ترجمات عبرية

معاريف: أوجه شبه عديدة بين الواقع الحالي والظروف التي سبقت الانتفاضة الأولى

معاريف 10-12-2022م، بقلم: د. ميخائيل ميلشتاين: أوجه شبه عديدة بين الواقع الحالي والظروف التي سبقت الانتفاضة الأولى

قبل 35 سنة بالضبط، وقعت إحدى الانعطافات الدراماتيكية في تاريخ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. ففي صباح التاسع من كانون الأول 1987 اندلعت اضطرابات غير مسبوقة في مخيم جباليا للاجئين في غزة، في أعقاب شائعة انتشرت فيه بأن موت أربعة عمال من أبناء المكان في حادث طرق قبل يوم من ذلك كانت بقصد مسبق من إسرائيلي سعى لينتقم لمقتل يهودي في سوق غزة.

ادعى كثيرون في الساحة الإسرائيلية بأن انفجار الغضب هذا سرعان ما سيذوي، لكنه استمر وتعاظم، وانتقل في غضون بضعة أيام إلى الضفة والى القدس، وأصبح واقعا ثابتا حتى اتفاق أوسلو.

جسّدت الانتفاضة الاحتكاك الملموس جدا للجمهور في إسرائيل مع «المناطق» منذ 1967. حتى ذلك الحين، أبدى معظم الإسرائيليين اهتماما محدودا بما يجري خلف الخط الأخضر. وانحصرت معرفتهم للفلسطينيين بالاتصال بعمال غزة والضفة ممن عملوا في السوق الإسرائيلية وبالعمليات التي وقعت في أوقات متباعدة ضد الإسرائيليين الذين كانوا يتسوقون في «المناطق». بين الحين والآخر، ثار في الخطاب السياسي العام سؤال إذا كان ممكنا مواصلة حكم الفلسطينيين دون أن يؤثر الأمر على طابع إسرائيل وعلى ميزانها الديمغرافي.

واختلط هذا الاهتمام الجماهيري المحدود بالفكرة التي سادت في القيادة السياسية منذ 1967 وصاغها يغئال الون في «القرار بعدم القرار». شعر الكثير من السياسيين من جهة بانعدام الراحة في ضوء الوضع غير المحدد الذي ساد في «المناطق» منذ 1967. لكن من الجهة الأخرى عارضوا تغيير الوضع الراهن، سواء انطلاقا من اعتبارات أمنية – استراتيجية، أم بمبررات أيديولوجية قومية ودينية لمعارضة كل تغيير في وحدة البلاد الإقليمية مثلما تصممت في أعقاب حرب «الأيام الستة».

الفرضية بالنسبة للقدرة على مواصلة الواقع القائم على مدى الزمن – والذي تغير عمليا كل الوقت في أعقاب مشروع الاستيطان والانصهار بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي – رافقت الفكرة التي كانت تقول انه يمكن شراء الهدوء الأمني بوسائل اقتصادية، وعلى رأسها تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين. العدد الكبير للواقط التلفزيونية على أسطح المنازل في «المناطق» شكل برأي الكثيرين في الحكم الإسرائيلي دليلا على أنه يمكن دحر الفلسطينيين نحو التركيز على الحياة اليومية والشؤون المادية وليس المسائل السياسية والوطنية. تفجّر هذا الاعتقاد الجماعي الذي يعود إلى 20 سنة دفعة واحدة. وتسلل الموضوع الفلسطيني عميقاً في الحاضر الإسرائيلي عبر شاشات التلفاز التي جلبت الواقع العاصف في «المناطق» إلى صالونات البيوت، وفي أعقاب عمليات «الإرهاب» التي نفذت في قلب الدولة وهزت إحساس الأمن العام.

أثارت الانتفاضة نقاشا حادا حول الثمن الذي جبي من إسرائيل لقاء السيطرة على «المناطق» وكان الموضوع في بؤرة خطاب انتخابات 1992، التي برزت فيها دعوة اسحق رابين «إلى إخراج غزة من تل أبيب»، والعمل على الفصل بين الشعبين بروح الخطة التي عرضها الون فور حرب «الأيام الستة».

عكست الانتفاضة تحولا استراتيجياً من ناحية إسرائيل: فبعد عشرات السنين ركزت فيها على التصدي العسكري للدول العربية والمواجهات التي دارت في مناطق الجبهة والحدود، وقف الفلسطينيون في 1987 والذين اعتبروا حتى ذلك الحين تحدياً هامشياً نسبياً في جدول الأعمال الأمني، وأصبح ميدان المعركة هو ساحة الداخل. لم يكن هذا صراعاً عسكرياً آخر من النوع الذي اعتادت عليه إسرائيل، بل جولة أُخرى في مواجهة طويلة السنين بين مجتمعين كانت قوة الصراع بينهما هي الأعلى منذ العام 1948.

قرار صعب

في الجانب العسكري، كان الحديث يدور عن مواجهة أولى واسعة النطاق تشهدها إسرائيل، وفي إطارها اختلط الحيز العام والتهديدات الأمنية، ونشأت معضلات قيمية عن الاحتكاك المكثف بين الجنود والسكان المدنيين. بالنسبة لمحافل الاستخبارات قدمت الانتفاضة درسا مهما عن انفجار مفاجئ ينطوي على سياقات أساس نضجت على مدى زمن طويل، مثل تبدل الأجيال وتغييرات المفاهيم والتي في الغالب لم يحس بها جساسو جمع المعلومات الذي كانوا يركزون على الأبعاد السياسية والأمنية.

انطوت الانتفاضة الأولى أيضا على تغيير عميق في الساحة الفلسطينية. فقد كان هذا هو الصراع الأول الذي جرى في «المناطق» – ساحة كانت حتى ذلك الحين في هوامش الفعل الوطني، الذي قادته «م.ت.ف» من الخارج. وعلى رأس المواجهة وقف جيل فلسطيني شاب ومثقف نشأ بعد 1967. وكان هذا الجيل الفلسطيني يعرف المجتمع الإسرائيلي، وتأثر به، ومثّل محيطا اجتماعيا (ولا سيما مخيمات اللاجئين والقرى). سعى قادة الانتفاضة ليدفعوا قدما بنموذج بديل عن الكفاح المسلح، كفاح يستند إلى مشاركة الجمهور الغفير، ولهذا السبب نال التعاطف والشرعية الدولية، وأثار ضغطا عالميا متزايدا على إسرائيل.

حتى اليوم، يتذكر الفلسطينيون الانتفاضة الأولى بحنين كمثال أعلى للكفاح شارك فيه قسم كبير من الجمهور، ترافق ومظاهر تضامن داخلي، وتمتع بتعاطف خارجي واسع. عمليا، ذوت التعابير الشعبية للانتفاضة في غضون وقت قصير، وأخلت مكانها لمواجهات مسلحة انتهجتها المنظمات المختلفة وعلى رأسها «حماس» – عامل قوة اندفع إلى مقدمة المنصة الفلسطينية في أعقاب الانتفاضة وتأسس بعد أسبوع من بدايتها. مثلت الحركة تطلعا ثوريا لطرح بديل كامل، سياسي وفكري، لـ»م.ت.ف» بروح الإسلام وبالتوازي لخوض كفاح لا هوادة فيه (جهاد) ضد إسرائيل، حتى ثنيها.

من مسافة ثلاثة عقود ونصف العقد، يمكن أن نشخص أوجه شبه عديدة مع الواقع الذي نشأ عشية الانتفاضة الأولى. فالمواجهة ذاتها أدت إلى إقامة السلطة الفلسطينية، والتي وإن كانت مثلت في بدايتها تحقيقا لهدف الانفصال لكنها ولدت لاحقا تهديدات حادة في أعقاب عودة الفلسطينيين إلى الكفاح المسلح، ما أثار نفور أجزاء واسعة في الجمهور الإسرائيلي من رؤيا الدولتين.

إسرائيل اليائسة من إمكانية الدفع قدما بتسوية في الساحة الفلسطينية قررت العودة للتمسك بـ»القرار بعدم القرار». عمليا، ينعقد نوع من الحلف بين جمهور في معظمه لا يهتم بما يجري خلف الخط الأخضر (ويستيقظ لذلك فقط في أوقات تصاعد «الإرهاب») وبين قيادة سياسية غير معنية، أو قادرة، على خوض نقاش معمق حول مستقبل إسرائيل والفلسطينيين، لبلورة استراتيجية مرتبة وواعية في الموضوع، وبدلا من ذلك تركز على تحقيق الهدوء في ظل الاستناد إلى السلام الاقتصادي.

لكن انتفاضة 1987 علمتنا منذ الآن انه لا يمكن الفرار من الموضوع الفلسطيني، وان من يمتنع عن اتخاذ مبادرات واتخاذ قرارات حاسمة، فنهايته أن يقع الواقع على رأسه بينما يوجد هو في حالة استراتيجية دون مطالب بأن يبلور جوابا في ظل تعرضه للضغط الشديد.

توجد أمام إسرائيل، اليوم، قلة من البدائل الاستراتيجية، بعضها سيئ، وأخرى أسوأ. رؤيا الدولتين بروح «أوسلو» لا توجد، اليوم، قدرة عملية على تحقيقها، ضمن أمور أخرى بسبب الانقسام العميق في الساحة الفلسطينية، بينما أفكار الحل الوسط التي تطرح بين الحين والآخر مثل إعادة الحكم الأردني في الضفة، وتقليص النزاع دون فاصل مادي بين المجتمعين، وإقامة كونفدرالية مشتركة، ليست قابلة للتنفيذ عمليا. بين هذا وذاك يتحقق بالتدريج انصهار يومي غير واع بين إسرائيل والضفة يجد تعبيره في اندماج اقتصادي، وشبكات بنى تحتية مدنية وجغرافية.

إن إماطة لثام الأوهام، والشعارات والمفاهيم من الماضي تبين أنه لم يتبقَ، اليوم، إلا بديلان استراتيجيان معقدان يلزمان إسرائيل بان تختار الأقل سوءاً. الأول – استمرار التقدم نحو واقع الدولة الواحدة، بينما في المستقبل سيكون الإسرائيليون مطالبين بأن يحسموا بين دولة فيها مكانتان مدنيتان منفصلتان وبين تجنيس الفلسطينيين في الضفة.

البديل الثاني هو فصل مادي بين إسرائيل والضفة، حتى وان كان من طرف واحد إذا لم يتوفر شريك في الجانب الفلسطيني. ومن المتوقع للخطوة أن تكون مفعمة بالتحديات، وعلى رأسها استمرار التهديدات الأمنية من جهة الضفة، والتعلق الاقتصادي العميق للفلسطينيين بإسرائيل، لكنها ستساعد على منع واقع على نمط البوسنة والذي من شأنه دفعة واحدة أن يصبح مصيبة بمقياس تاريخي للمجتمعين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى