أقلام وأراء

مصطفى البرغوثي يكتب – الـتطعيم العنصري

مصطفى البرغوثي *- 27/12/2020

أعلنت حكومة إسرائيل أنها أمّنت ثمانية ملايين لقاح ضد وباء كورونا من شركة فايزر، بالإضافة إلى ستة ملايين لقاح من شركة موديرنا، وبذلك ضمنت كمية كافية لتطعيم كل من تنطبق عليهم قواعد التطعيم ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية. ولكنها تنكّرت لمسؤوليتها، بصفتها قوة احتلال، وتجاهلت حاجة ما يزيد عن خمسة ملايين فلسطيني من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، الواقعة تحت الاحتلال والحصار الإسرائيلي، لهذه المطاعيم.

ويتجلى الطابع العنصري لهذه الممارسة، والذي يذكّرنا بما كان عليه نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا في الضفة الغربية، حيث ينتشر 750 ألف مستوطن إسرائيلي، غير شرعي حسب القانون الدولي، سيتلقون جمعياً التطعيم ضد وباء كورونا خلال أيام، في حين لن يحصل ثلاثة ملايين فلسطيني يعيشون في المنطقة نفسها على أي لقاح، ومن غير المعروف متى ستتمكّن منظمة الصحة العالمية من توفير كميات محدودة من اللقاح لبعضهم.

تنكّرت إسرائيل لمسؤوليتها، بصفتها قوة احتلال، وتجاهلت حاجة ما يزيد عن خمسة ملايين فلسطيني من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة “.

أما قطاع غزة الذي تحاصره إسرائيل حصاراً محكماً، برّاً وبحراً وجواً، ولا تتوفر فيه الكهرباء إلا لعشر ساعات يومياً في أحسن الأحوال، بعد أن دمّرت القوات الإسرائيلية الجزء الأكبر من محطات توليد الكهرباء فيه، وحيث تصل نسبة الملوحة والتلوث إلى 94% من مياهه، وتصل نسبة الفقر فيه إلى 53%، كما تصل بطالة الشباب المتعلم فيه إلى 80%، فإنه يعاني اليوم من انفجار وبائي، بعد أن تسلل فيروس كورونا إليه. وتصل نسبة الإصابات فيه وفي الضفة الغربية إلى 36% من إجمالي الفحوصات، بالمقارنة مع 4.5% في إسرائيل، ما يعني ارتفاعا حادّاً في انتشار الوباء، في حين لا تبدو في الأفق القريب فرصة لوصول اللقاحات المضادّة للفيروس إلى سكان القطاع.

وتتصاعد يومياً مخاطر انهيار القطاع الصحي في الضفة الغربية، وبشكل أكبر في قطاع غزة، حيث وصلت نسبة إشغال الأسرّة المخصّصة لمرضى كورونا إلى 100%، كما يبدو الأفق سوداويا في ما يتعلق بتوفير أجهزة التنفس الإصطناعي، حيث لا يزيد عدد هذه الأجهزة عن 400 في الضفة الغربية، تخصص منها 130 فقط لمرضى كورونا، وحوالي 140 جهاز في قطاع غزة تخصّص معظمها لمرضى الوباء. وتعاني مستشفيات القطاع من نقصٍ خطير في الأكسجين ومولّداته، ولكم أن تتخيّلوا ماذا يحدث لمرضى كورونا، وهم يعانون من الاختناق، نتيجة إصابة جهازهم التنفسي، من دون أن يتوفر الأكسجين لهم.

السلطة لا تسيطر على الحدود ولا المعابر، ولا الأجواء، وهي فعلياً موجودة فقط في 38% من مساحة الضفة والقطاع المقطّعة الأوصال بالجدار والحواجز والمستوطنات “.

قد تدّعي السلطات الإسرائيلية أن مسؤولية توفير التطعيم في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين تقع على عاتق السلطة الفلسطينية، ولكن هذا الادعاء لا يصمد أمام الحقائق العنيدة التي تؤكّد أن السيطرة المطلقة في هذه المناطق لإسرائيل وجيشها، فالسلطة لا تسيطر على الحدود ولا المعابر، ولا الأجواء، وهي فعلياً موجودة فقط في 38% من مساحة الضفة والقطاع المقطّعة الأوصال بالجدار والحواجز والمستوطنات. وتفرض إسرائيل سيطرتها العسكرية والأمنية على كل شبر في الأراضي المحتلة، ولا تستطيع السلطة الفلسطينية استيراد أي لقاحٍ من دون موافقة الجانب الإسرائيلي وترخيصه، لأنها لا تسيطر على الحدود ولا الواردات والصادرات. ويزيد الطين بلة أن قطاع غزة محاصر إسرائيلياً بالكامل، ويعاني أطباؤه وجهازه الصحي الأمرّين، كلما حاولوا الحصول على موافقة إسرائيلية لادخال أجهزة طبية وأدوية، ويمنع سكانه من التنقل بحرّية إلى خارج القطاع.

يستحيل على المصابين بالفيروس عزل أنفسهم كما تطالبهم الأجهزة الصحية، إذ لا توجد في بيوتهم أماكن للعزل أو مرافق صحية كافية “.

كما يمنع معظم سكان الضفة الغربية، بمن فيهم الأطباء، من الوصول إلى قطاع غزة، أو الدخول إلى القدس العربية التي تمثل جزءًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفيها بعض أهم المرافق الصحية الفلسطينية. وقطاع غزة واحدٌ من أكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان، ففي مساحةٍ لا تتجاوز 140 ميلا مربعا يعيش أكثر من مليوني انسان، 70% منهم لاجئون، طردتهم من مدنهم وقراهم عام 1948 القوات الإسرائيلية، ويعيشون في مخيماتٍ مزدحمة، وقد يصل عدد الأفراد إلى ستة في الغرفة الواحدة. ولهذا يستحيل على المصابين بالفيروس عزل أنفسهم كما تطالبهم الأجهزة الصحية، إذ لا توجد في بيوتهم أماكن للعزل أو مرافق صحية كافية، ما أدّى إلى انتشار سريع وخطير للوباء، لا علاج له إلا توفير المطاعيم بسرعة لجميع السكان.

أما ما تسمّى مناطق ج في الضفة الغربية التي تزيد مساحتها عن 60% من مساحة الضفة، فممنوعة على السلطة الفلسطينية. وكلما حاول الفلسطينيون بناء عيادات أو مراكز صحية أو مدارس فيها، يهدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي. وفي مدينة القدس، اعتقلت السلطات الإسرائيلية متطوّعين في جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية في شهر مارس/ آذار الماضي، عندما حاولوا توزيع مواد تثقيفية صحية للتوعية بوباء كورونا، كما أغلقت هذه السلطات أكثر من مركز صحي تم إنشاؤها بجهد تطوعي من المجتمعات المحلية.

لا تستطيع السلطة الفلسطينية استيراد أي لقاحٍ من دون موافقة الجانب الإسرائيلي وترخيصه “.

هذا التمييز الصارخ ضد أكثر من خمسة ملايين فلسطيني يعيشون في أرض فلسطين يمثل تنكراً فاضحاً لحقيقة أن الأوبئة والأمراض لا تعرف الحدود، بل إن سلوك نتنياهو وحكومة إسرائيل العنصري، توفير اللقاح لحاملي الجنسية الإسرائيلية فقط، من دون اعتبار لملايين الفلسطينيين المقيمين على الأرض نفسها، خطيئة صحية، فالمناعة الجماعية لن تتوفر حتى للإسرائيليين الذين يستغلون جهد وعمل أكثر من مائة وثلاثين ألف عامل فلسطيني، وما دام مئات آلاف الإسرائيليين يواصلون عبر المستعمرات الاستيطانية والأنشطة العسكرية الوجود في الأراضي المحتلة .

هناك تناقضٌ كاملٌ ومطلقٌ بين الرعاية الطبية التي أؤمن بها كطبيب، والتي لا يمكن أن تفرّق بين إنسان وآخر، بسبب الدين أو اللون أو العرق، والممارسة العنصرية لحكام إسرائيل، لأن أول قاعدة تعلمناها في كليات الطب “لا تؤذي أحداً ولا تميّز بين إنسان وإنسان”. وعلى هذا أقسمنا عندما حملنا شهادة الطب.

ولا يحق لسياسيين، كنتنياهو، مهما كانت قوتهم، أن يُخضعوا الطب والرعاية الصحية لتمييز عنصري، لأنهم بذلك يؤذون الجميع، ويهينون القيم الإنسانية السامية لمهنة الطب.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية.

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى