أقلام وأراء

مصطفى الفقي يكتب – مستقبل جامعة الدول العربية

مصطفى الفقي 29/9/2020

المنظمة تبدو في مفترق الطرق فإما توجه إصلاحي أو تناقض يؤدي لخلافات بين الأعضاء لا تسمح بوجود مساحة للاختلاف في الآراء .

تعود العرب وغير العرب أن يصبوا جام غضبهم على جامعة الدول العربية أمام أي فشل يلحق بالعمل العربي المشترك أو بالقدرة على مواجهة إسرائيل ودائماً التبرير موجود، فالجامعة تبدو كالكيان المحنط ويطلق عليها البعض الثلاجة الكبيرة على ضفاف نيل القاهرة، ولا شك أن الظروف التي نشأت فيها الجامعة بمباركة بريطانية وتوافق مصري سعودي جرى فيه إقناع الملك عبد العزيز الكبير بالمشاركة في قيامها والانضمام إليها واختيار عبد الرحمن عزام أول أمين عام للجامعة هو جزء من الحوار بين القاهرة والرياض، فكان اختيار عزام المصري والقريب من المملكة هو محاولة لإقناع السعودية بالقبول، ولقد كان قيام الجامعة مرتبطاً إلى حد كبير بالوضع في فلسطين حينذاك ومواجهة المد الصهيوني الذي كان قد بدأ يتزايد، حتى أن الملحق الوحيد بميثاق الجامعة كان عن فلسطين، وفي رأيي أن الجامعة المفترى عليها هي محصلة للواقع العربي، فهي تتأثر بمجموع إرادات الدول الأعضاء ووجود رغبة مشتركة في دعمها من عدمه، ولذلك فإن الذين يصبون جام غضبهم على الجامعة لا يدركون أنها آلية تنظيمية وإدارية وليست صاحبة إرادة حرة، كما أن الجامعة العربية تعاني هي الأخرى من عدد من المشكلات التي يمكن تلخيصها فيما يلي:

أولاً: نقص الموارد المادية والبشرية، إذ إن معظم الدول العربية الثرية لا تدفع حصتها في الجامعة إحساساً بضآلة دورها وهامشية وزنها حتى أصبحت لديهم مثاراً للتندر ليس من الآن فقط، بل منذ عدة عقود، فلقد تغنى العراقيون ذات يوم قائلين: حسونة مزونة، يقصدون عبد الخالق حسونة الأمين العام الثاني للجامعة الذي كان معروفاً بعلمه وأدبه، ولكنهم حاولوا تشبيه الجامعة في عهده بأنها قطة، وهكذا نرى أن الجامعة العربية منذ ميلادها لم تكن قوة فاعلة في صفوف التنظيم الدولي الإقليمي، بل كانت دائماً محل انتقاد، معتبرين أنها نوع من الفلكلور السياسي أو الحشد العاطفي في بعض المناسبات.

ثانياً: لم يقف الأمر عند هذا الحد، فإن الدول التي أحجمت عن دفع أنصبتها في الميزانية السنوية للجامعة، فعلت ذلك في إشارة واضحة إلى عدم الاهتمام بالجامعة والشعور بأن مستقبلها مرتهن بتغييرات كبرى جرت وتجري في المنطقة، وأن القرارات لا تجدي ولغة الشجب لا تغني، ولقد اختلفت وجهات النظر العربية في طبيعة الهيكل التنظيمي للجامعة وانتقد البعض في مراحل معينة الإسراف في فتح مكاتب للجامعة بالخارج، وعندما ذهب السادات إلى كامب ديفيد كانت تلك هي نقطة تحول كبرى في شخصية الجامعة وهوية أعضائها إذ كانت إيذاناً بميلاد مرحلة جديدة لم تكن متوقعة أو مدروسة من قبل، ومع ذلك فإن الاختراق الذي أحدثه السادات كان بمثابة جرس إنذار يفيق به كل من له صلة بهذا الملف الحساس.

ثالثاً: لاحظنا أن مسألة تدوير منصب أمين عام جامعة الدول العربية تستحوذ أحياناً على تفكير وزارات الخارجية العربية على اعتبار أن الميثاق نص على أن يكون مقر الجامعة هو القاهرة، ولكنه لم ينص على أن يكون الأمين العام مصرياً، والغريب أن العرب الذين انتقدوا التقليد المصري في هذا السياق هم أنفسهم الذين اختاروا تونسياً هو الراحل الشاذلي قليبي أن يكون أميناً عاماً لجامعة الدول العربية عندما انتقل المقر إلى تونس فكان تصرفهم ذلك إيذاناً بسلامة الإجراءات وصحة التقديرات.

رابعاً: لقد حاولت بعض الدول- وربما أخص منها دولة الجزائر- تطويع منصب الأمين العام بحيث لا يصبح كما يراه البعض جراجاً لوزراء الخارجية السابقين بل لا بد أن يكون هناك تدفق لمياه جديدة ودماء حيوية تصب في هذا الكيان العربي الكبير مهما كانت انتقاداتنا له أو حتى درجة السخرية منه، ولا بد أن نعترف هنا أن مصر هي من أكثر الدول العربية تمسكاً بالأوضاع الناجمة عن ميلاد الجامعة وظروف نشأتها ومحاولة استقطابها، ولكننا نعرف أنها في مثل هذا الأمر تحديداً لن تكون مرنة ولا طيعة، والأمر في ظني يحتاج إلى نظرة علوية ترى الأمور بشكل موضوعي وتقيم دراسة المقارنة بين جامعة الدول العربية والمنظمات الإقليمية المثيلة على اعتبار أن جامعة الدول العربية هي تجمع لعدد من الدول بينهم روابط مشتركة وليست مجرد مجموعة من الكيانات السياسية، فالجامعة العربية منظمة إقليمية قومية يجمع بين أعضائها لغة واحدة وثقافة مشتركة وظروف تاريخية متماثلة وجوار جغرافي دون موانع طبيعية كبرى، ولعل ذلك هو المبرر الذي يسوقه دعاة اختيار الأمين العام من دولة المقر إذ إنه فضلاً عما يوفره له ذلك من تسهيلات في بلده وعلاقات مباشرة مع المسؤولين فيها لخدمة الجامعة مقراً وكياناً فإنه يتمشى مع المفهوم القومي الواحد لعضوية الجامعة التي من المفترض فيها حسب ميثاقها أن يكون كل أعضائها من الدول العربية المستقلة.

خامساً: تبدو المعادلة الصعبة في الأفق حالياً، إذ إن أربع دول عربية لها علاقات مباشرة وعلنية مع إسرائيل، لذلك فإن ميثاق الجامعة قد يحتاج إلى نوع من المراجعة يترك الباب مفتوحاً للقبول الطوعي بإقامة علاقات مع إسرائيل من دون أن يؤثر ذلك على العضوية الكاملة في الجامعة العربية، واضعين في الاعتبار أن مصر هي الدولة الوحيدة التي تلقت عقوبة وقتية بسبب ذلك حين جرى نقل مقر الجامعة- خلافاً لنص ميثاقها– إلى تونس، وظل الأمر كذلك حتى عادت مصر إلى العرب أو عادوا هم إليها، فالقضية حالياً تحتاج إلى قدرة توفيقية تتخطى حاجز الخصومة مع الدولة العبرية لتصل إلى التعايش المشترك رغم كل تصرفات إسرائيل الاستفزازية والعدوانية، وهذا يقودنا إلى الأمل في أن تتحول الدول التي قبلت الاتفاق مع إسرائيل، مؤخراً، إلى قوة عربية وسيطة تسهم في رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني وتسمح له بأن يمضي على الطريق الصحيح من أجل إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس تمهيداً لوجه مختلف لشرق أوسط جديد قد لا يتحقق أمره بالسهولة التي نتحدث بها ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.

إن خلاصة القول هي أن إعلان دولتي الإمارات والبحرين عن توقيع اتفاق يكفل التعاون المباشر والعلني مع إسرائيل، إن هذا الأمر يفتح باباً للاجتهاد أمام الخبراء المعنيين بشأن الجامعة العربية تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً وهو أمر يلقي علينا تبعة كبيرة في ضرورة القيام بإصلاح شامل للمنظمة العربية الأولى من النواحي الفكرية والسياسية بل والاقتصادية والثقافية وإعادة النظر في بنود الميثاق الذي صدر مع نشأة الجامعة، إذ إنني أظن أن الدور الثقافي لجامعة الدول العربية سوف يبرز أكثر من أي وقت مضى باعتباره المؤشر الثابت لمفهوم العروبة وهو مفهوم يعلو على الخلافات والصراعات والصدامات، إن مستقبل جامعة الدول العربية حالياً يبدو وكأنه في مفترق الطرق، فإما توجه إصلاحي يوائم بين شخصية الجامعة والظروف المستجدة أو تناقض يؤدي إلى خلافات حادة بين الدول الأعضاء ولا يسمح بوجود مساحة للاختلاف في الآراء، خصوصاً إذا كانت تتعلق بالتوجه الإستراتيجي الجديد للجامعة العربية، تلك المؤسسة المفترى عليها دائماً المقدر دورها قليلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى