أقلام وأراء

مصطفى الفقي يكتب – أين المغرب العربي؟

مصطفى الفقي *  –  7/12/2020

“الدول المغاربية انصرفت عن هموم المشرق بسبب سيطرة التحديات الداخلية ورغبة قياداتها في التركيز عليها “.

اندمجت دول المغرب مع نظيرتها في المشرق خلال العقود الخمسة الأخيرة على نحو غير مسبوق، فعندما كانت القضية الجزائرية قضية قومية لكل الدول العربية، اتجهت الأنظار إلى المغرب العربي وبسالة شعوبه في مواجهة الاحتلال الأجنبي وكانت حرب التحرير الجزائرية هي قضية عروبية إسلامية لا تقلّ في تأثيرها عن القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من أن بعض الجزائريين كانوا يستهجنون اللهجة المشرقية عند الحديث عن ثورة المليون شهيد وفرض نوع من الوصاية على ذلك الشعب الباسل ومحاولة سرقة نضاله. ولا ننسى نحن المشرقيين والمصريين خصوصاً أن الجزائر وقفت مع هموم المشرق بغير تردد ولا تزال صورة هواري بو مدين وهو يهبط في مطار القاهرة حاملاً شيكاً على بياض ليدفعه إلى الزعيم جمال عبد الناصر ثمناً للسلاح السوفياتي المطلوب وقتها لمواصلة حرب الاستنزاف والاستعداد لتحرير الأرض المحتلة، لذلك كان التواصل بين المشرق والمغرب قضية محسومة.

أما بالنسبة إلى تونس، فقد كانت المقرّ المؤقت لجامعة الدول العربية في أعقاب توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وكان أمينها العام في ذلك الوقت تونسي أيضاً وهو الراحل الشاذلي القليبي، كما كان أمين عام منظمة التعاون الإسلامي – المؤتمر الإسلامي وقتها – التونسي أيضاً الحبيب الشطي، فضلاً عن استضافة تونس حينذاك لمقرّ منظمة التحرير الفلسطينية التي سقط شهداؤها الكبار على أرضها، “أبو إياد” و”أبو نضال” ثم تبعهم “أبو الهول”، لكي نشعر بالاندماج الكامل بين ذلك البلد المغاربي وبين المشرق العربي وقضاياه مع الانغماس في همومه إلى أعلى الدرجات.

أما المملكة المغربية، فلقد ترأس عاهلها الملك الراحل الحسن الثاني اللجنة العليا للقدس وتلاه الملك الحالي محمد السادس، وبذلك أصبح للدول المغاربية الثلاث الكبيرة دور مؤثر في قضايا المشرق العربي والمسائل المتصلة باستقراره من منظور قومي، لا يفرّق بين الشرق والغرب على خريطة الوطن العربي الكبير، واضعة في الاعتبار أن ليبيا القذافي كانت شريكاً فاعلاً في معظم قضايا المنطقتين العربية والأفريقية مهما اختلف الجدل حول طبيعة ذلك الدور وأهميته. كما أن جمهورية موريتانيا فاجأت الجميع منذ سنوات بالحديث عن علاقات دبلوماسية مع إسرائيل من دون مبرر بل ومن دون جدوى ولكن الكثيرين كانوا يظنون أن الوصول إلى قلب الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، بل والعقل الغربي عموماً، يمرّ بإسرائيل وأن المعونات ستتدفق على أي دولة تقترب من إسرائيل أو تقبل التحدث عن علاقات دبلوماسية مع تل أبيب. ولكن الأمر اختلف وأصبحنا حالياً أمام موقف أراه غير معتاد، فاهتمام الدول المغاربية الثلاث المغرب والجزائر وتونس لم يعُد له ذلك الوجود الفاعل أو القدر المؤثر في قضايا المشرق العربي وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ولكي نكون موضوعيين، فإن الاهتمام بالقضية قد تراجع في المشرق العربي والمغرب العربي معاً والسبب في ظني هو طغيان السياسات الإيرانية والتركية في المنطقة ومحاولة تقسيمها لنفوذ الدولتين على حساب مفهوم العروبة والسعي القومي لتحقيق عمل عربي مشترك لا يبدو مقبلاً في المنظور القريب. ونحن إذ نتحدث عن المغرب العربي والدول المغاربية الثلاث تونس والجزائر والمغرب على اعتبار أن ليبيا فيها ما يكفيها وأنها بؤرة صراع ومركز أطماع تمارس فيه تركيا أردوغان دوراً، أما موريتانيا على الطرف الأفريقي الأطلسي، فهي دولة عربية أفريقية تحمل همومها ولا تزعج غيرها، ولعلي أسوق هنا بعض الملاحظات التي تتصل بالدور المغاربي في قضايا المشرق:

أولاً: يجب أن نعترف بالتميّز الذي تحظى به دول المغرب العربي خصوصاً الثلاث التي نتحدث عنها حالياً، فاللغة الفرنسية هي اللغة الثانية في كل منها، بينما تطعّمت اللهجات الشعبية بالعبارات الفرنسية أيضاً، فأصبح الاقتراب الثقافي من فرنسا والجوار الجغرافي لأوروبا مدعاة لخلق خصوصية لدول الشمال الأفريقي تجعل هويتها الإسلامية أحياناً سابقة على انتماءاتها العربية، ولعلنا نتذكر الآن أن الجزائريين في حربهم الباسلة ضد الاحتلال الفرنسي قد اعتصموا بدينهم، فأصبح الإسلام بالنسبة إليهم قومية أيضاً لا ديناً فقط، ولقد انعكس الوجود الفرنسي على المجتمعات المغاربية بقدر كبير من التحرر الاجتماعي والاقتراب من نمط الحياة الأوروبية في اختلاف واضح عن السمات المعروفة لدول المشرق العربي وفي مقدمتها القبلية والعشائرية خصوصاً في منطقة الخليج، كما أن التعليم العام في دول المغرب تميّز هو الآخر بالتقدّم النسبي نتيجة تفاعله مع الغرب واقترابه من الثقافة الأوروبية، خصوصاً الفرنسية.

ثانياً: يتساءل كثيرون لماذا اختفى الاتحاد المغاربي أو انعدم تأثيره؟ ولماذا لم ينشَط مثل مجلس التعاون الخليجي الذي تميّز بالاستمرارية وتواصل قوة الدفع؟ ولا بد من أن أعترف هنا أن الخلاف الجزائري المغربي ومشكلة الصحراء الغربية كان لهما دور كبير في إضعاف الاتحاد المغاربي وانزواء دوره، لذلك فإن شراكة دول المغرب العربي مع ما يجري في المشرق قد ارتبط هو الآخر بقدر كبير من التأثيرات السلبية لضعف ذلك الاتحاد الإقليمي بين دول الشمال الأفريقي.

ثالثاً: لا يمكن أن نقلل من تأثير الخلاف المغربي الجزائري في تماسك دول المغرب العربي واتحادها، بل إننا نقرّ صراحة بأن ذلك الخلاف لم يضعف دور الدول المغاربية عربياً فقط، ولكن أفريقياً أيضاً، وما زلنا نرى الآثار السلبية لذلك الخلاف في الاتحاد الأفريقي تارة وفي جامعة الدول العربية تارة أخرى وفي الحالتين نشعر بالأسى لتفاقم ذلك الخلاف واحتدامه عبر السنين.

رابعاً: إن الدول المغاربية تشكّل الكتلة الرئيسة لدول شمال أفريقيا على اعتبار أن مصر – على الرغم من وقوعها في الشمال الأفريقي – تمثّل كتلة وسط بين المشرق والمغرب، لذلك نرى أن دولاً مثل المغرب والجزائر وتونس تبدو لها امتدادات سياسية في جنوب وغرب أفريقيا على نحو يشكّل لها وضعاً إقليمياً متميزاً إذ يمتدّ نفوذها في دول غرب أفريقيا الإسلامية، بل وغير الإسلامية أيضاً على نحو يجذب اهتمامها تجاه القارة الأم ربما أكثر أحياناً من انجذابها إلى قومية الأصل وأعني به المفهوم الممتد للعروبة، كما أنه لا يجب أن يغيب عن وعينا أن هناك أقلية أمازيغية في المغرب والجزائر يمتدّ أثرها إلى تونس وليبيا بل ومصر أيضاً، فالأمازيغية ما زالت لغة مستعملة في بعض مناطق الصحراء الغربية المصرية وحول واحة سيوة وبعض مناطق الوادي الجديد، وذلك معناه أن هناك تداخلاً قومياً يجعل الإسلام في النهاية هو المظلة الأكثر شمولاً وليست المعايير القومية هي التي تؤدي إلى ذلك.

خامساً: لقد شهدت دولتان من دول الشمال الأفريقي العربي هما تونس والجزائر وصول رئيسين جديدين إلى قمة السلطة بالانتخاب المباشر، وذلك معناه أن الشواغل الداخلية ومرحلة البناء الذاتي تستأثر بالنصيب الأكبر من اهتمام تلك الدول، وقد تصرفها عن هموم خارجية لا تمثّل الأولوية القصوى لها في بعض المراحل، كما أن المملكة المغربية قد شهدت في السنوات الأخيرة محاولات جادة للبناء الذاتي وفتحت الأبواب للاستثمارات، خصوصاً في مجال الصناعة كما أنها أصبحت دولة طموحة لبناء اقتصادي ناجح وفعال في الشمال الغربي من القارة الأفريقية، كذلك فإن الملك محمد السادس قد حسم، إلى حد كبير، حالة الاضطراب التي كانت قائمة في بلاده بسبب الصراع بين التيار الديني والدولة، كما وصلت إلى رئاسة الحكومة شخصيات من المعارضة وبذلك استقرت الأمور إلى حد كبير في المملكة المغربية بحجمها ودورها.

إننا لا نخالف الحقيقة إذا قلنا إن الدول المغاربية قد انصرفت نسبياً عن هموم المشرق العربي وذلك بسبب طغيان التحديات الداخلية ورغبة قيادات تلك الدول في التركيز على البناء الداخلي من دون الانتشار الخارجي، ولكن كل ما أسلفناه لا يعني أن المغرب العربي قد انسلخ عن أمته العربية، فهم شركاء في الحياة، وفي القدر، وفي المصير!

*سياسيٌ وبرلمانيٌ ودبلوماسيٌ  وكاتب وباحث مصري .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى