مروان إميل طوباسي: من تفكيك المنطقة إلى تصفية فلسطين، حين تصبح “الواقعية السطحية” غطاءً للهيمنة

مروان إميل طوباسي 18-12-2025: من تفكيك المنطقة إلى تصفية فلسطين، حين تصبح “الواقعية السطحية” غطاءً للهيمنة
تشهد منطقتنا اليوم نقاشاً سياسياً عميقا بين تيارين متمايزين على المستوى العربي العام . التيار الأول يرى أن أبناء المنطقة لا يجوز لهم التسليم بالهيمنة الأمريكية والإسرائيلية ، لأن ثمن هذا التسليم لن يُدفع اليوم فقط ، بل ستدفعه الأجيال القادمة من سيادتها وكرامتها وقرارها الوطني . هذا التيار لا يقتصر على فصيل أو حركة سياسية بعينها ، ولا ينحصر في قوى الإسلام السياسي رغم ما نختلف عليه معها ، بل هو نقاش حاضر داخل الصف الوطني الفلسطيني والعربي عموماً في زمن تتسارع به المتغيرات الدولية ، بما يشمل قوى وطنية وقومية ويسارية وتيارات تاريخية في الحركة الوطنية الفلسطينية ، بما فيها في “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية .
في المقابل ، يَطرح التيار الثاني منطق “التعامل مع الأمر الواقع”، والدعوة إلى التعاون أو التكيف مع الولايات المتحدة وإسرائيل ، باعتبار ذلك الطريق الأقل كلفة ، والأكثر “واقعية” لتجنب الانهيار أو الفوضى أو فقدان سيطرة مراكز النفوذ ، أو للحصول على مكاسب محدودة في ظل ميزان قوى مُختل أو لمنع قوى الإسلام السياسي من السيطرة ، وفق تبريراتهم .
غير أن هذا المنطق من الواقعية السطحية ، رغم ما يبدو عليه من براغماتية منفعية ومُفرغة ، يحمل في جوهره خطر تحويل الإستسلام السياسي إلى خيار دائم ، وتكريس فقدان السيادة كأمر طبيعي ، والتراجع عن مقاومة الإستعمار الأستيطاني ومشروع دولة إسرائيل الكبرى .
لفهم هذا الجدل ، لا بد من توضيح ما تريده الولايات المتحدة فعلياً من المنطقة . فواشنطن لا تبحث عن “سلام” بقدر ما تسعى إلى “استقرار” يُدار وفق رؤيتها الأستراتيجية ، يضمن السيطرة على مصادر الطاقة والمعابر والموانئ وخطوط التجارة الدولية ، ويخدم معركتها الكبرى في مواجهة الصين وروسيا وتفرغها للتدخل بالقارة اللاتينية ، وفق وثيقة اعلان استراتيجيتها للأمن القومي مؤخراً بالأعتماد على مبدأ مونرو ووكلائها في بعض مناطق العالم وطبيعة عمل وكالة استخباراتها المركزية ومجمع الصناعات العسكرية فيها . وفي هذا السياق ، تُمنح إسرائيل دور الركيزة الأساسية كحليف استراتيجي ووكيل ، لتكون القوة المهيمنة في ما يسمى “الشرق الأوسط” ، وهو بالمناسبة توصيف من صناعة أمريكية سياسية قبل أن يكون توصيفاً جغرافيا بدلاً عن المشرق العربي ، لتتيح التسمية لأسرائيل أن تكون جزءً منه .
تحقيق هذا الهدف يتطلب ، وفق الرؤية الأمريكية ، إضعاف الأقطار العربية عسكريا وأمنيا واقتصاديا ومحاصرة فكر مقاومة مشاريعها حتى ولو كانت تقتصر على المقاومة السياسية والقانونية بل حتى السلمية منها ، وتفكيك مجتمعاتها عبر افتعال أزمات داخلية سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية من خلال العقوبات أو إثارة صراعات إثنية أو طائفية او بطبيعة التهديدات المختلفة ، كما وفرض وقائع تتعارض مع مفهوم الديمقراطية والحريات العامة داخل العديد من المجتمعات العربية كاشتراطات بمسميات التجديد تحت مبررات مختلفة من اجل بسط رؤية وسيطرة “تيار الواقعية السطحية” الذي أشرت له ، وبالتالي تَملُك مفاتيح الإدارة بالمنطقة .
فما جرى في العراق وليبيا وسوريا امتدادا لما سًمي “بالربيع العربي” بعد مراحل من اشكال الإستعمار المختلفة ، ليس منفصلاً عن هذا السياق ، وما يحدث في السودان واليمن ولبنان اليوم من محاولات اخضاع كافة قوى المعارضة الوطنية للسياسات الأمريكية والتهديدات الأسرائيلية تحت شعار عنوانه نزع سلاح حزب اللّه ، يندرج ضمن المسار نفسه . وإذا كانت تلك الدول تُستنزف وتُفكك ، فإن قضية فلسطين تُصفى ، بموازة ما يأتي من التوسع في اتفاقيات “إبراهام” اقتصاديا وسياسيا لتكريس إسرائيل كقوة أمر واقع إقليمي ، لا تُقاوَم بل يتم التعامل معها كقائد طبيعي للمنطقة بعض النظر عن مَن يحكُم فيها .
حيث يمثل ما هو حاصل بلبنان اليوم من محاولة فرض الاتفاقيات تحت النار وما تُمثله غزة كساحة الإختبار الأوضح لهذا المشروع ، عبر محاولات فرض واقع جديد يقوم على تقسيم القطاع واستدامة الأحتلال بعناوين “إنسانية وأمنية” ، وفق ما طُرح سابقاً في ما عُرفَ بخطة ترامب المفخخة ، التي لا تهدف إلى إنهاء الأحتلال بقدر ما تسعى إلى إدارته وإعادة إنتاجه بأشكال أقل كلفة على إسرائيل . ويترافق ذلك مع تسارع غير مسبوق في مشروع التوسع الأستيطاني الكولونيالي وجرائم الأحتلال اليومية في الضفة الغربية بما فيها القدس التي تُهود بتسارع والمخيمات التي تُدمر بموازاة الحصار والإعتداء على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا “في محاولة لشطب قضية اللاجئين وحق العودة وفق القرار ١٩٤ الأممي ، وبما يستهدف حق تقرير المصير لشعبنا وإنهاء ما تبقى من إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ، وتحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى مسألة سكانية وإدارية تتولى أسراىيل إدارتها .
هنا يكمن جوهر الصراع الحقيقي ، فهو ليس بين فصائل أو أحزاب أو أيديولوجيات ، بل بين مشروع هيمنة أستعماري متكامل بتعاون أدواته المحلية بالمنطقة ، وبين إرادة وطنية لشعوب تسعى بكرامة للحفاظ على حقها في القرار الوطني والسيادة وتقرير المصير . فالمواجهة غير المحسوبة قد تكون مكلفة ، لكن القبول بالأمر الواقع والتكيف الكامل مع هذا المشروع لا يقل كلفة فقط بل هو أشد خطراً وتدميراً ، لأنه يحول المنطقة إلى فضاء تابع ، بلا قدرة على إنتاج مستقبلها .
إن التحدي اليوم لا يكمن في الإعتماد على بعض الخلافات بين الإدارة الامريكية وحكومة دولة الأحتلال ، ولا على أزمات دولة الأحتلال ذاتها أو من خلال محاولة استرضاء الإدارة الامريكية اعتماداً على بعض أوجه المتغيرات فيها أو الوعود السرابية التي تقدمها ، وفي وقت تحظر على صاحب الجواز الفلسطيني دخول أراضيها رغم ان وثيقة السفر هذه صادرة بموجب أتفاق أوسلو الذي رعته لاحقا الولايات المتحدة وما تبعه من اتفاقات ، وقبل ذلك رفض السماح للأخ الرىيس دخول أراضيها لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة وانتهاك القانون الخاص بذلك . بل في ايجاد أرادة سياسية تتمثل برؤية استراتيجية مقاومة واعية تُبنى على اعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني كمشروع تحرري ديمقراطي في مواجهة مشروع أستعماري يتطور منذ نشأته في منطقتنا حتى اليوم ، لتكون هذه الرؤية ووضوح هوية المشروع التحرري رافعة لبناء واقع فلسطيني وأفق عربي جديد . استراتيجية لا تذهب إلى المغامرة ، ولا تنزلق إلى الأستسلام ولا القبول بأملاءات خارجية ، بغض النظر عن مصادرها . بل تجمع بين الصمود وإدارته كفكر مقاوم ومنهج ديمقراطي تُحترم فيه قيم المواطنة وأسس الدولة المدنية بعيداً عن الواقعية السطحية ومصادرة الحقوق الأساسية . وفي حالتنا نحن ضرورة استنباط ما يتفق مع وثيقة أعلان الإستقلال كعقد اجتماعي سياسي واعادة الحالة السياسية الفلسطينية من حالة أدارة ازمة النظام السياسي الى حالة التحرر الوطني ، خاصة بعد ان امتدت حالة أدارة فترة الحكم الذاتي من مدى خمس سنوات بحكم أتفاق أوسلو الذي أعدمته دولة الأحتلال بغض النظر عما لنا عليه من ملاحظات أثبتتها وقائع الاحداث على الأرض وسياساتها حتى في حصار السلطة الوطنية كمفهوم خدماتي لتاريخ اليوم دون ان تؤدي هذه الفترة الى مفاوضات الحل النهائي والذي كان يفترض ان يصل بنا الى إنهاء الأحتلال ولدولة ذات سيادة ، الأمر الذي ما زال غير مقبولاً بالعقلية الأمريكية وترفضه دولة الأحتلال من حيث المبدأ .
أن اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد يجب ان يرتبط بكونها أداة للتحرر الوطني بأعتبارها جبهة وطنية عريضة تُبنى وفق انتخابات تمثيلية وعلى اساس القواسم الوطنية المشتركة الان ومن ثم لنتائج الإنتخابات بما ستمثله من تيارات فكرية وسياسية واجتماعية وطنية في مجتمعنا التعددي ، تقوم على قاعدة أدارة الإختلاف لا الخلاف دون الحاجة لإلغاء أحداً للآخر من البيت الوطني ومن مكونات مجتمعنا الفلسطيني المتنوع ، وبالتوافق على اهداف شعبنا بدحر الأحتلال الأستيطاني اولاً وتجسيد حق تقرير المصير والأستقلال الوطني في مواجهة المشروع الصهيوني . بما يتطلب ايضا بناء عناصر القوة الوطنية الفلسطينية دون الخوف من التغيير من خلال ضرورة عقد المؤتمر العام الثامن ل “فتح” بمفهومها كحركة تحرر وطني ، كما والمؤتمرات العامة للأحزاب والقوى الوطنية الشريكة بالكفاح . الى جانب تطوير مقومات عناصر الصمود والقوة العربية ، وبضرورة التفكير بشكل غير تقليدي خارج الصندوق المعتاد منذ عقود في إطار عربي جديد ، لا كتحالفات أنظمة فقط ولا كقوى معزولة ولا كحضور في فيلم أمريكي طويل ، بل كشبكة مصالح شعبية وسياسية ديمقراطية عابرة للحدود العربية تاخذ بالاعتبار التحولات الدولية الجارية والتحالفات الناشئة ومنها خصوصا حركات الشعوب العالمية لمواجهة السياسات الإستعمارية بمنطقتنا التي باتت تستهدف الجميع بالتوالي . حتى لا يصبح ما يُسمّى “الأستقرار المُدار” غطاءً دائما للهيمنة ، ولكي لا تُفرَض إسرائيل بمشروعها التوسعي الأستئصالي كقدر سياسي لا يمكن تغييره .
مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook



