معاريف– بقلم جاكي خوجي – انه الاقتصاد يا أحمد

معاريف– بقلم جاكي خوجي – 20/3/2020
“ من كان يصدق ان تسمح اسرائيل لعمال من الضفة المبيت في اراضيها لشهر كامل أو أكثر. الكورونا فعل ما لم تنجح في فعله مساعي السلام لعشرات السنين: توحيد اسرائيل، الفلسطينيين وقطاع غزة للكفاح ضد عدو مشترك “.
ولعل كل هذه مناورة من أحد ما كي يعلمنا جميعا هنا في المنطقة، بعد سنوات من الغضب والتعالي المتبادلين، ان نهدأ وان ننظر الى الداخل. أول أمس نشر في “هآرتس” تقرير عن قوة العمل العربية في المستشفيات في اسرائيل. تحدثوا عن اطباء، ممرضات وممرضين، يعالجون في كل يوم مرضى يهود في اجتهاد عظيم وفي ولاء مهني، وها هم حين يخرجون يصبحون مواطنين من الدرجة الثانية. تحدثوا عن كل ما كنا نعرفه، عن الفجوة بين المعاملة الاستخفافية من جانب المؤسسة والمجتمع تجاههم. عن دورهم الهام في انقاذ الحياة.
في غضون وقت ما، نأمل ان يكون قصيرا قدر الامكان، سنعرف ما سيتبقى من كل هذا. فهل سنتمكن من البقاء على عربة الشراكة والمودة مع الجيران، ام سنسارع الى هجرها بالسرعة التي قفزنا فيها اليها. لسبب ما يبدو أن الامكانية الثانية هي المعقولة اكثر، وعليه فيجدر بنا أن نوثق اللحظة.
منذ بداية اندلاع المرحلة الحادة للازمة، مع حلول منتصف شباط، يجري تنسيق وثيق بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، وتنسيق ما، غير مباشر وغير عادي، بين اسرائيل وحماس في قطاع غزة. ويتضمن التعاون بين الاطراف الثلاثة نقل المعلومات، اعطاء عتاد طبي وترتيبات مشتركة. ما هو الترتيب المشتركة؟ مثلا، الطوق الذي فرضه الفلسطينيون على بيت لحم بعد أن اكتشف فيه انتشار للوباء. كانت هذه خطوة منسقة مع اسرائيل، لقرب بيت لحم من القدس، وبسبب حركة حرس الحدود والجيش الاسرائيلي بين المدن. معلومات طبية نقلت الى السلطة من الادارة المدنية، وفي اعقابها طبقت طريقة العزل. ومثله ايضا الاغلاق على بلدة بيت ساحور المجاورة، الذي فرض يوم الثلاثاء. ثلاثة من سكانها عملوا في بيت لحم واصيبوا بالعدوى.
في السبت الماضي نقل منسق اعمال الحكومة في المناطق 200 طقم فحص الى وزارة الصحة في غزة. وفي غضون بضع ساعات نشر في القطاع بيان عن وجود وسائل فحص للكورونا في مختبر الفحوصات الطبية. لم يذكر في البيان من أين وصلت أطقم الفحص هذه، ولكن دعكم. من ينبغي له أن يعرف، يعرف. على مدى هذا الاسبوع اجتاز حاجز ايرز 200 طقم آخر. في القطاع لم يكتشف بعد حتى ولا حالة واحدة من الكورونا. نقيصة القطاع (العزل والاغلاق) تتبين حاليا كفضل. ولكن الفرضية هي ان الفيروس نجح في التسلل الى الداخل من خلال الاف العمال الذين عادوا من اسرائيل، او المسافرين الذين عادوا من مصر.
في يوم السبت اعلنت حكومة حماس عن اغلاق معابر الحدود. وهذا البيان ايضا نسق مع جهاز الامن. في اسرائيل وان كانوا يحتاجون الى هؤلاء العمال والى اخوانهم من الضفة ممن يعززون فرع البناء، ولكن ليس اقل من ذلك، تحتاج اسرائيل لغزة نقية من الكورونا. كل اللاعبين في المنطقة يعرفون جيدا ان جهاز الصحة في القطاع لن يصمد أمام انتشار المرض. وهو سينهار امام جموع المرضى كبار السن ممن سيحتاجون الى المستشفى والعناية المكثفة، والفيروس سينتشر بسرعة. ويضيف الى المشكلة الوضع المالي المتهالك لقطاع غزة.
تتصدر وكالة الغوث شراء اطقم الفحص لسكان القطاع، ولكنها بذاتها تعيش عجزا بمليار دولار، بسبب المقاطعة الامريكية. منظمة الصحة العالمية، حكومة قطر وسويسرا خصصت تبرعات. وبوسع هذه التبرعات ان توقف الموجة الاولى، اذا ما جاءت، ولكن ليس اكثر من هذا.
قنبلة موقوتة بيولوجية
نجحت السلطة واسرائيل هذا الاسبوع في حل المشكلة الاساس التي تقفان امامها. ما العمل بالقوى العاملة؟ عشية الازمة عمل في اسرائيل نحو 150 الف عامل فلسطيني. نحو 100 الف منهم مرتبون ومسجلون قانونيا، والباقي متسللون غير قانونيين. من بين القانونيين، 84 الف عامل داخل اراضي اسرائيل، والباقي في المستوطنات. ثارت مشكلة: اذا خرج هؤلاء العمال كل يوم الى اسرائيل وعاوا الى بيوتهم في المساء فهذه وصفة للمشاكل. الالاف منهم، ممن سيتنقلون كل يوم بين بئر السبع، تل ابيب، نتنانيا وحيفا الى الخليل، نابلس، طولكرم وجنين، هم قنبلة موقوتة بيولوجيا.
جلس الطرفان ووجدا صيغة. وحسب الخطة سيبيت العمال في اسرائيل لفترة طويلة، دون أن يعودوا الى ديارهم. سينقلون اماكن سكنهم الى السلطة المحلية في اسرائيل حيث يعملون. على المقاولين ان يجدوا لهم سكنا. وتقرر أن تكون فترة السكن شهرا أو شهرين.
لقد اتفق على هذا الحل بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية. رئيس حكومة السلطة، محمد اشتيه، أعلن يوم الثلاثاء عن فترة اعداد من ثلاثة ايام لكل عامل، في ختامها يخرج الى العمل في اسرائيل، ولا يعود منها الا بعد بضعة اسابيع. وهكذا تكون اسرائيل والسلطة قد أعلنتا عن اغلاق متبادل بينهما. هكذا تنقذ اسرائيل فرع البناء، والسلطة تخلص صندوقها من أزمته. تشغيل عمال الضفة هو المشروع الاقتصادي الانجح والاكثر استقرارا بين اسرائيل والسلطة في العقد الاخير. هؤلاء العمال يجلبون عشرات ملايين الشواكل في الشهر للاقتصاد الفلسطيني، نقدا. ومنفعتهم مزدوجة: لما كان معظمهم يعملون قانونيا، يفرز لهم رب العمل الضرائب. وهذه الضرائب تجمعها وزارة المالية في القدس وتنقلها الى صندوق السلطة، مثلما تقرر في اتفاقات اوسلو.
في السلطة كانوا راضين ايضا من المعنى السياسي لهذا الترتيب. وأمس فقط بدا هؤلاء العمال كمن يطلب الجميل من الاقتصاد الاسرائيلي الراسخ، وها هم يظهرون كمنقذين لفرع مركزي فيه. لقد حرص جهاز الامن العام على أن يسرب هذا الاسبوع للصحافيين انه يعارض هذا الترتيب، ولكن رجاله ايضا يعرفون بان معارضتهم هي للبروتوكول فقط. فاذا ما نفذ أحد العمال عملية لا سمح الله، سيكون بوسع جهاز الامن العام – الشاباك أن يأتي ويقول قلنا لكم. تثبت هذه القصة كم هي قوة الواقع. فمن حلم حتى وقت قصير مضى أن تسمح حكومة اسرائيل لعشرات الاف الفلسطينيين المبيت في اراضيها.
مناورة اشتيه
سيكون مشوقا أن نرى الى أين سيتدحرج كل هذا في اليوم التالي. في هذه الاثناء، قبل لحظة من اطلاق المشروع في صيغته الجديدة، لعبت السلطة لعبتها على ظهر اسرائيل. فقد دعا محمد اشتيه العمال الذين يعملون في المستوطنات الى عدم الخروج الى عملهم بحجة أنه ظهر بينهم معدل عالٍ من الاصابة بالكورونا. وكان يعرف بان دعوته ستحظى بالتجاهل، إذ ان الرزق فوق كل شيء، ولكن على اي حال فان سببها ليس طبيا. بل سياسي. ان الاسناد للعمال الذين خرجوا الى اسرائيل، مقابل التنكر لاولئك الذين يعملون في المستوطنات جاءا لتذكير الجميع بالفرق بين اقاليم البلاد على جانبي الخط الاخضر.
في الاسابيع القريبة سينتظرنا مشهد تجريدي في مدن اسرائيل. ملايين الاسرائيليين، المغلق عليهم في بيوتهم، سينظرون من النافذة ليروا العمال الفلسطينيين الذين يعملون في موقع بناء مجاور. وعند عودتهم الى الديار في نهاية الفترة، سيدخل عشرات الاف العمال اولئك الى الحجر، كي لا ينقلون العدوى الى اقربائهم واصدقائهم. وحتى ذلك الحين فانهم سيقيمون بيتا في اسرائيل. ليس لانفسهم، بالطبع.