مصطفى إبراهيم: نتنياهو واتفاق ترامب: تكتيك جديد قديم لاستمرار القتل بوسائل مختلفة
مصطفى إبراهيم 2-11-2025: نتنياهو واتفاق ترامب: تكتيك جديد قديم لاستمرار القتل بوسائل مختلفة
اتفاق وقف إطلاق النار الذي جاء بضغط ورعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يكن نهاية الحرب على غزة، بل إعادة ترتيب لوسائل إدارتها. فبنيامين نتنياهو لم يتعامل مع الاتفاق كفرصة لإنهاء الحرب أو الدخول في مسار سياسي حقيقي، بل كوسيلة لاستعادة زمام المبادرة داخلياً. وبينما رحّب العالم بما اعتُبر خطوة نحو التهدئة، كان نتنياهو يُعدّ لمرحلة جديدة من استمرار الحرب، أكثر هدوءاً في ظاهرها لكنها أشد قسوة في آثارها.
في المشهد الإنساني، لم تتوقف المأساة. فالدمار الذي خلّفته الحرب جعل من غزة مكاناً لا يصلح للحياة: مئات آلاف المنازل المهدّمة، مستشفيات مدمّرة، ومئات آلاف العائلات المشرّدة التي تواجه أزمة السكن والجوع والمرض ونقص المياه والكهرباء. وفي الوقت الذي تتحدث فيه دولة الاحتلال عن “وقف لإطلاق النار”، تواصل فرض حصار خانق يمنع دخول المساعدات ويعرقل إعادة الإعمار. لقد تحوّلت الحرب المباشرة إلى شكل جديد من العقاب الجماعي — قصفٌ أقل وبأهداف محسوبة، لكن تجويعٌ أكثر وتضييقٌ ممنهج على كل تفاصيل الحياة.
استغل نتنياهو اتفاق ترامب ليعيد تطبيق ما يمكن تسميته بـ”النموذج اللبناني” في غزة: احتلال أجزاء واسعة من القطاع (تقدَّر بنحو 58% من مساحته) والسيطرة عن بُعد، والردع من السماء، وإبقاء القطاع في حالة خنق دائم دون الحاجة إلى اجتياحات واسعة أو تكلفة بشرية داخلية. في الوقت نفسه، سمح له هذا النهج بالظهور أمام المجتمع الدولي كزعيم “عاقل” وافق على التهدئة، بينما هو عملياً يُدير حرباً بوسائل أخرى — الحصار، المنع، والعقوبات. بهذه السياسة، تمكّن من تقليص كلفة الحرب من الناحية العسكرية والاقتصادية، من دون أن يقدّم أي تنازل سياسي أو إنساني.
الخرق الإسرائيلي الأخير وعمليات القصف المكثف، أو ما يمكن تسميته بـ”العشوائي المنظّم”، التي سبقت مشاورات أمنية في مكتب نتنياهو، أظهرت أن الاتفاق لم يكن سوى ستار مؤقت. فبعد ساعات من تلك الاجتماعات، أمر نتنياهو الجيش بشن “هجمات شديدة” في غزة، معلناً عزمه توسيع ما يُعرف بـ”الخط الأصفر” الذي يسيطر عليه الجيش داخل القطاع. في تلك الهجمات استُشهد أكثر من مئة فلسطيني، بينهم عشرات الأطفال والنساء. ومع أن الذريعة كانت مقتل جندي إسرائيلي، فإن حجم المجزرة يكشف أن القصف كان مبيّتاً ومخططاً له مسبقاً.
تزامن ذلك مع اتهامات إسرائيلية لحركة حماس بالتقاعس في تسليم جثث الأسرى الإسرائيليين، رغم مشاركة فرق مصرية وأخرى تابعة للصليب الأحمر في عمليات البحث. ورغم علم واشنطن بصعوبة هذه المهمة بسبب الدمار الهائل، انضم ترامب نفسه إلى جوقة الضغط، مانحاً نتنياهو غطاءً سياسياً جديداً لاستئناف الهجمات بذريعة “الرد”. لكن إسرائيل نفسها كانت تعرقل البحث، بعدما رفضت دخول فرق خبراء أتراك ومصريين نصّ الاتفاق على مشاركتهم، في خطوة تكشف نية واضحة لتفريغ الاتفاق من مضمونه الإنساني.
ورغم إعلان إسرائيل لاحقاً “استئناف الالتزام بوقف إطلاق النار”، فإن ذلك لا يعني توقف الحرب فعلياً. فنتنياهو يواصل تنفيذ هجمات متفرقة، ويستثمر حالة “التهدئة النسبية” لتقليص كلفة الحرب: تسريح جزئي لقوات الاحتياط، تقليص استخدام الذخيرة، ونقل بعض الوحدات إلى جبهات أخرى مثل الضفة الغربية والحدود اللبنانية. إنها سياسة “الحرب الاقتصادية” — استمرار العدوان ولكن بحسابٍ مالي وسياسي أدق، بحيث تبقى غزة تحت النار دون أن يدفع هو ثمناً داخلياً أو دولياً كبيراً.
في الداخل الإسرائيلي، لا يواجه نتنياهو معارضة حقيقية. فالمجتمع الإسرائيلي، في معظمه، يعيش حالة إجماع قومي صهيوني. لا يعارض قتل الفلسطينيين، ولا يرى فيما يجري في غزة جريمة، بل “ردّاً مشروعاً” على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر قبل عامين. وحتى الأصوات القليلة التي ترتفع ضد هذا المسار تبقى محصورة في أوساط أكاديمية وثقافية محدودة التأثير، بينما تظل القاعدة الجماهيرية اليمينية متماسكة خلف نتنياهو، مدفوعة بشعور قومي انتقامي أكثر منه سياسي.
لم يكن “اتفاق ترامب” أكثر من استراحة عسكرية لنتنياهو، استغلّها لترميم صورته الداخلية، والتفرغ للتحضير للانتخابات القادمة، وتخفيف الضغط الدولي، من دون أن يغيّر شيئاً في جوهر السياسة الإسرائيلية تجاه غزة. توقّف القصف الكثيف، لكن الحصار تضاعف، والقتل تغيّر شكله فقط: من قصفٍ مباشر إلى تجويعٍ بطيء. هكذا، يتبدل شكل الحرب، لكن جوهرها يبقى واحداً: الإبادة بأدوات مختلفة، وصمت العالم شريكٌ دائم في استمرارها.



