبيا (مُطبّق منذ العام 2011 ويُجدّد سنوياً) أو تُبيّن مرّة أخرى رياءها في دعم الصراع المتجدّد في البلد.

المشهد في ألمانيا

في برلين، تمكّن سلامة وميركل، على الورق على الأقل، من تملق الجهات الفاعلة الخارجية التي تسبّبت بمفاقمة المآسي الليبية وإقناعها بالتوقيع على أجندة موحّدة. وقد انضمّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى قرابة اثنتي عشرة شخصية أخرى (مع وزير الخارجية مايك بومبيو مُمثّلاً الولايات المتحدة) للإعلان عن نيّة لإنهاء التدخّل الأجنبي في مسائل ليبيا الداخلية، وورد في البيان: “نلتزم بالامتناع عن التدخّل في صراع ليبيا المسلّح أو شؤونها الداخلية ونحثّ كلّ الجهات الفاعلة الدولية على أن تحذو حذونا”، وهذه لغة يأمل المرء أن يُطبقها المشاركون على الأرض بنيّة حسنة (وهو ما سيكون غير اعتيادي بالنسبة لبعضهم).

أبدى سلامة جدّية حيال مسألة المتابعة، إذ وضع مع فريقه خطةَ عمل، مُلحقة بوضوح بالبيان (وتمّ اعتمادها في البيان وتحظى بالتالي بمباركة المشاركين)، وتشمل لجنة عسكرية مشتركة سبق أن وافقت الجهتان المتحاربتان في ليبيا على تعيين ممثّلين لهما فيها. ويبدو أنّ البيان يحلّ بعضاً من الاحتكاك الدبلوماسي المزعج والقديم والمشتِّت بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في ما يخصّ ليبيا عبر وضع الأمم المتحدة في الواجهة. (وقد سبق وأن فعل مجلس الأمن ذلك مراراً وبأصوات أفريقية، مسبباً امتعاضاً لدى أديس أبابا. وقد تكون ليبيا مشكلة “أفريقية” حقاً، لكنّها مشكلة عربية وأوروبية ودولية أيضاً). كما تمّ التعامل بعقلانية مع الشكاوى السياسية والاقتصادية الكامنة في نزاعات ليبيا الداخلية، التي سيكون الليبيين وحدهم قادرين على حلّها.

باختصار، ينبغي النظر إلى مؤتمر برلين على أنّه المحاولة الأكثر جدّية منذ سنوات لمعالجة العوامل الدولية المُسبّبة للويلات في ليبيا. وجاء منطقُ إقصاء الليبيين، المتماشي مع العرض الذي قدّمه سلامة أمام مجلس الأمن في تموز (يوليو)، من واقع أنّ الجهات الفاعلة الخارجية هي التي تؤمّن الأسلحة والطائرات المُسيّرة المتطوّرة والمرتزقة والجنود الذين يسمحون لكلّ جهة من الجهتَين الليبيتين بأن تعتقد بأنّها قادرة على إخضاع الأخرى عسكرياً، متفادية الحاجة إلى تسوية سياسية قاسية.

السؤال الأساسي الآن بطبيعة الحال هو ما إذا كان أي من ذلك أهمّيةٌ ستكون له أهمية عملية على الأرض بالنسبة للسكّان الليبيين الذين يعانون. ويعتمد الجواب على ما ستقوم به الآن تلك الجهات الخارجية الأساسية، ولا سيّما تلك التي تتساهل مع رغبة خليفة حفتر الدموية في أن يصبح “القائد المُفدّى” العتيد لليبيا.

باختصار، يواجه الليبيون احتمالي التصعيد أو التهدئة، مع تحكّم العناصر الدافعة الخارجية بالدفّة. لكن تاريخ الجهات الفاعلة الخارجية من الميل نحو التهدئة ولجْم الجهات الليبية الوكيلة لها عقب اللقاءات الدولية السابقة (مثلاً في باريس أو باليرمو) ليس واعداً، للأسف.

رقعة الشطرنج الليبية

بناء على إصرار الرئيس الروسي، كان فايز السرّاج، رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً، وخليفة حفتر، الرجل الذي عيّن نفسه قائداً لما يُفترض أن يكون الجيش الوطني الليبي الذي يُحاصر طرابلس منذ نيسان (أبريل)، حاضرَين في العاصمة الألمانية. لكنهما لم يشاركا في المؤتمر ولا التقيا على انفراد، وبشكل مقصود، وبعد ذلك أطلعهما الألمان ومسؤولو الأمم المتحدة على نتائج المؤتمر.

بإمكان السرّاج وحفتر على حدّ سواء، في حال أرادا ذلك، اختيار ما يناسبهما من البيان وخطّة عمل الأمم المتحدة للادّعاء بأنهما حقّقا إنجازات من ناحية أهدافهما المُعلنة والدفع بمؤيّديهم نحو الانتقال من مقاربة عسكرية إلى أخرى سياسية. ويبدو أنّ السرّاج متقبّل للموضوع، حتى لو لم يكن قادراً على الشعور بالارتياح حيال فكرة أنّ المفاوضات السياسية المُقبلة ستُفضي إلى استبداله واستبدال حكومته بحكومة موثوقة أكثر وذات طابع تمثيلي وشمولي حقيقي. لكن الشكوك تبرز في أن يشعر حفتر، بشكل خاص، بكامل ثقل الضغط المستمرّ الذي تضعه روسيا ومصر والإمارات وفرنسا ليعيد النظر في رؤيته القاضية بتحقيق احتلال بطولي لطرابلس بالقوّة.

من خلال رفض اقتراح وقف إطلاق النار الذي تقدّمت به روسيا وتركيا مؤخراً (والذي قبل به السرّاج)، أبدى حفتر تجاهلاً غريباً لموسكو، نظراً إلى أنّ موسكو نشرت في الأسابيع الماضية مرتزقةً من مجموعة “واغنر” في البلد، وهو ما منح حفتر أفضلية تكتيكية في معركة طرابلس. ويبدو أيضاً أنّ حفتر فوّت فرصة التخفيف من زخم الحشد العسكري التركي “العثماني الجديد” المستمرّ في ليبيا لمواجهة الدعم الروسي الذي يناله، مع ظهور تقارير عن وصول ما يقرب من ألفَي عنصر سوري تركماني إلى الأراضي الليبية واحتمال إرسال الآلاف غيرهم.

عبر خنق الصادرات النفطية الليبية (التي انخفضت الآن إلى 72 ألف برميل في اليوم بعد أن كانت 1.2 مليوناً قبل أسبوع) كما استخلص المشاركون في برلين، برهن حفتر على ازدرائه لمبادرة ألمانيا والأمم المتحدة أو أيّ خطوة أخرى نحو تحقيق التسوية السياسية. ولا شكّ في أنّه بحلول اللحظة الراهنة، مع ادّعاءات حفتر المتكرّرة منذ نيسان (أبريل) “بتحقيق النصر في غضون أيّام”، أصبح حتّى داعمو حفتر الخارجيون يدركون أنّه ليس المخلّص والموحِّد الذي يدّعيه. غير أنّ مصر والإمارات العربية المتحدة نظرتا إليه -حتّى انعقاد مؤتمر برلين على الأقل- باعتباره رهانهما المفضل ضدّ الإسلاميين الذين تربطانهم بحكومة الوفاق الوطني.

من جهتهم، يبدو روسيا وبعض القادة الأفريقيين يعتبرون حفتر وسيلة لنقض “الإذلال” الذي تسبّب به خلع العقيد معمّر القذّافي في العام 2011. فحفتر، الذي يفاخر بادّعاءات مشكوك في صحّتها بأنّه حاول إسقاط القذافي قبل العام 2011، يتعامى بشكل نرجسي عن احتمال أنّ الروس يستغلّونه لإعادة نظام شبيه بنظام القذّافي (ربّما في شخص ابن معمر القذافي سعيد، حسب الإشاعات التي وردت في الأوساط الطرابلسية ذات النظريات المؤامراتية).

فرصة واشنطن

من المفترض أن يتبيّن في غضون الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كان مؤتمر برلين سيجلب استئنافاً لعملية سياسية بنّاءة أم أنه سيصبح مجرّد حاشية في تاريخ العنف المُندلع بعد العام 2011 في ليبيا والمُتأجّج بفعل عناصر خارجية. وعلى الرغم من التفاصيل الواردة في بيان مؤتمر برلين الذي فيه ما يناسب الجميع، سرعان ما ستظهر اختلافات واضحة في تفسيره وفي تحديد أولوياته بين الجهات الفاعلة الخارجية والجهات الليبية الوكيلة لها. ولمراقبة عملية التنفيذ وتشجيعها، أنشأ مؤتمر برلين لجنة متابعة دولية تلتئم في اجتماعات عامة شهرية على مستوى كبار المسؤولين ومرتين في الشهر في أربع لجانٍ فنّية.

ولكن، حتى تكون آليات المتابعة فعّالة، فإنها بحاجة إلى جهة مُنفّذة قوية، والتي عادة ما تكون الولاياتِ المتحدةَ في دور تؤدّيه خلف الكواليس، للحرص على جدّية العمل. بيد أنّه على الرغم من مشاركة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في مؤتمر برلين، تبدو السياسة الأميركية حول ليبيا وكأنها تسير على غير هدى، مع اعتبار واشنطن الوضعَ الليبي “مشكلة أوروبا”. وفيما تدعم كلّ من روسيا وتركيا إحدى الجهتين المتعارضتين في الصراع الليبي، فقد حاولتا ملء الفراغ الذي خلّفه الغياب الأميركي. وقد يطمح الاتّحادان الأفريقي والأوروبي إلى الحذو حذوهما.

غير أنّ أي جهة فاعلة أخرى لا تستطيع أن تضاهي القوّة الكاملة لماكينة الدبلوماسية الأميركية التي قد تحث على تطبيق بيان مؤتمر برلين. وبفضل برلين والأمم المتحدة، أصبحت لدى واشنطن الآن خطّةٌ واضحة وضعها مؤتمر برلين حول ما ينبغي على المجتمع الدولي فعله. وفي هذه الحالة، سيكون امتناع الإدارة الأميركية عن تولي زمام الأمور بخصوص ليبيا حتّى الآن أمراً مفيداً: فمع مصالح مباشرة أقلّ وانخراط أقلّ من الجهات الفاعلة الخارجية الأخرى، تستطيع واشنطن أن تكون الجهة الأكثر فعالية في تعزيز عملية التطبيق.

نظراً إلى أنّ النجاح ليس مضموناً، يستحقّ الألمان إسناد الفضل إليهم في المخاطرة باستغلال المكانة والثقل السياسي اللذين تتحلّى بهما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لدعم جهود الوساطة التي تبذلها الأمم المتحدة لإنهاء الصراع الليبي. وإذا طبّقت الجهات الفاعلة الخارجية الالتزامات التي تعهدّت بها في برلين، يمكن أن ينتقل التركيز إلى المرحلة التالية من اقتراح الأمم المتحدة حول ليبيا، أي إجراء محادثات داخلية ليبية حول مجموعة من القضايا، بما فيها الأمن والاقتصاد والمالية والسياسة. ولكن، لا بدّ من تذكُّر أن الخطط للمحادثات الداخلية الليبية في أواسط نسيان (أبريل) دفعت إلى اتّخاذ حفتر قراره بمهاجمة بطرابلس لأنّه فضل ذلك على التعامل مع ليبيّين تختلف رؤيتهم للبلاد عن رؤيته. وبعبارة أخرى، لا يكفي أن تنتقل الجهات الفاعلة الخارجية الآن إلى لعب دور سلبي هامد، وإنما عليها استعمال نفوذها لإقناع حلفائها الليبيين بالالتقاء ووضع ترتيبات سياسية لإعادة توحيد البلاد.

*زميل جون سي. وايتهيد الزائر للدبلوماسية الدولية في معهد بروكينغز.

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى