أقلام وأراء

مصطفى إبراهيم: أصوات من غزة صورة الانتصار الإسرائيلي الزائفة

مصطفى إبراهيم 11-11-2023: أصوات من غزة صورة الانتصار الإسرائيلي الزائفة

اليوم شعرت بأني نازح، يقيم في بيت ليس بيته، لا يمارس سوى التدخين وشرب القهوة (البن نفذ من السوق)، والكثير من الكتابة، وأحياناً القليل منها لرصد حزن وغضب وألم الناس العميق، ومحاولة تلمس الشعور بالظُلم والوحدة والفقدان، وتدليل شعور عدم الإيمان بأولئك القائمين على تطبيق قواعد القانون الدوليّ.

لم أنجح بالكتابة منذ الصباح، اليوم يبدو قاسياً وصعباً وحزيناً كالأيام السابقة، روحي مُعلقة بمشاهد الدمار والقتل والحصار والعقاب الجماعي عبر التجويع والتعطيش، أتأمل بصمت حال النازحين اللإنسانيّ في مراكز الإيواء حيث البؤس والوجوه الشاحبة.

طقوس الانتظار والصبر يرافقها سماع قليل من الأخبار التي تعمّق الألم ووجع القلب والإحباط. البارحة، وللمرة الثالثة، أغير دواء ضغط الدم الذي اتناوله، النوع الثاني كان محلي مماثل ومكافئ، لكن نتائجه ليست جيدة، والنوع الثالث أجنبي، حتى الآن هو أفضل من الثاني، حالي كغيري ممن بدلوا أدويتهم بأخرى، وأعتقد أن النتائج ليست جيدة على الرغم من تأكيدات الأطباء.

اليوم خرجت من البيت مع صديقي النازح، وتجولت في شوارع رفح. زرت بعض الاصدقاء النازحين من غزة، وقابلت آخرين لم ألتق بهم منذ سنوات. الحزن والحيرة وقلة الحيلة تهيمن على أوج وجوه الناس، تلك التي أقرأ فيها أمل بوقف القتل. المشاهد التي تصلنا تدمي القلب، لكن الشوارع مزدحمة، والحركة نشطة غير اعتيادية في أسواق فارغة من السلع والبضائع.

جموع الناس في كل مكان، أمام محطات تحلية مياه الشرب، وعند أبواب المدارس او ما تسمى مراكز إيواء، الجميع يسأل: “متى تنتهي حرب الابادة ؟”،و “متى تتوقف الصواريخ ؟”، و”من الذي سيعلن النصر على دماء الضحايا ؟”، إسرائيل لم تكتف بالقتل لتحقيق “نصر يعيد الوحوش إلى لقفص”.

صور “النصر” الزائفة

في سياق الدعاية وصور النصر المزعوم التي تداولتها معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية، نشرت الصحافية والمحللة مئير شتريت، المستشارة السابقة لرئيس الحكومة السابق، فيديو لنازحين فلسطينيين من مخيم الشاطئ، نشرتها كصورة “نصر” يظهر فيها المهجّرون وهم يمرون من أمام الدبابات في وادي غزة، يمشون أفراداً دون متاع بعد منعهم من حمل أي أمتعة.

تزامن هذا النزوح مع قصف منازل الغزيين، وإعلان الجيش الإسرائيليّ أمام آلاف الفلسطينيين النازحين والعالم أنه فتح ممرات إنسانية محميّة، مع ذلك حمل بعض النازحين رايات بيضاء رفعوها أثناء نزوحهم مشياً من مدينة غزة ، مشو لأكثر من ٢٠ كيلو متراً نحو أحياء الجنوب. تداول الإعلام الإسرائيلي بصورة مبالغ بها صور النازحين باعتبارها علامة على “النصر”، وعلى أن الجيش الاسرائيلي يحمي الفلسطينيين من القتل، بعكس “حماس” التي تمنعهم من مغادرة منازلهم حسب الدعاية الإسرائيليّة.

خلال شهر واحد، قُتل في غزة 10569 إنسان بينهم 4324 طفلا و2823 امرأة. هؤلاء بشر، كان لهم حياة وأحلام ومستقبل وبيوت وتاريخ. أما إسرائيل، فما زالت تشكك بأعداد القتلة، إذ نقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مسؤول أمني إسرائيلي كبير، أن الجيش قتل عشرين (20000) الف فلسطيني غالبيتهم “إرهابيين”. ما يعني أن رقم وزارة الصحة هو نالصف مقارنة بما ذكر.

أما فيما يخص مصطلح “من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها” التي تستخدمه الولايات المتحدة ودول أوروبا، فيعبير عن عدم إنسانية من يرددونه، كونه يمنح إسرائيل الحق في ارتكاب “جرائم حرب”، وهدر حياة الفلسطينيين، بل يمكن القول أن من يرددونه أمام 10 آلاف قتيل، ليسوا إلا شركاء في الجرائم كونهم مصرّون على عدم وقف إطلاق النار.

“عاد من السوق فوجد المنزل حطاماً”

عصر الأربعاء اتصل ياسر من اسطنبول، صوته حزين ويتلعثم في الكلام، وبعد سؤالي “ما بك ؟”، قال “ابن عمي زياد قتلت زوجته وأولاده،علمت بذلك أثناء متابعتي اخبار الحرب، شاهدته وهو يصرخ بأن زوجته وأولاده قتلوا، واحدهم مفقود، زياد نزح في اليوم الثالث والثلاثين من الحرب من مكان سكنه في مدينة غزة إلى مخيم النصيرات لدى أقاربهم، وبعد وقت قصير من استقرار العائلة ذهب لشراء احتياجات العائلة، وحين عاد للبيت وجد أن الطائرات الإسرائيلية قصفت المنزل وقتلت 25 من سكانه وأصيب آخرون”.

مساء اليوم ذاته اتصلت بوالد ياسر لتعزيته باستشهاد ابن شقيقه، ياسر يقيم في جباليا في بيت ابن احد اخوته ولم يغادر ، لأنه سابقأً نزح من بيته في بيت لاهيا، بعد أن تم تدميره بشكل كبير.

بعد تبادل بعض الكلمات أخبرني أنه اتصل بياسر وقال له: “يا با قلي أخبار كويسة عن هدنة، عن وقف الحرب”، فرد عليه ياسر “الهدنة يا با ليست في غزة وشمالها، الهدنة في الجنوب”، فرد والده عليه “والله يا با خسارة المكالمة الدولية”.

المثير للغضب هو كذب إسرائيل وتحميل الضحايا مسؤوليّة عدم نزوحهم من بيوتهم التي تم تدميرها، وترديد عبارات تفيد بأنهم بالبقاء في منازلهم يعرضون حياتهم للخطر، وعليهم المغادرة مشياً نحو الجنوب غير الآمن، وقصة زياد واحدة من عشرات قصص النازحين الذين اتجهوا من غزة نحو الجنوب ثم قتل أفراد من أسرهم.

في انتظار صحوة ما تبقى من ضمير وشعور إنساني دولي وفعالية دعوات وقف إطلاق النار لوقت قصير مقابل الافراج عن المختطفين الأجانب والاسرائيليين، مازال الجيش الإسرائيلي يقصف شمال قطاع غزة، بتأييد دولي ودعم سياسي ودبلوماسي يمنح إسرائيل الوقت لاستكمال “المهمة القذرة”.

ينتظر البعض اجتماع القمة العربية، التي قد ينتج عنها شيء ما يحافظ على كرامة الأنظمة العربية، لكن التجربة تذكرنا بتاريخ طويل من التواطئ والعجز، وبداية حصار وقصف مقر الرئيس الراحل ياسر عرفات في 2002 في رام الله، إذ تزامن انعقاد القمة العربية في بيروت، مع حصار عرفات الذي امتد لسنتين، واستمر حتى موته.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى