معهد القدس للاستراتيجية والأمن: الحسم والنصر

معهد القدس للاستراتيجية والأمن – البروفيسور غابي سيبوني والعميد إيريز فينر – 16/12/2025 الحسم والنصر
مقدمة
`تجمع إدارة النزاعات بين استخدام الأدوات السياسية والاقتصادية والقانونية والأيديولوجية والثقافية والعسكرية. وتشمل مجالات العمل التي تُستخدم فيها هذه الأدوات مستوياتٍ متعددة، مما يستلزم توضيحًا وتعريفًا دقيقًا للمصطلحات الأساسية المستخدمة في تعريفها والأنشطة التي تُنفذ ضمنها، وذلك لصالح كلٍّ من العناصر المهنية وعامة الجمهور. تبدأ مستويات العمل من المستوى التكتيكي، مرورًا بالمستوى المنظوماتي، ثم المستوى الاستراتيجي، وصولًا إلى مستوى الأمن القومي، وهو المستوى السياسي العام. في كل مستوى، من الضروري وضع لغة مشتركة تصف الإنجازات المطلوبة التي تتناسب مع ذلك المستوى من العمل؛ وفي هذا السياق، غالبًا ما يُستخدم مصطلحا “الحسم” و”النصر” دون توضيح معناهما.
إن الفرق بين “الحسم” و”النصر” ليس مجرد فرق لفظي، بل هو جوهري لفهم مدى النجاح في تحقيق تحسين في وضع الأمن القومي من خلال الحروب، ومنع تكرار الإخفاقات الاستراتيجية. في السياق الإسرائيلي، تتطلب هذه المصطلحات نقاشًا متجددًا بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، التي أدت إلى حرب النهضة، والتي لا تزال حاضرة بقوة حتى اليوم في ظل وقف إطلاق النار الهش الذي تم التوصل إليه في أكتوبر 2025.
على مر السنين، دار نقاش حاد حول مصطلحي “الحسم” و “النصر”، لا سيما في أبعادهما العسكرية. ومع ذلك، فقد أدى استخدام هذين المصطلحين في سياق حرب النهضة أحيانًا إلى إرباك الممارسين. لذا، سنحاول في هذه المقالة تحليل كلا المصطلحين من منظور الحرب. ويُطرح، لأغراض النقاش، أن مصطلح “الحسم” يُستخدم في المجال التكتيكي والمنهجي للقتال العسكري، بينما يُستخدم مصطلح “النصر” في مجال الاستراتيجية الكبرى والأمن القومي، ويعبر عن تحقيق الأهداف السياسية للحرب، مما يؤدي إلى تحسن طويل الأمد في الوضع الأمني للبلاد.
الحسم
إن تعريف المصطلحات العسكرية ليس مسألة فنية بحتة، بل هو أساس للعقيدة العسكرية التي تؤثر على التخطيط العملياتي، وتدريب القوات، وصنع القرار السياسي، والوعي العام. وعلى مر السنين، صدرت العديد من المنشورات في سياق الحسم والنصر. ويُعرّف قاموس الجيش الإسرائيلي مصطلح الحسم بأنه “كسر مقاومة العدو للتحرك بفعالية ضدنا، من خلال تهيئة وضع (يرى فيه صاحب القرار) تتوافر فيه شروط تحقيق المهمة المحددة”. تتجلى حالة الحسم في فقدان العدو قدرته على العمل بفعالية ضدنا.
لقد صِيغ مصطلح “الحسم” لوصف حالة استنفاد قدرة العدو ووصوله إلى حالة من العجز التام في عمل واحد، أو حالة استسلامه. يثير هذا التعريف عدة تساؤلات تستدعي الدراسة.
سؤال العدو: في أي سياق يُحلل جانب الحسم؟ في السياق العسكري، يُمثل العدو مجموع قدراته العسكرية على ممارسة القوة ضدنا. وفي هذا الصدد، يجب التمييز بين نوعين من القدرات العسكرية: القدرة العسكرية المنظمة للعدو، أي وحدات جيشه المنظمة، والقدرة على المقاومة “غير المنظمة”، أي قدرة العدو على ممارسة المقاومة خارج إطار الوحدات العسكرية المنظمة، كالمقاومة المدنية والإرهاب وما شابه.
سؤال الحدث الحاسم: هنا يجب توضيح مصطلح “الزمن”. بعبارة أخرى، يمكن التمييز بين مجالين زمنيين، هناك حالتان: الأولى قبل اتخاذ القرار – وهي حالة لا يزال العدو فيها قادرًا على المقاومة، والثانية بعد اتخاذ القرار – وهي حالة تحقق فيها التعريف السابق. وهنا يبرز التساؤل حول مدة استمرار القرار. في هذا السياق، يبرز سؤال المدة، أي ما إذا كان القرار سيستمر لفترة زمنية محددة، وبعدها يمكن للعدو العودة والهجوم علينا.
لقد كان الدافع وراء هذا التحليل هو الحاجة إلى توضيح مفاهيمي للإنجاز العسكري في حرب النهضة، كما هو الحال في غزة. ينبغي أن يكون تحليل مصطلح “الحسم” من منظور شامل، وأن يقدم إجابة شاملة عن ساحة المعركة وأشكالها. ولنتذكر أن الوحدة العسكرية تعمل دائمًا بدافع الرغبة في إنجاز مهمتها لتحقيق هدف القيادة العليا على أكمل وجه. بغض النظر عن نوع الصراع الدائر، فإن شدة استخدام القوة تنبع فقط من الحاجة الأساسية لإنجاز المهمة على أكمل وجه.
لتقديم تحليل شامل لمصطلح “الحسم” في سياقه العسكري العام، لا بد من اتباع منهج تحليلي. يُقترح تقسيم هذا النهج إلى مرحلتين رئيسيتين: 1) توصيف مستويات القتال العسكري، 2) دراسة آلية اتخاذ القرار في كل مستوى في سياق الأسئلة المطروحة أعلاه.
يمكن توصيف مستويات القتال العسكري على النحو التالي:
المستوى التكتيكي: وهو مستوى قتالي يُعنى بتحقيق المهام العسكرية من خلال نتائج مادية محددة وقابلة للقياس. تُنفذ المهام التكتيكية باستخدام وحدات مُجهزة بالأسلحة. في الجيش الإسرائيلي، جرت العادة على تحديد هذا المستوى عادةً باللواء والفرقة باستخدام النتائج التكتيكية. في المجال التكتيكي، يُحدد العدو بشكل فوري وواضح، ولا فرق في هذا المستوى القتالي بين عدو مُنظم كوحدة عسكرية نظامية وآخر غير مُنظم. تُحدد المهمة زمانيًا ومكانيًا، وسياقها آني. يمكن هزيمة العدو في هذا النوع من المهام إما بتدميره ماديًا أو بخلق وضع لا يملك فيه القدرة أو الرغبة في مواصلة المقاومة. في هذا المستوى، يمكن تحديد عدة نطاقات زمنية: النطاق الزمني قبل الحسم – يكون العدو نشطًا ولديه القدرة والرغبة في القتال. المعركة حدثٌ يُتخذ الحسم. بعد المعركة، يمكن تحديد فترة زمنية يستمر فيها الحسم، إذ لم يعد للعدو دورٌ في السياق العملياتي الحالي. لذا، يمكن القول إن مصطلح “الحسم” مصطلحٌ ذو صلة في هذا المستوى من القتال.
المستوى المنظوماتي – مستوى قتالي يُعنى بتحقيق الأهداف (بدلاً من المهام المحددة) والنتائج غير المادية والقابلة للقياس بالضرورة. يتميز هذا المستوى القتالي عادةً بساحة قتال محددة بوضوح. ويتحقق تحقيق الأهداف المنظوماتية باستخدام نتائج نظامية (في الجيش الإسرائيلي، يُسلّم بأن هذه النتائج تُحقق من قِبل مستوى القيادة المكانية). ولأن المستوى القتالي يتعامل مع فضاء قتالي مسرحي شامل، ثمة فرق جوهري بين أنواع الأعداء المختلفة. ففي هذا المستوى، يختلف أسلوب تحقيق الأهداف ضد عدو منظم ضمن أطر عسكرية نظامية، وضد عدو “غير منظم” يمارس المقاومة المدنية والإرهاب.
يُسبب هذا الاختلاف أول غموض فيما يتعلق بمصطلح “الحسم” . أي، أي عدو نريد هزيمته، وهل يمكن استخدام مصطلح “الحسم” كما نُعرّفه في السياق التكتيكي في السياق المنظوماتي أيضاً؟ هل من الممكن القضاء على قدرة العدو ورغبته في القتال تمامًا، وهو ما يُعدّ تعريفًا لـ“الحسم” ؟ أم أن القضاء على معظم قدرته على المقاومة كافٍ لتحقيق الهدف الشامل، ولا ينبغي اعتباره حسما نهائيًا؟
في بعض الأحيان، يمكن تطبيق قوانين الحيز التكتيكي على هذا الحيز، لا سيما فيما يتعلق بتحديد مدة الحملة بوضوح. يُعدّ البُعد الزمني بالغ الأهمية في تكوين القدرة على الحسم على المستوى الشامل؛ إذ يجب أن يكون هذا البُعد طويل الأمد. بعبارة أخرى، يجب أن تكون نتيجة الحملة أطول من نتيجتها على المستوى التكتيكي، وأن تستمر لفترة زمنية تتناسب مع مدة الحملة المحددة. هنا، يتضح أن الهدف الشامل ليس بالضرورة الحسم، وأن تحقيقه لا يستلزم دائمًا هزيمة قدرات العدو. قد تنشأ حالة يكون فيها الهدف الشامل هو احتواء ساحة معينة والحفاظ على حالة محددة ومرغوبة فيها على مر الزمن. هكذا تصرف الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة ضمن سلسلة من العمليات الرادعة (الرصاص المصبوب، عمود السحاب، الجرف الصامد، حارس الاسوار)، حيث كان الهدف المنهجي هو إلحاق ضرر بالغ بالعدو وكسب فترة زمنية لا تُشن فيها معارك ضدنا.
المستوى الاستراتيجي، مستوى الأمن القومي – مستوى القتال العسكري الشامل، الذي يستخدم جميع الموارد العسكرية والوطنية لتحقيق أهداف تحددها القيادة السياسية. ويتحقق تحقيق الأهداف الاستراتيجية من خلال نتائج منهجية. في الجيش الإسرائيلي، يُعتبر هذا المستوى هو مستوى القيادة العامة الذي يُمكّن من تحقيق الأمن القومي على مستوى الدولة. ولا يُمكن قياس تحقيق هدف استراتيجي إلا على مدى فترة زمنية طويلة. وهذه الفترة غير ثابتة، وتعتمد على السياق المحدد. على سبيل المثال، يُمكن التساؤل عما إذا كان الجيش المصري قد مُني بهزيمة استراتيجية في حرب الأيام الستة؟ الإجابة على هذا السؤال هي النفي، إذ أنه في غضون ست سنوات، أُعيد تأهيل هذا الجيش وشنّ هجومًا شاملًا. لذا، من الممكن أن يكون الجيش المصري قد مُني بهزيمة في معارك تكتيكية ومنهجية، لكنه لم يُهزم استراتيجياً. عموماً، يبدو أن استخدام مصطلح “الهزيمة” في المجال الاستراتيجي إشكالي للغاية. يجب على المستوى الاستراتيجي، أكثر من أي مستوى آخر نوقش، تحديد أهداف طويلة الأمد، قابلة للتحقيق، ومستدامة، وتجنب استخدام مصطلح “الحسم” كما ورد أعلاه.
في حرب النهضة، حقق الجيش الإسرائيلي انتصاراً باهراً في العديد من المعارك في قطاع غزة، من بينها: القضاء على يحيى السنوار (أكتوبر 2024)، وتدمير جزء كبير من البنية التحتية لحماس، والقضاء على معظم مركز قيادتها. كما ساهم في ذلك إغلاق طرق التهريب في فيلادلفيا، والضغط الشديد على حماس، وهو الضغط الذي أدى في نهاية المطاف إلى اتفاق وقف إطلاق النار وإطلاق سراح معظم الرهائن. هذا قرار منهجي يحد من قدرة حماس على التحرك، لكن تجنب احتلال قطاع غزة وفرض حكومة عسكرية للسيطرة على النظام المدني حال دون التوصل إلى حسم عسكري كامل. حتى اليوم، في كانون الأول 2025، ومع وقف إطلاق النار، وبينما يواصل الجيش الإسرائيلي تدمير البنية التحتية للعدو وملاحقة الإرهابيين المحاصرين تحت الأرض في رفح، إلا أنه دون سيطرة كاملة على قطاع غزة وهيمنة على النظام المدني، يبقى النصر العسكري مؤقتًا.
من المناسب للدولة وضع أهداف استراتيجية تُفضي إلى تحسين الوضع الأمني بمرور الوقت. في ضوء هذا التحليل، يُقترح حصر استخدام مصطلح “الحسم” في نطاق العمليات العسكرية التكتيكية والمنهجية، وتجنب استخدامه على مستوى الأمن القومي، حيث يُقترح استخدام مصطلح “النصر” فقط. مع ذلك، ينبغي التذكير بأن “الحسم” شرط ضروري، وإن لم يكن شرطًا كافيًا، لتحقيق النصر.
النصر
أما فيما يتعلق بمصطلح “النصر”، فهناك تحليلات واسعة النطاق في الأدبيات، وهي تحليلات، في رأينا، لا تقدم إجابة كافية للتعريف المطلوب. نقترح تعريف النصر في السياق الإسرائيلي كما هو مُعرّف في وثيقة “مبادئ توجيهية لمفهوم الأمن لإسرائيل”، بأنه موافقة الأعداء على قبول شروط التسوية ووقف إطلاق النار التي تمليها عليهم إسرائيل. يتحقق النصر عندما يعجز العدو عن العمل ويستسلم، أو عندما يُدرك قادة العدو أن استمرار الصراع لن يؤدي فقط إلى عدم تحقيق أهدافهم، بل سيؤدي حتماً إلى استمرار خسارة الأصول التي يقوم عليها حكمهم، إلى درجة تُشكّل تهديداً حقيقياً لبقائهم السياسي والشخصي. يمكن تحقيق النصر من خلال مزيج من عدة عناصر، تشمل العمل العسكري الذي يتضمن تفعيل جميع مكونات القوة، بما في ذلك المناورات العسكرية البرية على الجبهة وفي العمق، والضربات النارية الاستراتيجية والمنهجية القائمة على معلومات استخباراتية دقيقة ضد أهداف مُخطط لها مسبقًا وأهداف مُتاحة، والعمليات الخاصة، والضربات في الفضاء السيبراني، والنشاط الهجومي في مجال الوعي. يأتي هذا بالتوازي مع جهود الدفاع الوطني (العسكرية والمدنية) للحد من أضرار أعمال العدو والحفاظ على استمرارية الحياة المدنية، وبالتوازي مع جهد سياسي لخلق شرعية دولية لأهداف إسرائيل العملياتية، وجهد لتشكيل تحالف سياسي لإحباط محاولات العدو لتحقيق أهدافه وصياغة ترتيب مناسب لإسرائيل.
في نهاية المطاف، يُعد النصر في الحرب إنجازًا سياسيًا على مستوى الأمن القومي، ويتحقق عندما تُحقق الأهداف السياسية طويلة الأجل من خلال مزيج من القوة العسكرية، وضربة للوعي، ومفاوضات سياسية تُحسّن ميزان الأمن القومي. يتضمن هذا المفهوم أربعة عناصر رئيسية: 1) حسم عسكري كأساس أساسي؛ ٢) تغيير في وعي العدو، والرأي العام المحلي، والمجتمع الدولي؛ ٣) اتفاق سياسي، كمعاهدة سلام أو قرار من مجلس الأمن؛ ٤) تحسين استراتيجي، كتوسيع الحدود، أو القضاء على تهديد قائم، أو تغيير الأنظمة. إذن، النصر في الحرب هو نتيجة سياسية بامتياز.
تحليل
تُشكّل هذه التعريفات أساسًا لتحليل المستويين العسكري والسياسي، حيث نرى كيف يُرسي الحسم قاعدة، لكن النصر يتطلب تكاملًا أوسع. ومن الأمثلة الإسرائيلية حرب الأيام الستة (1967). حقق الجيش الإسرائيلي نصرًا شاملًا في غضون ساعات: فقد دمرت عملية “موكيد” 90 في المئة من طائرات الدول العربية، مما مكّنه من احتلال سيناء، وهضبة الجولان، والضفة الغربية في غضون ستة أيام. كان هذا نصرًا تكتيكيًا (في البُعد الجوي) ونصرًا شاملًا (هزيمة جيوش مصر والأردن وسوريا، مع 20 ألف قتيل عربي مقابل 800 قتيل إسرائيلي). مع ذلك، لم يتحقق نصرٌ كامل في هذه الحرب، إذ سرعان ما بدأت حرب استنزاف، ولم تُحقق إسرائيل أي مكاسب سياسية تُذكر نتيجةً لها، ثم استؤنفت الحرب بعد ست سنوات.
ومن الأمثلة الكلاسيكية الأخرى على النصر التكتيكي المنهجي دون تحقيق نصرٍ فعلي، هجوم تيت في حرب فيتنام (1968). فقد قتل الجيش الأمريكي 50 ألف مقاتل من الفيتكونغ، وحقق في الواقع نصرًا تكتيكيًا بتكلفة 4 آلاف قتيل أمريكي. إلا أن الصور المروعة التي نُشرت في وسائل الإعلام زعزعت ثقة الرأي العام الأمريكي ودعمه للحرب، مما أدى في نهاية المطاف إلى هزيمة أمريكية وانتصار فيتنام الشمالية. وبذلك، تحوّل التفوق العسكري إلى ضعف سياسي نتيجةً لمعركة الوعي.
وفي حرب أكتوبر (1973)، حقق الجيش الإسرائيلي نصرًا عسكريًا واضحًا في كلٍ من الجبهتين الجنوبية والشمالية. مع ذلك، لم يتحقق النصر السياسي إلا بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، التي غيّرت موازين القوى مع مصر، وأرست السلام، وأزالت تهديدًا وجوديًا. ولولا سياسة السادات، لكان النصر مؤقتًا، كما حدث في سوريا.
وفي حرب النهضة، شهدنا أيضًا تكرارًا لنفس هذا التضارب في المفاهيم. ففي قطاع غزة، حققت إسرائيل إنجازاتٍ باهرة ضد حماس، سلسلة من النجاحات التكتيكية التي لم تُجبر حماس على الاستسلام ووقف الحرب. في الوقت نفسه، أدى الضغط العسكري المستمر في غزة (عملية “عربات جدعون 2”)، وفي ساحات أخرى (بما في ذلك الهجوم على الدوحة)، إلى جانب الضغط السياسي الذي تحقق بدعم من الولايات المتحدة بقيادة الرئيس ترامب، وتدخل الوسطاء، إلى موافقة حماس على وقف إطلاق النار الذي تضمن عودة جميع الرهائن، واستمرار وجود الجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة، بما في ذلك على محور فيلادلفيا، والموافقة المبدئية على نزع سلاحها وسلطتها. ويشير هذا الاتفاق إلى التوصل إلى خسم على المستوى المنظوماتي. مع ذلك، قد يتغير هذا الوضع إذا رفضت حماس نزع سلاحها وقررت إسرائيل العودة إلى القتال وإتمام هزيمة حماس على المستويين التكتيكي والمنظوماتي. وانطلاقًا من هذه الإنجازات، قد تحقق إسرائيل النصر عندما تُشكّل حكومة جديدة في غزة وتتولى الحكم وتُسلّم حماس سلاحها.
في لبنان، هُزم حزب الله تكتيكيًا ومنًظوماتا، وهو حسم يعتمد على الظروف والسياق كما هو مُفصّل أدناه، ولذلك وافق على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار. نرى حزب الله يعمل على تعزيز قدراته المتضررة وإعادة بنائها، في مواجهة ضغوط دولية بقيادة الولايات المتحدة لنزع سلاحه. وهنا أيضًا، قد يؤدي إتمام المهمة تحت ضغط دولي، أو من قِبل إسرائيل، إلى النصر.
بعد الهجوم الذي استمر 12 يومًا، مُنيت إيران بهزيمة قاسية وأُجبرت على قبول اتفاق وقف إطلاق النار. تُشكّل سلسلة الضربات التي تلقتها إيران مثالًا واضحًا على حسم على المستوى المنظوماتي يعني فقدان العدو لإرادة القتال. إذا عادت إيران إلى القتال في المستقبل المنظور، أو استمرت في بناء قوتها إلى مستوى يشكل تهديداً لدولة إسرائيل (صواريخ باليستية بكميات تتجاوز قدرة الدفاعات الجوية الإسرائيلية)، فسيتعين على إسرائيل محاربتها مرة أخرى، وهذا هو جوهر الحسم الذي يعتمد على الوقت والسياق.
ملخص
في كتابه “الحرب والاستراتيجية”، يذكر يهوشفات هركابي أن كلاوزفيتس كان يرى النصر محصورًا في المستوى التكتيكي للمعركة. ويجادل هركابي قائلًا: “في الاستراتيجية، لا وجود للنصر المطلق”. ويضيف أن “النجاح الاستراتيجي السياسي للحرب يتحدد بمعايير خارجة عن النطاق العسكري”. في المعركة، يمكن تحديد ما إذا كان العدو قد هُزم لدرجة أنه لم يعد له أي دور مؤثر في تلك المعركة كمقاتل، سواءً من خلال الدمار أو الاستسلام أو الفرار. ومع ذلك، فإن الحكم على النصر في الحرب ليس تلقائيًا، بل مشروط بنتائجها، التي لا تظهر دائمًا بشكل فوري، بل تتأخر في جوهرها.
يكمن الفرق بين النصر والحسم في صميم الاستراتيجية الناجحة: فالحسم يبني البنية التحتية العسكرية اللازمة للنصر الذي بدوره يبني مستقبلًا سياسيًا. من المهم أن نعرف كيفية استخدام المصطلحات المختلفة استخدامًا صحيحًا، وذلك لتحديد ما يُطلب من جهاز الأمن تحقيقه بدقة، ولشرح ما هو ممكن وما يُراد تحقيقه في كل حملة للجمهور. من المهم بشكل خاص فهم البُعد الزمني للحسم، وهو الأنسب للمستويين التكتيكي والمنظوماتي، ويعتمد على الزمان والسياق، بينما يُتيح تحقيق النصر، القائم على الجمع بين استخدام القوة العسكرية والسياسية، إحلال هدوء طويل الأمد في صفوف العدو. ولنتذكر أن الحسم العسكري عمومًا شرط ضروري (وإن لم يكن كافيًا) لتحقيق النصر. يكمن السبيل الأمثل في تحديث مفهوم الأمن القومي، بحيث تُصاغ فيه مفاهيم مُلائمة، أهمها الجمع بين الحسم العسكري والنصر السياسي الهادف إلى تحسين الأمن على المدى البعيد.



