#ترجمات عبرية

معهد الامن القومي الاسرائيلي (INSS ): الحكومة الإسرائيلية تزعزع الوضع الراهن في الضفة: تداعيات خطيرة

معهد الامن القومي الاسرائيلي (INSS ) ١٢-٦-٢٠٢٣، تمير هايمن وعيدن كدوري: الحكومة الإسرائيلية تزعزع الوضع الراهن في الضفة: تداعيات خطيرة

قائد المنطقة الوسطى هو صاحب السيادة في الضفة الغربية، وهو المسؤول عن الأمن وإنفاذ القانون والنظام في المنطقة. بناء على ذلك فإن مجمل الأجهزة العاملة في مناطق القيادة – “الشاباك”، والإدارة المدنية، والشرطة يتم تنسيقها من قبل القيادة، حتى وإن كانت غير خاضعة لها مباشرة. يشمل هذا التنسيق الخضوع لسلطات القائد العسكري من أجل أن يصادق على كل النشاطات المختلفة التي تنفذها في منطقته. مجمل الأجهزة والجهات العاملة اليوم في الضفة الغربية هي “الآلية الممكّنة” للانقلاب التنظيمي متعدد المجالات للقيادة، والتي تشمل: مجتمعا مدنيا واقتصادا، تنسيقا أمنيا ونشاطا عملياتيا. الآلية الممكّنة مكونة من مخابرات نوعية، وقوة عملياتية تنفذ النشاطات، وإدارة مدنية متزامنة مع القوة العملياتية، وخبرة مهنية محددة لشرطة إسرائيل وحرس الحدود.

اتفاقات أوسلو أو باسمها الرسمي “اتفاق المبادئ”، هي سلسلة اتفاقات وقعت من قبل إسرائيل و”م.ت.ف” ما بين السنوات 1993 إلى 1995 بهدف إنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين بمصالحة سياسية وجغرافية. على أساس “إعلان المبادئ بشأن الاتفاقات المؤقتة لحكم ذاتي”، الاتفاق الأول من بين اتفاقات أوسلو، شُكلت السلطة الفلسطينية ونُقلت إليها صلاحيات في مجالات مدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة وكذلك صلاحيات أمنية. هكذا، أصبحت السلطة بنية تحتية تنظيمية لإدارة الكيان الفلسطيني (نوع من “دولة على الطريق”)، والتي لديها وزارات حكومية وصلاحات عملية. قسّمت الاتفاقات مناطق السلطة إلى 16 محافظة منها 11 في الضفة الغربية. خلال ذلك قسمت الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ثلاث فئات، منطقة “أ” والتي تشكل 18% من الضفة الغربية، تحت سيطرة مدنية وأمنية للسلطة الفلسطينية، ومنطقة “ب” والتي تشكل 22% من الضفة الغربية، كمناطق تحت سيطرة مدنية للسلطة الفلسطينية وتحت سيطرة أمنية لإسرائيل، ومنطقة “ج” والتي تشكل 60% من الضفة الغربيةتحت سيطرة مدنية وأمنية إسرائيلية، وهي التي تضم المستوطنات في المنطقة.

في الأصل، نصّت اتفاقات أوسلو على إقامة 6 أجهزة أمنية للسلطة الفلسطينية، ولكن سرعات ما تطور 10-15 جهاز أمن منفصلاً. واقتضت هذه إقامة جهاز تنسيق امني بين الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن هذه، بدأ بالعمل رسميا في سنة 1996. خلال السنين أثمر التنسيق الأمني عن إنجازات عديدة، ويشكل وجوده مصلحة مهمة لكلا الطرفين، وبمساعدته يحافظون على الهدوء الأمني في الضفة الغربية. يتم معظم التنسيق على يد الإدارة المدنية، وهو يشمل بالأساس تنسيقا على المستوى الميداني بين أجهزة المخابرات وتنسيقا بين أجهزة “الشاباك” المتوازية وبين أجهزة الرقابة المدنية، من خلال تعاون مع قائد المنطقة الوسطى الذي ينسق زمنيا هذه التنسيقات في مقر القيادة.

أخذت الإدارة المدنية على عاتقها بعد اتفاقات أوسلو المسؤولية عن المصادقة على مخططات بناء في المستوطنات وفي البلدات الفلسطينية الواقعة في مناطق “ج”، وهكذا فهي مسؤولة من بين أمور أخرى عن العثور على بناء غير قانوني وتنفيذ القانون ضد البؤر الاستيطانية غير القانونية، وكذلك أيضا عن إصدار تصاريح عمل للفلسطينيين، وكذلك العلاقة مع السلطة الفلسطينية في المواضيع المرتبطة بالتنسيق الأمني وإنشاء البنى التحتية. يتولى المسؤولية عن الإدارة المدنية ضابط من الجيش الإسرائيلي بدرجة عميد ويكون خاضعا لقائد المنطقة الوسطى وموجها مهنيا من قبل منسق أعمال الحكومة في “المناطق”. فعلياً، يخضع رئيس الإدارة المدنية لمنسق نشاطات الحكومة، ويعمل ضابط ركن لقائد المنطقة المسؤول عن تنسيق وإدارة الجهود المدنية للقيادة. أي عن كل جوانب سيطرة قائد المنطقة على السكان المدنيين، علاوة على ذلك يعمل في الضفة الغربية “الشاباك” وحرس الحدود.

سياسة حكومة إسرائيل الـ 37، مثلما تنعكس في الاتفاقات الائتلافية التي وقعت وفي تطبيقها حتى الآن، تنعكس في عدد من الخطوات التي ستؤثر بصورة دراماتيكية على سلوك قيادة المنطقة الوسطى، وفي أساسها: نقل الصلاحيات عن الإدارة المدنية للوزير في وزارة الدفاع (بتسلئيل سموتريتش) وإخضاع حرس الحدود لوزارة الأمن الوطني، وتوسيع مشروع الاستيطان اليهودي بوساطة “شرعنة الاستيطان الشاب”، أي اعترافا قانونيا بالبؤر غير القانونية. وكل هذا، على خلفية اقتراح “الإصلاح القانوني”، والذي لو تم تمريره كما هو فإنه سيعطي لحكومة إسرائيل قوة لتطبيق هذه السياسة عن طريق سن تشريعات ولوائح، لن يكون بالإمكان الاعتراض عليها أو فسخها. يدور الحديث عن خطوات من شأنها أن تغير جذريا الواقع في الضفة الغربية مثلما تشكل خلال السنوات الأخيرة.

في نهاية 56 عاماً من السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية، وإزاء الخطوات التي تنفذها الحكومة الـ37 وتنوي تنفيذها، مطلوب أن نفحص مغزاها مثلما سيتم التعبير عنها على الأرض. في هذا المقال، سيتم تحليل العناصر المختلفة التي مكنت قيادة المنطقة الوسطى من المحافظة على الاستقرار النسبي على مر السنين، والتي من جانبها سهلت على إسرائيل تطوير مشروع المستوطنات المزدهر وكذلك مواجهة انتفاضتين فلسطينيتين “الانتفاضة الأولى والثانية”. بالإضافة إلى ذلك سيتناول المقال الظروف التاريخية والخطوات التي شكلت المنظومة القائمة في قيادة المنطقة الوسطى، وكذلك الأركان التي تمكن من تأسيس هذه المنظومة. قضايا أخرى هي تأثير خطوات الحكومة الحالية على مستقبل هذه المنظومة، وعلى قدرة قيادة المنطقة الوسطى على تنفيذ دورها.

إدارة معركة دون هدف سياسي

عرّف فيبر وبيرسيكتور السيادة بأنها “حق معترف به لكيان سياسي لتطبيق صلاحيات على كل القضايا”. إدارة المنطقة الوسطى بمفاهيم عديدة هي صاحب السيادة في الضفة الغربية. خلافا لباقي قيادات الجيش الإسرائيلي فإن لقيادة المنطقة الوسطى صلاحيات ومسؤوليات شاملة في الضفة الغربية، حيث توجد لها القدرة على استخدام القوة وأيضا جوانب من بناء القوة وتشكيل السياسات. طالما يدور الحديث عن الضفة الغربية، فبالطبع إلى جانب السلطة الفلسطينية المسيطرة على الفلسطينيين في مناطق “أ” و”ب”. توجد لقيادة المنطقة الوسطى صلاحيات تشريع، وقضاء، وذراع تنفيذية، تشكل نوعا من العالم المصغر لسلطات الدولة الثلاث، وتمكن سيادتها وتنفيذ خطوات إستراتيجية واسعة لا تحدث في قيادات أُخرى. هكذا وخلافاً عن باقي القيادات، والتي تشكل بالأساس عاملا تنفيذيا، فإن قيادة المنطقة الوسطى هي صاحبة السيادة في منطقتها، وهي المسؤولة عن بلورة الأهداف التكتيكية والاستراتيجية على الأرض.

في حزيران 1967 ومع انتهاء حرب “الأيام الستة” تعين على دولة إسرائيل مواجهة واقع جديد، في إطاره وجدت نفسها تسيطر على اربع ساحات مختلفة من بينها الضفة الغربية، والتي كان فيها حينئذ 700 ألف فلسطيني. منذ بداية هذه السيطرة العسكرية كان التأكيد على إدارة المنطقة وليس على بلورة اتفاق سياسي طويل المدى. كان موشيه ديان، وزير الدفاع في الفترة التي أعقبت حرب “الأيام الستة”، يتوق إلى وجود سلطة احتلال “غير مرئية” قدر الإمكان، والسماح بحياة طبيعية بقدر الإمكان للسكان الفلسطينيين مع اتباع سياسة معاقبة موزونة ومتطورة. هذه السياسة تم اتباعها من قبل وزراء الدفاع طوال السنين في محاولة لإقامة “حكم مستمر” وتطبيق فلسفة عدم التدخل في الحياة الروتينية للسكان المحليين التي اتبعها ديان، قدر الإمكان في إطار السيطرة الأمنية.

اعتبرت قيادة المنطقة الوسطى دورها جهة مسؤولة عن “إخماد الحريق”، وكبح جهات محرضة مع تجنب خلق نقاط احتكاك ستوقد المقاومة تجاه إسرائيل في المجتمع الدولي. هكذا فإن القيادة طورت رؤية تنظيمية عن الساحة نابعة من سياسة المستوى السياسي، والتي تضمنت عددا من الجوانب الأساسية: توازنات أمام نشاطات الفلسطينيين وتقليص ارتفاع ألسنة اللهب في حالات ونقاط احتكاك بهدف منع إشعاع العنف، وتوازنات ما بين توسع المشروع الاستيطاني اليهودي وبين مناطق تحت ملكية فلسطينية وكذلك فصل السلطة الفلسطينية عن قطاع غزة في عهد ما بعد اتفاقات أوسلو.

الموقف الرسمي لحكومة إسرائيل، والذي كما يبدو لم يتغير منذ 1967 وحتى اليوم، يقول، إن إسرائيل تضع يدها على المنطقة التي احتلتها حيث جزء منها هو ورقة مساومة للتوصل إلى اتفاق سياسي لحل النزاع العربي – الإسرائيلي. على خلفية هذا الموقف، والذي معناه التطلع إلى المحافظة على إمكانيات العمل المستقبلية، والتعامل مع الساحة الفلسطينية على مر السنين على أنها في أقصى الهامش حسب تفضيل المستوى السياسي، وبدون نجاح (أو محاولة حقيقية) لبلورة حلول للنزاع. انشغل المستوى السياسي الأمني في بلورة ردود للساحات التي اعتبرت تهديدا وجوديا لدولة إسرائيل – سورية، “حزب الله”، ولاحقا ايران. هكذا فإن القضية الفلسطينية بقيت تحت معالجة القادة الميدانيين بقيادة المنطقة الوسطى، بدون هدف سياسي بعيد المدى. في إطار استراتيجية الحكم المستنير، تركزت الرسالة التي نقلت لقادة القيادة طوال السنين على منع التصعيد وعلى “ضعوا بطانية على النار واهتموا بأن تظل منخفضة”.

غياب سياسة واضحة للمستوى السياسي طوال السنين اقتضى من القيادة أن تفهم وتفسر نواياه بوساطة رسائل وتصريحات متخذي القرارات وليس عن طريق أوامر واضحة، على خلفية رسائل متناقضة في مرات عديدة على رأسها التناقض ما بين توسيع مشروع المستوطنات وبين المحافظة على فضاء الاحتمالات لحلول سياسية. داخل هذا الفضاء، كانت القيادة تتوق لاستمرار “الوضع القائم” في الضفة الغربية على طول السنين، والذي جوهره المحافظة على الاستقرار الأمني في المنطقة ومحاولة “شراء وقت” إلى أن تتبلور الظروف التي ستقود إلى حل سياسي بعيد المدى عبر المحافظة على فضاء الاحتمالات للمستوى السياسي تجاه الساحة الفلسطينية.

رؤية استخدام القوة لدى قيادة المنطقة الوسطى

سجلت قيادة المنطقة الوسطى لصالحها نجاحا لا بأس به في السيطرة على الضفة الغربية طوال حوالي 56 عاماً، حوالي نصف هذا الوقت بمشاركة السلطة الفلسطينية وبالتنسيق معها ـ أي أنها نجحت بدرجة كبيرة في جعل المنطقة مستقرة وكبح انتفاضات فلسطينية.

العمليات الكبيرة، التي وقعت في بداية سنوات الـ 2000 (الانتفاضة الثانية) في عهد رئيس الحكومة الإسرائيلية، أرئيل شارون، والذي كان معروفا بمقاربته العدائية تجاه الساحة الفلسطينية، قادت إلى تعاظم توجه الكبح الذاتي لدى إسرائيل. بعد العملية التي وقع فيها العديد من المصابين في الدولفيناريوم (2001) قال أرئيل شارون: “أيضا ضبط النفس هو عامل قوة”، وهي جملة حفرت في الوعي الوطني وأشارت إلى بداية التغيير. شيئا فشيئا تبلور في إسرائيل فهم بأن القوة ليست الوسيلة الوحيدة في محاربة العنف. في أساس هذه الرؤية كان التفكير بأن القوي فقط قادر على احتمال ضربات والرد عندما يجد ذلك مناسبا. أي رد فوري وسريع هو تعبير عن ضغط وشعور إلزامي بالرد، حتى وان كان ذلك ليس صحيحا. بناءً على ذلك، استخدام القوة وعدم استخدامها هي خطوات استكمالية في خلق وعي القوة لإسرائيل في حربها ضد العنف. هذا الفهم ينعكس أيضا في التصريح الدارج: “إسرائيل سترد في المكان وبالقوة التي تراها مناسبة”.

لقد اثر على هذه المقاربة تطور رؤية الفن التنظيمي – وهي فلسفة شاملة لفكرة الحرب القائمة على مكونات نظرية المنظومات لتفكير استراتيجي عسكري. في بداية سنوات الـ 2000 كانت قيادة المنطقة الوسطى هي الرائدة الفكرية لهذه النظرية. قام الجنرال احتياط، بوجي يعلون، والجنرال الاحتياط، اسحق إيتان، ورئيس الأركان (احتياط)، شاؤول موفاز، بدراسة معمقة والتي في إطارها تمت بلورة الرؤية التنظيمية التي تستخدم عدة منظومات والتي في أساسها التوازن ما بين الأدوات والأساليب وتكييفها للمكونات المختلفة للمنظومة التنفيذية في القيادة. انعكست رؤية المعركة في أقوال قادت قيادة المنطقة الوسطى، بخصوص الحاجة للقيام بتوازنات ما بين استخدام قوة شديدة وبين كبح ذاتي والاستيعاب – بين الجزر والعصي. من جانب مطلوب العمل ضد التنظيمات بيد قاسية مع التأكيد على المستوى الميداني لقيادة المنطقة الوسطى وبالمقابل يجب خلق عوامل كابحة اقتصادية واجتماعية تقلل الدافعية لدى التنظيمات.

حظي الدمج ما بين عوامل ناعمة وقاسية، من أجل خلق توازن، بانتقاد في أوساط قادة الرأي العام، سياسيين وعسكريين ومن يميلون الى مقاربة محافظة صقورية. بالنسبة لهم، فقط القوة العسكرية هي الأمر المهم في الحرب ضد انتفاضة شعبية، فثمة حالات عديدة طوال التاريخ أظهرت ان محاولة حسم معركة كهذه، وخاصة عندما يكون في الخلفية مطامح وطنية، بوساطة استخدام قوة عسكرية فقط، محكوم عليها بالفشل.

ثمة مثال على ذلك نجده في تداعيات عملية “الدرع الواقي” في سنة 2002 والتي جرت في اعقاب موجة عمليات، كان ابرزها واكثرها عدداً في الإصابات العملية التي وقعت عشية عيد الفصح في فندق بارك في نتانيا. خلافا للفهم السائد لدى الجمهور اليوم في إسرائيل فانه على الرغم من ان العملية واسعة النطاق والتي سيطر الجيش الإسرائيلي في اطارها وفي اعقابها على معظم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية فانها لم تحقق هدفها – هزيمة العنف في المنطقة. في الواقع كان للعملية نجاحات عديدة في ضرب البنى التحتية لـلتنظيمات وفي تقليل عدد العمليات في الفترة التي تبعتها، كما أنها خلقت حرية مناورة لقوات الجيش في كل ارجاء الضفة الغربية. ولكن اقتضى الامر ثلاث سنوات اخرى منذ انتهاء العملية وحتى انهاء الانتفاضة الثانية.

من وجهة نظر قيادة المنطقة الوسطى فانه خلال هذه السنوات تطورت نظرية الأرجل الاربع؛ وتجمعت عوامل دفاعية؛ جدار الفصل الذي اقيم على طول الخط الاخضر بهدف منع اختراق “مخربين” فلسطينيين الى اراضي إسرائيل، وعوامل مدنية؛ تطوير الاقتصاد الفلسطيني، وكذلك عوامل تنسيق امني؛ اعادة الشرطة الفلسطينية للعمل واستئناف التنسيق الامني.

كانت هذه العوامل حاسمة لانهاء الانتفاضة الثانية، وأثبتت أنه المعركة العسكرية وحدها لا تكفي من اجل هزيمة العنف. علاوة على ذلك، حتى بعد إنهاء الانتفاضة الثانية، فإن النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني لم ينتهيا. ثمة عامل آخر في خفوت العنف في السنوات التي أعقبت ذلك، وهو تعيين محمود عباس في منصب رئيس السلطة الفلسطينية في سنة 2004 بعد موت ياسر عرفات، وتفضيله النضال الشعبي على العنف. بالإضافة إلى خطوات سياسية نُفذت في تلك السنوات وعلى رأسها نشر “خارطة الطرق” لحل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني في حزيران 2002، ومبادرة جنيف التي نشرت في سنة 2003 ومؤتمر أنابوليس في سنة 2007 والتي تطرقت إلى البعد الوطني للمواجهة، وكذلك أعطت أملاً لمجموعات كبيرة في المجتمع الفلسطيني. في نهاية المطاف يتمركز النزاع الإسرائيلي- فلسطيني المعقد حول قضايا وطنية، وتطلعات قومية فلسطينية، تشكل أرضاً قيمية ومعنوية لصعود العنف. لهذا، فإن مواجهة عسكرية وحدها لا تكفي لوقف العنف.

يجدر التطرق لتداعيات بعيدة المدى لعملية “الدرع الواقي”، والتي عكست انعطافة في الرؤيا الإسرائيلية فيما يتعلق بالطريقة المطلوبة لـ”السيطرة” على الضفة الغربية. بعد العملية، كانت الرؤيا الرائدة في إدارة المعركة في “المناطق” هي “مواجهة محدودة”، من خلال إدراك القيود على استخدام القوة النابعة من اتفاقات سياسية. أي أن حرية عمل قيادة المنطقة الوسطى في “المناطق” كانت محدودة. ولكن العملية في فندق بارك في نتانيا، وعملية “الجدار الواقي” في أعقابها طمست الحدود والقيود من ناحية عملية. لقد تجذرت الرؤيا القائلة بأن حرية العمل العملياتية في “المناطق” هي أمر ضروري لكبح العنف، وهي التي مكنت من إنهاء الانتفاضة الثانية في سنة 2005. ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من استئناف التنسيق الأمني مع الفلسطينيين، ورغم فترة قصيرة عملت خلالها قوات الأمن الفلسطينية بصورة أكثر نجاعة، فإن هذه الرؤيا لم تتغير. هنالك من يرون في هذه الرؤيا التي تؤيد الحفاظ على حرية عمل عملياتية للجيش الإسرائيلي، والتي ساهمت في الجمود السياسي، وأدت إلى طريق مسدود في العملية السياسية، بأنها خلقت للحكومة إمكانية لتجنب اتخاذ قرارات سياسية صعبة.

من أجل الحفاظ على استقرار أمني في الضفة الغربية، ومنع تصعيد يتم تحريكه على أساس أيديولوجيا وطنية عميقة، يجب استخدام عوامل أخرى من القوة إلى جانب القوة العسكرية واستخدام القوة الناعمة. وجهت هذه الرؤيا قيادة المنطقة الوسطى للعمل حسب مبدئين رئيسيين- فصل السكان المدنيين عن عوامل العنف، واستخدام القوة المطلوبة طبقاً لهدف محدد وطبقاً للوضع، تطلعاً لتقليل استخدام القوة إلى الحد الأدنى المطلوب. كل هذا من خلال الفهم بأن استخدام القوة الذي يتجاوز المطلوب يخلق تصعيداً أمنياً. علاوة على ذلك فإن استخدام القوة غير المتناسب يعارض مبادئ نظرية القتال القائلة: (استنفاذ القوة والتوفير في القوة)، وكذلك يناقض مبادئ قانونية وقيمية دولية.

هكذا يجري تكييف استخدام القوة طبقاً للواقع التكتيكي والعملياتي على الأرض. أي مطلوب تكييف القوة وطرق العمل بصوة تعكس استراتيجية مركبة- استخدام أدوات عملية من التنسيق الأمني إلى جانب أدوات اقتصادية ومدنية تعكس قوة ذكية. الاستخدام الواسع لأدوات اقتصادية كان مكوناً أساسياً في استراتيجية التهدئة التي اتبعتها قيادة المنطقة. بنظرة كلية، فإن عمل العمال الفلسطينيين في إسرائيل يخلق اعتماداً للسلطة الفلسطينية على الاقتصاد الإسرائيلي بصورة من شأنها أن تجعل الأمر صعباً من أجل بلورة وتطبيق حلول سياسية تؤيد الانفصال. ولكن هذه السياسة حسنت الاقتصاد الفلسطيني، وهي تخلق مجالاً من المصالح المشتركة مع الفلسطينيين على الرغم من الخلافات العميقة التي هي بعيدة عن الجسر. من خلال فضاء المصالح المشتركة هذا تم كبح العمليات بدرجة ما، وتعززت الروافع الإسرائيلية المؤثرة على الساحة الفلسطينية. ومكنت هذه الروافع على مدار السنين من منع تصاريح عمل في إسرائيل للفلسطينيين كعقوبة على تصعيد أمني، وزيادة عددها مكافأةً للهدوء في الضفة الغربية. هكذا تم خلق آلية تكافئ كلا الطرفين بتهدئة أمنية وحفاظ على الاستقرار.

على المستوى الميداني ومن وجهة نظر قيادة المنطقة الوسطى فقد وُجدت منظومة توازنات تضمنت ضبطاً للنفس إلى جانب إزالة القيود، بصورة تناسب الحالة. تحسين هذه المقاربة والأسلوب مكّن من تنفيذ عمليات بصورة تفضيلية من ناحية جيوغرافية وأمام تنظيمات فلسطينية بصورة تتناسب مع الاستراتيجية في ذلك الوقت، مثل المس بتنظيم “حماس” بصورة وبدرجة أشد مما بالتنظيمات الأخرى العاملة في الضفة الغربية. استهدفت منظومة التوازنات التمكين من محاربة مركزة للعنف وفي الوقت ذاته تجنب المس بالسكان الفلسطينيين غير المتورطين قدر الإمكان.

المخابرات

في قيادة المنطقة الوسطى يعمل جهازا مخابرات رئيسيان -“الشاباك و”أمان” (المخابرات العسكرية). العملية التنفيذية على ضوء المعلومات التي يتم الحصول عليها من الاجهزة المختلفة يتم تقريرها من قبل القائد العسكري في القيادة، وصورة المخابرات ضرورية لتشكيل مجمل النشاطات التي تحدث في المنطقة، ابتداءً من العمليات الهجومية مرورا بالمواجهة الدفاعية امام التحذيرات وانتهاء بتنسيق وتقييد نشاطات أجهزة مدنية. من مسؤولية قيادة المنطقة الوسطى التأكد من ان مجمل الاجهزة العاملة في مناطق القيادة تعرف المعلومات ذات العلاقة، وانها لا تشوش نشاط وكالات المخابرات. كل عملية لا تنسق مع القيادة هي عملية خطيرة وممنوعة، ومن هنا من الواضح ان إخراج مكونات من سلسلة القيادة العملية خطير. هكذا على سبيل المثال فإن عملية غير منسقة لوحدة الرقابة للإدارة المدنية من شأنها ان تعرض للخطر أعضاء الوحدة، او ان تشوش نشاطات استخباراتية وعمليات خاصة وسرية. كل عملية لشرطة اسرائيل، كما يبدو ليست مرتبطة بالعمليات، تقتضي معلومات وتؤثر على جمع المعلومات. فقط الربط ما بين حرس الحدود والادارة المدنية في منظومة حميمة للقيادة والسيطرة العسكرية تسمح بنشاطات عملية سليمة وناجعة، بالاستناد على جمع معلومات متزامنة ومنسقة الهدف.

تنسيق مدني

الادارة المدنية في “المناطق” مسؤولة عن تقديم خدمات الحكومة المدنية المختلفة للسكان الفلسطينيين. في الشهور التي اعقبت حرب 1956 في قطاع غزة وفي شبه جزيرة سيناء وبعد حرب “الايام الستة” وحتى تشرين ثاني 1981 كان السكان الفلسطينيون خاضعين للحكم العسكري الاسرائيلي في “المناطق”. في تشرين ثاني 1981 فصلت القضايا المدنية عن الحكم العسكري، حيث أخضعت مباشرة لوزير الدفاع بهدف الفصل بين مهام الجيش الإسرائيلي العادية – حماية من تهديد خارجي – وبين مهمة الإدارة المدنية والتي هي الاهتمام بالسكان المدنيين مع حفاظ على وحدة القيادة الضرورية لتنفيذ المهمة.

لكل عملية رقابة مدنية في منطقة ج، اي تنفيذ قوانين التخطيط والبناء وكذلك مواضيع جودة البيئة وجوانب بنى تحتية اخرى أُعطيت اهمية امنية واستخباراتية. وبالتالي، ليس بالامكان القيام بدورية رقابة دون مرافقة وحماية، وليس بالامكان تنفيذ نشاط إبعاد “اقتحام غض” (هدم بناء غير قانوني) دون تنسيق عملياتي استخباراتي مسبق. لهذا، مطلوب تنسيق امني وثيق بين مجمل الجهات ذات العلاقة، والذي يتم على يد قيادة المنطقة الوسطى. في كل بناء على ارض خاصة لفلسطينيين، فان الجيش الاسرائيلي ملزم حسب القانون بإخلاء البؤرة الاستيطانية. من أجل الاستعداد لتنفيذ الاخلاء، حيث تعطى التعليمات بشأن تنفيذه من قبل قائد قيادة المنطقة الوسطى، فان الجيش وحرس الحدود يوفران الغطاء، وتنفذ الشرطة الاعتقالات، والادارة المدنية هي المسؤولة عن الاخلاء نفسه بجانبه العملي: احضار المعدات المناسبة والاشراف.

في غضون ذلك، وطوال السنين، فقد تعرضت الادارة المدنية الى نقد شديد من يمين ويسار الخارطة السياسية بسبب عدم المساواة بين القطاع اليهودي والقطاع الفلسطيني في الاخلاء او في المصادقة على مبان وبؤر استيطانية غير قانونية. تؤكد هذه الانتقادات أهمية تطبيق القانون وإنفاذه بصورة متساوية في الضفة الغربية قدر الإمكان في الإطار القائم، من اجل الحفاظ على الاستقرار الأمني وعلى ثقة المجتمع بمهنية الإدارة المدنية.

تنسيق أمني

في سنة 2000 وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية، الغيت وحدة التنسيق الامني العسكري (DCO-RSC) ونقلت الى مسؤولية منسق اعمال الحكومة في “المناطق”، حيث كانت مسؤولة عن تشغيل الدوريات المشتركة مع الشرطة الفلسطينية، وتوقفت عن العمل من اللحظة التي انضم فيها رجال شرطة فلسطينيون الى القتال ضد الجيش الاسرائيلي. مع استئناف التنسيق الامني في اواخر سنة 2002 تقرر أنه سيكون تحت سلطة الادارة المدنية. خلق هذا الوضع الجديد ازدواجية في الادوار لرئيس الادارة المدنية ولممثليه على الارض. هم مسؤولون عن السياسة المدنية البيروقراطية في المنطقة، ولكن ايضا يشكلون جهاز الارتباط مع اجهزة الامن الفلسطينية. هذا التغيير قادر على بلورة تنسيق افضل أمام الفلسطينيين. الإدارة المدنية كجهة واحدة تركز مجمل الاتصالات، وتحولت الصلاحيات مع الأيام الى جسم حيوي كجزء من التنسيق الأمني. مكانتها تعززت، وخاصة قوتها الشرعية في نظر الفلسطينيين. وقدرته على تنفيذ السياسات أصبحت مدماكاً ذا تأثير أمني. هكذا فإن الإدارة المدنية هي الجهة التي تجري الحوار مع السلطة الفلسطينية بخصوص تسهيلات في المجالات المدنية مقابل هدوء امني.

اليوم، يقتضي كل نشاط للجيش الاسرائيلي تنسيقاً امنياً. كل دخول عسكري الى منطقة أ يتم ابلاغه للقوات الفلسطينية من اجل منع احداث اطلاق نار متبادل. وكل نشاط لتنفيذ القانون والنظام للشرطة الفلسطينية يقتضي تنسيقاً عسكرياً، على سبيل المثال حركة رجال شرطة فلسطينيين في مناطق ج ونشاطهم في مناطق ب. على مر السنين تحول التنسيق الامني الى عنصر في النشاط العملياتي، حيث يغذي المخابرات وايضا يتأثر بها.

قوة عسكرية ذات خبرة مهنية متخصصة

الجيش الإسرائيلي مسؤول عن عدد متنوع من القدرات العملية، فقط جزء منها له علاقة بالعمليات. ان محاولة تأهيل كل وحدات الجيش لمحاربة العنف مصيرها الفشل. ثمة دليل على ذلك وهو المستوى المتوسط الذي اظهره الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية، والتي جرت فورا بعد انهاء الانتفاضة الثانية، نظرا لأن المهنية الكبيرة لوحدات الجيش الاسرائيلي، والتي طبقت في الضفة الغربية، لم تترجم الى قتال مهني في الساحة الشمالية. أحد العبر التي تم استخلاصها هي الحاجة الى مهنية متخصصة للوحدات العسكرية. شكلت وحدات ومن بينها لواء كفير (لواء 900) في سنة 2003، ولكن فقط تحت قيادة رئيس الاركان، الجنرال جادي ايزنكوت، تقرر ان يركز هذا اللواء على النشاطات في الضفة الغربية، مع إلغاء مجمل المؤهلات والوسائل المخصصة له للقتال في القطاعات الأخرى. كما تم إنشاء وحدات تكتيكية بارزة للقتال في الميدان، من بينها “ياماس”، هي وحدة خاصة تابعة لحرس الحدود، و”دفدفان”، والتي تشكل وحدات خاصة لهذا القطاع.

قائد المنطقة الوسطى هو صاحب السيادة في الضفة الغربية، وهو المسؤول عن الأمن وإنفاذ القانون والنظام في المنطقة. بناء على ذلك فإن مجمل الأجهزة العاملة في مناطق القيادة (الشاباك، والإدارة المدنية، والشرطة) يتم تنسيقها من قبل القيادة، حتى وإن كانت غير خاضعة لها مباشرة. هذا التنسيق يشمل الخضوع إلى سلطات القائد العسكري ليصادق على كل النشاطات المختلفة التي تنفذها في منطقته. مجمل الأجهزة والجهات العاملة اليوم في الضفة الغربية هي “الآلية الممكّنة” للانقلاب التنظيمي متعدد المجالات للقيادة والتي تشمل مجتمعاً مدنياً واقتصاداً، وتنسيقاً أمنياً ونشاطاً عملياتياً. الآلية الممكّنة مكونة من مخابرات نوعية، وقوة عملياتية تنفذ النشاطات، وإدارة مدنية متزامنة مع القوة العملياتية وخبرة مهنية محددة لشرطة إسرائيل وحرس الحدود.

أيضاً حرس الحدود في الضفة الغربية هو من بين الوحدات التي خبرتها مقتصرة على الضفة الغربية، إن دمج وحدات متخصصة في قطاع معين مع قيادة لوائية ثابتة يخلق خليطاً مهنياً حاسماً لتطبيق المهمة. اليوم يخدم في الضفة الغربية تحت قيادة الجيش الإسرائيلي 8 فصائل حرس حدود، تضم آلاف المقاتلين من بينهم جنود نظاميون من الجيش، حيث يخدمون خدمة دائمة. قدرات تشمل حرس الحدود قدرات شرطية وقدرات لسلاح المشاة مع التأكيد على خبرة وفهم قطاعيّ. مقاتلو حرس الحدود في الضفة الغربية مخصصون من قبل الجيش الإسرائيلي ومدربون على يديه خلافاً لجنود حرس الحدود الموجودين في الجبهة الداخلية لدولة إسرائيل ويشكلون جزءاً لا يتجزأ من القوة العسكرية لقيادة المنطقة الوسطى كقوة جغرافية. هكذا فإن قيادة المنطقة الوسطى اليوم تعتمد على هؤلاء المقاتلين وترتبط بهم من أجل تنفيذ مهامها.

خطوات الحكومة الـ 37 وتداعياتها.. نقل صلاحيات الإدارة المدنية 

البند 21 من الاتفاق الائتلافي مع قائمة “الصهيونية الدينية” ينص على أن “الوزير في وزارة الدفاع يتولى مسؤولية كاملة عن مناطق عمل منسق نشاطات الحكومة في المناطق والإدارة المدنية”. وعلى خلفية معارضة الجيش الإسرائيلي لفصل الإدارة المدنية عن منسق نشاطات الحكومة في “المناطق” ومواجهات بين وزير الدفاع يوآف غالانت والوزير في الوزارة بتسلئيل سموترتش، وُقّعت وثيقة تفاهمات بين الوزراء في شباط 2023. هذه الوثيقة تقلص الصلاحيات التي أعطيت للوزير في وزارة الدفاع، وتم تحديد خضوع معين للوزير في وزارة الدفاع لوزير الدفاع، إلى جانب تحديد آليات لاتخاذ القرارات بمشاركة رئيس الحكومة. مع ذلك، ما زال هناك عدد من القضايا التي تثير علامات تساؤل فيما يتعلق بإمكانية تطبيق البنود بنجاعة وبخصوص تأثيرها المحتمل على أداء قيادة المنطقة الوسطى:

أولاً؛ لقد تقرر أن الوزير في وزارة الدفاع لديه المسؤولية الوزارية عن مجمل الجوانب المدنية المرتبطة بـالضفة الغربية. ثانياً؛ تقرر أن الوزير الإضافي (سموتريتش) سيعين مدنياً بصفة “نائب رئيس الإدارة المدنية”، والذي سيكون خاضعاً إدارياً لرئيس الإدارة المدنية، ومهنياً لرئيس إدارة الاستيطان. وعلى الرغم من كون النائب خاضعاً لرئيس الإدارة المدنية، فإنه يحتفظ بالمسؤولية عن الجهات المدنية في الإدارة المدنية والذين يعملون في المجالات الخاضعة لمسؤولية الوزير الإضافي. ولكن رجال الجيش العاملين في مجالات مدنية سيخضعون إدارياً لرئيس الإدارة المدنية ويتلقون التوجيهات المهنية في هذه المجالات من النائب المدني. علاوة على ذلك، سيكون النائب المدني مسؤولاً عن “وحدة الرقابة”، المسؤولة عن إنفاذ قوانين التخطيط والبناء، وكذلك عن جودة البيئة في مناطق C. ثالثاً؛ تقرر أن سياسة إنفاذ القانون في المنطقة تحدد في المنتدى الذي يضم رئيس الحكومة ووزير الدفاع والوزير في مكتبه، حيث يتم المحافظة لقيادة المنطقة الوسطى على صلاحية تنفيذ إنفاذ القانون بصورة فورية، بما في ذلك استخدام وحدة الرقابة.

إخضاع وحدة الرقابة للوزير في وزارة الدفاع، والذي لديه سياسة معلنة لتفضيل مشروع الاستيطان، من المتوقع أن يقود إلى إنفاذ انتقائي للقانون، والذي بدوره سيؤدي إلى إحباط من شأنه أن يشجع العنف. أيضاً اليوم تعتبر وحدة إنفاذ القانون في نظر السكان الفلسطينيين كمن تعمل ضدهم وتشجع الاستيطان اليهودي. خيبة الأمل كبيرة وكل عملية إنفاذ للقانون تحمل في طياتها احتكاكاً، ولكن زيادة انعدام المساواة أمام القانون طوال الوقت من شأنها أن تعزز المقاربة السلبية تجاه الإدارة المدنية. علاوة على ذلك فإن إنفاذاً انتقائياً للقانون سيُستغل من قبل السلطة الفلسطينية لاستفزاز حكومة إسرائيل ولتعزيز رؤية إسرائيل في الساحة الدولية كدولة أبرتهايد. وذلك على خلفية طلب صودق عليه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في كانون أول 2022 لتقديم رأي استشاري من قبل محكمة العدل الدولية في لاهاي، بخصوص عدم قانونية الاحتلال والخوف من أن تناقش وجود نظام أبرتهايد.

بالمعنى العملي، إن نقل الصلاحيات يخلق تعقيداً وضبابية لسلسلة القيادة، حيث من غير الواضح من هو الوزير المسؤول عن الجيش في المواضيع المرتبطة بالجوانب المدنية أمام الفلسطينيين في الضفة الغربية؛ وزير الدفاع عبر رئيس الأركان أم الوزير في وزارة الدفاع. ولـ “حل” هذه الإشكالية، تقرر التوقيع على وثيقة تفاهمات خلقت تعقيداً آخر؛ فقد تقرر تعيين عنصر مدني نائباً لرئيس الإدارة المدنية، وليس واضحاً بعد خضوعه المهني والإداري، أي من ناحية إدارية هو خاضع لرئيس الإدارة المدنية، ومن ناحية مهنية خاضع للوزير في وزارة الدفاع. أما صلاحياته المهنية في المجالات المدنية فهي أكبر من قائده العسكري، وهو موجه مهني للجنود في الإدارة المدنية ولكنه ليس قائدهم. لذا فإن فصل الإدارة المدنية بصورة يتم فيها تكييف العناصر المدنية على يد الوزير في وزارة الدفاع وتظل المكونات العسكرية في قيادة المنطقة الوسطى، إنما هو فصل يخلق ازدواجية أوامر على عنصر واحد بصورة تعارض قواعد نظرية القيادة والسيطرة. تقرر حل المنظومة الموحدة التي عملت سواء من ناحية صلاحيات القيادة أو في الهيكل الإجرائي العملي.

إلى جانب هذا التعقيد، ستضعف مكانة الإدارة المدنية جراء التغييرات، نظراً لأنها لن تشكل العنصر الذي في جعبته “العصا والجزرة”، وستكون مسؤولة فقط عن المواضيع الناعمة. على الرغم من أنها ظلت جزءاً من قوات الجيش الإسرائيلي، فقد اعتبرت غالباً من قبل الفلسطينيين عنصراً يقود القوة الناعمة في قيادة المنطقة الوسطى، وهذا هو مصدر مكانتها وتأثيرها. إن تصنيفها كجهة تحافظ على المستوطنين فقط، سيقلص تأثيرها على المنظومة الفلسطينية وسيقود إلى هبوط مكانتها، الأمر الذي سيضعفها كأداة لتنفيذ سياسات. في النهاية، في غياب سيطرة للقيادة على الإدارة المدنية، سيتضرر أيضاً التنسيق بين القيادة والسلطة الفلسطينية وقوات الأمن الفلسطينية، وستكون للنائب في الإدارة المدنية صلاحية تشوش على النشاط السوي في الضفة الغربية. وكما ذكرنا سابقاً، فإن الإدارة المدنية تستخدم كذراع لقيادة المنطقة الوسطى لتطبيق سياسات للأمن والاستقرار، وتحويل هذه الصلاحيات سيمس بقدرة القائد العسكري على إدارة المنطقة التي هي تحت مسؤوليته.

إخضاع حرس الحدود لوزير الأمن الوطني 

في البند 90 من الاتفاق الائتلافي بين الليكود وحزب “قوة يهودية”، ورد أنه خلال 90 يوماً من تشكيل الحكومة ستتخذ الحكومة قراراً “بفصل حرس الحدود عن الشرطة وتحويله إلى جهاز مستقل بمكانة مشابهة لمصلحة السجون وإخضاعه لوزير وتنفيذ تعديلات قانونية طبقاً لذلك”. بخصوص قيادة المنطقة الوسطى، يدور الحديث عن كسر سلسلة القيادة المتعلقة بحرس الحدود في الضفة الغربية. إذا تقرر تطبيق القرار بنقل حرس الحدود من شرطة إسرائيل وبضمن ذلك حرس حدود الضفة الغربية إلى سلطة وزير الأمن الوطني، فمعنى ذلك فصل مسؤولية وصلاحيات قيادة المنطقة الوسطى على فصائل حرس الحدود بصورة ستمس بوحدة القيادة. وبهذا سيكون الوزير مسؤولاً عن مهام حرس حدود الضفة الغربية وسيكون لديه صلاحيات لنقل الفصائل من الضفة الغربية ووضعها في مناطق أخرى في إسرائيل متى رأى ذلك مناسباً، هذا من خلال فصل البعد الجغرافي الذي هو عامل حاسم في الأداء السليم وفي أهليتها العملية. وبدون الأخذ بالاعتبار التداعيات على أداء قيادة المنطقة الوسطى وبدون القوة التنفيذية لحرس حدود الضفة الغربية، والجيش الإسرائيلي وقيادة المنطقة الوسطى داخله، سيضطرون للتوجه إلى بدائل مثل تجنيد قوات احتياط أو زيادة عدد جنود في القيادة الوسطى وإعدادهم بحيث يستطيعون إعطاء رد على المهام الموجودة اليوم بأيدي قوات حرس الحدود؛ أي المؤهلات المرتبطة بالعمل أمام سكان مدنيين.

تغيير الجهاز القائم معناه أيضاً إعادة تشكيل أجهزة تجنيد القوة البشرية وتأهيلها. إذا لم يعد حرس حدود الضفة الغربية خاضعاً للجيش الإسرائيلي، فلن يجند الجنود أو يؤهلوا على يده، وستكون هنالك ضرورة لتطوير وتفعيل آليات إيجاد وتأهيل آخرين. يمكن تقدير أنه نتيجة لتقليص مخزون التجنيد، ستهبط جودة القوى البشرية في فصائل حرس الحدود في المدى الطويل.

مشروع الاستيطان 

البنود 118 – 127 من الاتفاق الائتلافي بين الليكود و”الصهيونية الدينية” تنص على أن الحكومة ستعمل على فرض السيادة في الضفة الغربية وتفصل طرقاً مختلفة لترسيخ مشروع الاستيطان وتوسيعه وتقويته. خلال ذلك ينص البند 119 من الاتفاق الائتلافي على أن الحكومة “ستتخذ خلال 60 يوماً من تشكيلها قراراً بشأن تسوية المستوطنات الشابة”، أي تسوية بؤر استيطانية غير قانونية أقيمت دون موافقة الدولة، وجزء منها على أراض خاصة لفلسطينيين. لهذا، ففي شباط 2023 تقرر في جلسة للحكومة تسوية تسع مستوطنات في الضفة الغربية.

إن تسوية البؤر الاستيطانية غير القانونية على أراض فلسطينية بصورة أحادية الجانب سوف يزيد الاحتكاك بين السكان الفلسطينيين والسكان اليهود في المنطقة، ومن المتوقع أن يزيد إحباط السكان الفلسطينيين في أعقاب التغيير في مكانة “الضفة الغربية]، بصورة ربما تقود إلى تصعيد أمني. تسوية الاستيطان والتغيير في السياسة الحكومية من المتوقع أن يشجع استمرار إقامة بؤر استيطانية غير شرعية، التي هي أيضاً ستزيد الاحتكاك. الأمر يتعلق بتغيير مكانة مناطق في المنطقة المصنفة “ج” والتي ستنتقل لتصبح تحت السيطرة الإسرائيلية، في حين يرى الفلسطينيون في هذه المناطق مجالاً سيسري عليه اتفاق مستقبلي. هكذا فإن تسوية الاستيطان في الضفة الغربية دون اتفاق يتعلق بالموضوع الفلسطيني أو القيام بخطوات تنظم الاحتكاك العميق بين المجموعات السكانية، سوف تلقي تحدياً كبيراً على قيادة المنطقة الوسطى.

هناك عدم وضوح فيما يتعلق بالهدف بعيد المدى لدولة إسرائيل إزاء الساحة الفلسطينية، في حين أن مشروع الاستيطان وتوسيعه يمنع أي إمكانية للتوصل إلى اتفاق مستقبلي ومثبت لحقائق على الأرض. إن قيادة المنطقة الوسطى بقيت مسؤولة عن إدارة المعركة دون هدف سياسي واضح، على خلفية زيادة الاحتكاك بين المجموعات السكانية، وكذلك أيضاً تقوية عناصر تعمل على تسريع التصعيد.

اليوم وبنظرة طويلة المدى، فإن توسيع مشروع الاستيطان بشكل عام وتسوية البؤر الاستيطانية غير القانونية بشكل خاص يثيران انتقادات دولية شديدة وواسعة بسبب النظر لها كنشاط أحادي الجانب ليس لديه شرعية بكونه يعارض القانون الدولي، وتؤدي إلى توتر مع الإدارة الأمريكية. هكذا فإن استمرار توسيع الاستيطان سيقود إلى سيادة النقد على إسرائيل ونزع الشرعية عن استمرار السيطرة العسكرية على الضفة الغربية.

الإصلاح القضائي 

“الإصلاح القضائي” الموجود على طاولة الحكومة والذي هو الآن في حالة تعليق حتى كتابة هذا المقال، مخصص لإعادة تشكيل العلاقات بين السلطات الثلاث في الدولة، مع زيادة قوة السلطة التنفيذية وتقليل قوة السلطة القضائية. إن المضي بالإصلاح ربما يضعف الشرعية الإسرائيلية في العمل في الضفة الغربية. وهذه ترتكز اليوم على منظومة القضاء الإسرائيلية وعلى استقلالها ومكانتها في العالم. وهو سيناريو بموجبه يفقد جهاز القضاء استقلاله وإضعاف صورته في العالم كمنظومة قضائية مستقلة، من شأنها القضاء على الشرعية الدولية لإسرائيل في مواصلة الحفاظ على الوضع الراهن السياسي -الجغرافي في الضفة الغربية .

منظومة القضاء والقانون الإسرائيلي توفر دعماً قانونياً لدعم نشاطات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، وبالمقابل تشكل عاملاً مهماً لكبح القوة في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة مع تجنب التدخل في مواضيع سياسية، مثال على كبح قوة الجيش الإسرائيلي: التماس عدالة للمحكمة العليا ضد وزير الدفاع. المحكمة العليا أمرت في سنة 2005 إلغاء التعديل رقم 7 من قانون الأضرار المدنية (مسؤولية الدولة)، والذي ينفي الحق في التعويضات بسبب أضرار وقعت على أيدي قوات الأمن. حسب المحكمة العليا، فإن هذا الأمر يمس بصورة غير متناسبة بحقوق الإنسان للفلسطينيين، نظراً لأنه يستبعد “المسؤولية عن الضرر الناجم عن أي ضرر تسببت به قوات الأمن في منطقة النزاع، حتى بالنسبة للأعمال التي ارتكبت ليس على أيدي عمل حربي قامت به قوات الأمن”. وثمة مثال آخر على كبح القوة في الضفة الغربية، وهو مطالبة المحكمة العليا بإخلاء جزء من المستوطنات التي بنيت على أراض فلسطينية، وحتى إلغاء قانون التسوية لسنة 2020 في أعقاب مس غير متناسب بالحق في المساواة والملكية للفلسطينيين في الضفة الغربية خلافاً لميثاق جنيف. إن مجرد قدرة الفلسطينيين على إسماع صوتهم في المحكمة، يشكل مقاربة حذرة لرؤساء الجهاز الأمني بخصوص ضرر غير ضروري وغير متناسب بحقوق الفلسطينيين. وإمكانية التوجه للمحكمة يشكل بالنسبة للفلسطينيين قناة بديلة للتعبير عن إحباطهم وطرح ادعاءاتهم، التي يمكن رؤيتها كعامل كابح للعنف.

في النهاية

على طول اكثر من 40 عاما خلقت قيادة المنطقة الوسطى التوازن الامني المطلوب، في المنطقة التي يعيش فيها مجموعات سكانية متعادية احداهما الى جانب الاخرى. هكذا ايضا منحت قيادة المنطقة الوسطى للمستوى السياسي مجالاً للمناورة ووقتاً، وحررته ليعمل في امور اخرى. تعمل قيادة المنطقة الوسطى بمهنية وتواجه بنجاعة من حين لآخر عصياناً مدنياً وانتفاضات شعبية وبالتزامن مع العمليات في الضفة الغربية. طوال السنين، ومن خلال تطور ادراكي، خلقت منظومة متوازنة وناجعة لمواجهة التحديات الخاصة الموجودة في هذا القطاع. وذلك على خلفية النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني المعقد، والذي لا يوجد له اليوم حل يمكن رؤيته ونضوج لحل طويل المدى.

في هذا المقال نوقش عدد من القضايا التي تجعل المحافظة على الوضع الراهن في الضفة الغربية صعبة على ضوء اضعاف قيادة المنطقة الوسطى، وعلى رأسها نقل صلاحيات الادارة المدنية واخضاع حرس الحدود لوزير الامن الوطني. تختلف قيادة المنطقة الوسطى عن القيادات الاخرى للجيش الإسرائيلي بكونها مستقلة ولديها مجمل القدرات والصلاحيات للعمل في منطقة معينة مليئة بالسكان، من اجل الحفاظ على القانون والنظام وتوفير الأمن للسكان ولمن يمرون في هذه المنطقة. التوافق ما بين القوى، وفهم المسؤولية الشاملة واساليب ممارسة المسؤولية يخلق تفرداً يمكن ان يؤدي تفكيكه الى انخفاض جودة الاستجابة لتحديات السيطرة على الارض والعنف الفلسطيني. ان تآكل هذه الجودة يثير الأسف بصورة عامة وهو خطير ازاء الوضع الخاص الذي تقف امامه إسرائيل في هذه الساحة، في الوقت الذي تقف فيه المنظومة الفلسطينية امام تغيير جذري على خلفية تعاقب الاجيال وصراع القوة في صفوف القيادة وتغيير متسارع جراء سياسة حكومة إسرائيل الحالية.

بالاضافة الى ذلك فإن زيادة مشروع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، والذي يضم اليوم اكثر من نصف مليون مستوطن، مع نقص الشرعية الدولية له ومع امكانية التصعيد الامني نتيجة للاحتكاك المتزايد والعداوة بين المجموعات السكانية، يصعّب بلورة حلول سياسية قابلة للعيش وتحافظ على الطابع الديمقراطي واليهودي لدولة إسرائيل. كل هذا على خلفية الإصلاح القضائي والذي من شأنه ان يقضي على الشرعية الدولية لإسرائيل في مواصلة المحافظة على الوضع القائم السياسي -الجغرافي في الضفة الغربية، وفي النهاية ان يقود الى انهائه، دون بديل ظاهر للعيان باستثناء تصعيد امني شديد.

ان مجمل الخطوات الفعلية والخطوات التي تلوح في الافق في هذا الوقت في اعقاب تطبيق توافقات مصدرها اعتبارات سياسية -ائتلافية من شأنه ان يلحق كارثة امنية بدولة إسرائيل، وفي الوقت ذاته ان يخلق أمامها تحديات سياسية ثقيلة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى