أقلام وأراء

مروان إميل طوباسي: الإصلاح بين الإدارة والهوية الوطنية ومبادئ المواطنة والدولة المدنية

مروان إميل طوباسي 27-12-2025: الإصلاح بين الإدارة والهوية الوطنية ومبادئ المواطنة والدولة المدنية

في لحظة وطنية مُثقلة بالدم والخُذلان ، ومفتوحة على أسئلة المصير والوجود ، لا يمكن لأي إجراء إداري مهما كانت مبرراته القانونية ، أن يُقرأ خارج سياقه السياسي والوطني والأخلاقي . ومن هنا ، لا يجوز التعامل مع الجدل الدائر حول المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي “تمكين” بوصفه خلافا تقنياً عابراً ، ولا في المقابل تحويله إلى ساحة إختلاف وانقسام جديد يُنهك ما تبقى من جسدنا الوطني .

بيان الأخ الرئيس محمود عباس قبل أيام جاء واضحاً في تأكيده أن “تمكين” مؤسسة وطنية رسمية ذات طابع تنفيذي ، تعمل حصرياً على تنفيذ السياسات والقرارات الصادرة وفق أحكام القانون أو التعديلات الصادرة بصيغة “قرار بقانون” ، ولا تمتلك أي صلاحيات تشريعية أو سياسية ، هو توضيح ضروري .

غير أن الإشكالية الحقيقية لا تكمن فقط في طبيعة المؤسسة أو توصيف صلاحياتها ، بل في السياق السياسي والوطني الذي جرى فيه التعامل مع أحد أكثر الملفات حساسية في وعينا الجمعي الفلسطيني ، ألا وهو ملف الأسرى والشهداء . فهذا الملف ليس بنداً ماليا ولا برنامج حماية اجتماعية فحسب ، بل هو عنوان للتضحية ورُكن من أركان الرواية الوطنية التاريخية ، وجزء لا يتجزأ من معركة الوجود والذاكرة ومسيرة التحرر الوطني .

من هنا ، فإن الغضب الشعبي والوطني ، ومواقف مؤسسات الأسرى ، هو غضب مفهوم في جوهره. فشعبنا الفلسطيني ، في زمن الإبادة المفتوحة والعدوان المستمر في كل مكان ، يشعُر أن ما تبقى له من ثوابت ورموز يتعرض للتآكل ، أو لسوء التقدير ، أو لقراءة خاطئة للسياق . والخطر هنا لا يكمن في القيمة المادية بحد ذاتها ، بل في الرسالة المعنوية التي قد تصل إلى مجتمعنا ، في لحظة يشعر فيها الفلسطيني أن تضحياته باتت مهددة بإعادة التوصيف أو الإجتهاد ، أو بالخضوع لإملاءات خارجية لا تؤدي للخلاص من الأحتلال .

وهنا تحديداً تبرز الإشكالية الأعمق ، فهي لا تتعلق فقط بالمخصصات ، بل بالخطر الكامن في إختزال الأسرى والشهداء من أصحاب قضية وطنية جامعة إلى حالات إدارية خاضعة لمعايير تقنية ، بما يمس مكانتهم النضالية والرمزية ، ويفتح باب الإلتباس من جهة ثانية في العلاقة بين المشروع الوطني التحرري ومؤسساتنا الرسمية ، وبين الذاكرة والقرار .

إن الدفاع عن مؤسسة وطنية لا يعني تبرئة السياسات من النقد. فالمشكلة ، في إطار الدفاع عن حقوق الأسرى والشهداء ، ليست في وجود “تمكين” ولا في توصيفها القانوني ، بل في غياب الحوار الوطني الواسع والشفاف وفي طريقة إدارة القضايا الحساسة وفي استمرار غياب الأطر التمثيلية والتشريعية المنتخبة ، وفي الفجوة المُتسعة بين القرار الرسمي ووجدان الشارع .

وفي هذا السياق ، لا يمكن فصل الجدل حول “تمكين” عن الفقرات الأخرى الواردة في بيان الأخ الرئيس الصادر قبل أيام ، لا سيما ما يتصل بالإصلاح الدستوري والسياسي ، وتطوير التعليم ، ومراجعة المناهج ، والحديث عن نبذ العنف والتحريض ، وصولاً إلى الإعداد للأنتقال المنظم من مرحلة السلطة الوطنية إلى مرحلة الدولة . فهذه كلها عناوين كبرى ، بعضها موجه للخارج بقدر ما هو موجه للداخل ، وبعضها يحمل في طياته إشكاليات حقيقية إذا لم يُبنى على شراكة وطنية جامعة وعلى التراث الثقافي والكفاحي الممتد لأبناء الوطن .

الإصلاح الحقيقي لا يُقاس فقط بمدى انسجامه مع “المعايير الدولية”، بل بقدرته على حماية الهوية الوطنية ومبادئ المواطنة والدولة الديمقراطية المدنية ، وصون الرواية التاريخية الطويلة منذ الكنعانين وصولاً لثورتنا الوطنية المعاصرة وتحديات المشروع الصهيوني ، وتعزيز الثقة بين الشعب ومؤسساته . وهو لا يُفرض من أعلى ولا يتم إنجازه بقرارات إدارية معزولة عن المزاج الوطني العام ، بل عبر حوار وطني شامل يعيد الإعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي والجامع كجبهة وطنية عريضة ، ويُشرك القوى السياسية والمجتمعية في رسم السياسات المصيرية من خلال الإسراع في إجراء الانتخابات المستحقة ، وعقد المؤتمرات المؤجلة وفي مقدمتها المؤتمر العام الثامن لحركة “فتح”، والذي عاودت اللجنة التحضيرية لأنعقاده اجتماعاتها قبل أيام من اجل ذلك الاتجاه الذي نأمل سرعته حتى تكون “فتح” وترتقي بدورها كعمود فقري للحركة الوطنية .

ولعلّ ما شهدناه سابقاُ في التعديلات التي أُقرت بقرارات بقانون على قانون انتخابات المجالس المحلية ، رغم ما جاء بها من نصوص تطويرية ، الا ان ما طال المادة (١٦) منه ، يُقدم مثالاً إضافيا على خطورة التعامل مع قضايا تمسّ جوهر مبدأ المواطنة والحقوق السياسية بمنطق إداري منفصل عن الشراكة الوطنية والشرعية التمثيلية ونصوص المرجعيات بدأ من وثيقة إعلان الإستقلال حتى القانون الأساسي المُعدل مرورا بالعهد الدولي لحقوق الانسان . حيث الألتزامات الدولية للدولة أو المنظمة لا شأن للمواطن بها خاصة في انتخابات لمجالس خدماتية ، فتلك التزامات تتعلق بعلاقات الدولة الثنائية والدولية ، كما ان مكانتها كممثل شرعي وحيد لا يجب أن تخضع للأستفناء عبر تعهدات يوقعها المرشحين ، فهذا ينتقص من مكانتها . كما ان الدفاع عن المؤسسات لا ينفصل عن الدفاع عن حق المواطن في المشاركة والأختيار ، ولا عن إحترام الأطر الديمقراطية بوصفها جزءًا أصيلاً من معركة التحرر الوطني ، لا خياراً قانونيا يمكن الألتفاف عليه أو تأجيله . ومن هنا ، فإن أي إصلاح لا يستند إلى الإرادة الشعبية ولا يُبنى على التوافق والحوار الوطني ، يبقى إصلاحاً غير مكتمل الأركان ، مهما بدت إجراءاته سليمة من الناحية الشكلية ومهما بدت الحاجة له ضرورية .

أما الحديث عن القانون الواحد والسلاح الشرعي الواحد ، فلا يمكن أن يكون مجرد شعار تنظيمي أو إداري رغم ضروراته ، بل يجب ربطه بسياق تحرري واضح ، وبأستراتيجية وطنية مقاومة عقلانية للمشاريع التي تستهدف هويّتنا ووجودنا ، متفق عليها دون تفرد من أي طرف ، عبر إعادة صياغة مشروعنا الوطني في ظل المتغيرات الجارية دولياً وإقليميا ومحلياً ، بما يعيد تعريف وظيفة السلطة الوطنية بمرجعية منظمة التحرير من إدارة حكم ذاتي مُقيد إلى إدارة مسار تحرر وطني حقيقي ينهي الأحتلال أولاً ، على قاعدة وحدة الأرض والشعب وحق تقرير المصير .

إن أخطر ما نواجهه اليوم ليس النقد ، بل فقدان الثقة ، وليس الإختلاف بل تحوله إلى شرذمة وأنقسام أجتماعي وسياسي جديد يعيق كفاحنا الوطني التحرري . إن تحويل أزمة “تمكين” وغيرها إلى فرصة لأعادة بناء الثقة ، يتطلب شجاعة سياسية وشفافية ومراجعة نقدية واستعداداً للإعتراف بالأخطاء ، قبل الإصرار على سلامة الإجراءات .

فبعض الوقائع السياسية الأخيرة ، التي كشفت هشاشة ما يُسمّى بالأمتيازات الإدارية أمام القرار الإسرائيلي والتدخلات الخارجية ، تُعيد التذكير بأن إدارة الشأن الوطني خارج تجربة الناس اليومية تحت الأحتلال لا تُنتج سيادة ولا ثقة ، بل تُعمّق الفجوة بين المؤسسة الرسمية ووجدان الشارع .

ففي زمن كهذا ، لا نحتاج إلى خلافات جديدة ، بل إلى حماية مؤسساتنا من الإملاءات والاشتراطات الخارجية التي لن تساهم كما لم تساهم سابقا في إنهاء الأحتلال كوعود سرابية ، كما نحتاج إلى صون مؤسساتنا من الإنفصال عن نبض شعبنا . وحده الحوار الوطني الصريح ، المسؤول والشفاف قادر على إعادة بناء الثقة ، وصون كرامة الأسرى والشهداء وربط الإصلاح بالتحرر الوطني والقرار المستقل , وقضايا شعبنا بمبادئ العدالة والمساواة امام القانون دون الارهاق باجراءات حكومية تمس صمود الناس ، ولا بالإدارة وحدها ولا بالأمتيازات الشكلية ولا بتصريحات عابرة لا تخدم مشروعنا التحرري كتلك التي اطلقها مسؤول حركة حماس بالخارج خالد مشعل ، أو تلك التي تتحدث بالأعلام عن شبهات فساد يتوجب التحقق منها حسب الأصول ومكاشفة شعبنا بنتائج التحقيقات حولها ، حتى لا تُثقل علينا ما نحن به من تسارع تنفيذ المشروع الإستعماري وجرائمه اليومية.

 

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى