أقلام وأراء

مختار الدبابي: ما بعد أزمة الخبز: تونس تتحسب للتصعيد

مختار الدبابي 20-8-2023: ما بعد أزمة الخبز: تونس تتحسب للتصعيد

لم يخف الرئيس التونسي قيس سعيد توقعه بأن تلجأ ما يسميها بالكارتلات إلى التصعيد بعد التضييق عليها في الحملة التي تقودها الدولة التونسية تحت شعار تطهير الإدارة.

ولم يستبعد قيس سعيد خلال لقاء مع رئيس الحكومة وعدد من الوزراء أن تتخذ الكارتلات من فرصة العودة المدرسية لتطل برأسها وتدفع نحو إرباك الحكومة وإظهارها في صورة العاجز عن تأمين عودة التلاميذ والطلاب إلى مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم، وهي مناسبة تهم العائلات التونسية وتحوز على اهتمام واسع، وطالما وجّه الناس انتقادات للحكومة بالتقصير في الظروف العادية فما بالك إذا دخلت لوبيات النفوذ على الخط.

ومن المهم الإشارة إلى أن حالة من التوتر يعيشها التونسيون في علاقة بالعودة المدرسية تتعلق بمواقف النقابات خاصة في التعليم الأساسي، حيث اضطرت النقابة إلى تعليق الإضراب تحت ضغط الوقت، وضغط الوزارة والشارع، خاصة أنها دخلت مغامرة غير محسوبة من خلال منع تسليم النتائج بصفة رسمية للجهات المعنية، وكان يمكن لهذه الخطوة أن تدفع نحو سنة بيضاء.

كما أن قطاع الثانوي يعيش حالة من التذمر بسبب اتفاق النقابة مع وزارة التربية، وهو اتفاق ينظر إليه الكثير من الأساتذة، وخاصة النقابات المحلية، على أنه اتفاق سياسي للتهدئة من دون الاستجابة لمطالبهم.

ويمكن أن تستثمر اللوبيات هذا المناخ للضغط على قيس سعيد بخلق حالة من التوتر المربكة إما بافتعال ندرة في المعروض أو ارتفاع الأسعار خاصة أن هذه اللوبيات كانت في السنوات الماضية هي من تحدد الأسعار التي تتعارض في الأغلب مع القدرة الشرائية للفئات الضعيفة.

ولا شك أن قيس سعيد سيجد أمامه إذا دخل المواجهة مع كارتلات الكتب والكراس المدرسي ولوازم العودة المدرسية المختلفة ما يشبه عش الدبابير متعدد الطبقات، فليس هناك حيتان كبيرة فقط، بل حيتان متوسطة وأخرى صغيرة، لكنها كثيرة منتشرة في كل نقطة من البلاد.

وتكفي الإشارة هنا إلى معضلة الكراس العادي والكراس الرفيع، وهي شبيهة بمعادلة الخبز المدعوم والخبز غير المدعوم، فالدولة هي من تنتج الورق وهي من تستورده من الخارج وتوزعه كورق مدعوم على المطابع سواء مطابع الكتاب المدرسي أو مطابع الجرائد، لكن جهات نافذة وخفية تفرض في السنوات الماضية على الناس شراء الكراس الرفيع الذي هو أعلى سعرا بمرتين أو ثلاث مرات، وتوفر الكراس العادي بكميات محدودة سرعان ما تنفد أو يتم إخفاؤها لإجبار الأولياء على خيار وحيد، بشكل يرهق جيوبهم وفي نفس الوقت يحقق عائدات كبيرة لكارتلات الموزعين وأصحاب المطابع.

ولا شك أن دوائر النفوذ بدأت تستشعر خطر حملة الرئيس سعيد عليها، خاصة أن عمليات التوقيف الأخيرة استهدفت أشخاصا مهمين في قطاع المطاحن والمخابز، وهذا تأكيد بالنسبة إلى الكارتلات على أن قيس سعيد ليست لديه خطوط حمراء، وأكثر من ذلك، فإن السكوت سيدفعه إلى توسيع الحملة بسرعة.

ويتوقع أن تلجأ الكارتلات إلى التصعيد على أكثر من واجهة، ويمكن أن تستفيد من تشابك مصالح مختلف الأطراف التي يستهدفها قيس سعيد من سياسيين ونقابيين ولوبيات نافذة في الإدارة، وأخرى متحكمة بقطاع الحبوب، وثالثة بقطاع الزراعة، ورابعة بمسالك التوزيع.

ويمكن أن يستثمر هذا الالتقاء الموضوعي بين مختلف هذه المكونات في غضب التلاميذ والطلبة والمعلمين والأستاذة، ويدفع إلى الاحتجاجات والإضرابات، وهذان هما القطاعان الأكثر تأثيرا في الواقع، ولذلك سعى قيس سعيد إلى الاستباق بكشف خطط الكارتلات للناس، وخاصة للطلبة والتلاميذ وتحذيرهم من أنهم يخوضون معارك غيرهم وإن تقاطعت مع مطالب لديهم.

وأكد قيس سعيد الخميس أن “الأزمة المفتعلة في الخبز لا يجب أن تتكرر بالنسبة إلى العودة المدرسية والجامعية أو بالنسبة إلى عدد من المواد الأساسية الأخرى، خاصة وأن البعض يرتب منذ الآن لاختلاق أزمات أخرى في عدد من المواد الأساسية”.

وجدد الرئيس التونسي أن “الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي وأنها ستحارب كل المحتكرين والمضاربين وستعمل على تطهير الإدارة من كل من اندسّ داخلها وصار يمثل عقبة لا يمكن قبول استمرارها بقضاء حاجات المواطنين”.

وكان القضاء التونسي أمر الخميس بحبس رئيس غرفة أصحاب المخابز محمد بوعنان بشبهة “الاحتكار والمضاربة بمواد غذائية وتبييض أموال”، في رسالة واضحة على أن الدولة لن تتردد في اتخاذ أيّ خطوة ضد أيّ شخصية مهما كان وزنها يمكن أن تربك خططها في مواجهة الاحتكار.

وقد دأب بوعنان باعتباره رئيسا لنقابة أصحاب المخابز التابعة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية على الظهور في وسائل إعلام سمعيّة ومرئيّة ومكتوبة بخطاب قوامه الطمأنة بانتهاء أزمة الخبز، مُتّهما المخابز العصريّة أو غير المُصنفة بالوقوف وراء ندرة العرض وارتفاع الأسعار.

وكان محمد بوعنان قد صرّح بأنّ أزمة نقص مادة الخبز وقع حلّها بعد قرار رئيس الجمهورية قيس سعيّد بمنع المخابز العصريّة من بيع “الباقات”، مشيرا إلى أن هذا القرار واقعي وقانوني، لافتا إلى أنّ الخبز متوفّر ومطالبا المواطنين بالابتعاد عن اللهفة.

وبقطع النظر عن صحة التهم الموجهة لمن تم توقيفهم في الأيام الأخيرة على هامش أزمة الاحتكار في قطاع الحبوب، فإن الرسالة واضحة: لا أحد فوق الدولة.

ولا شك أن الحملة الكبيرة، والتي تتم بشكل كبير وبإشراف يومي من الرئيس سعيد، ستجعل هذه اللوبيات تنكفئ وتعمد إلى التهدئة، وهي تعرف أن الدولة لا تساوم، وأنها قد تضطر إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة.

ويؤكد تمسك قيس سعيد بتفكيك الكارتلات وتأكيده المستمر على أهمية هذه المعركة امتلاكه تقاريرَ دقيقة حول نفوذ المحتكرين والمعرقلين في مختلف الإدارات، وخاصة في ارتباطها بتوزيع الخبز وغلاء الأسعار وندرة المواد الاستهلاكية بالرغم من أن الحكومة تبذل كل ما في وسعها لتوريد مختلف تلك المواد.

وما يؤكد أهمية المعركة ضد الكارتلات أن قيس سعيد عيّن رئيسا جديدا للحكومة بمهمة واضحة هي مواجهة “إرهاب الكارتلات”، مثلما جاء في كلمة الرئيس سعيد في موكب تعيين أحمد الحشاني.

لكن لا يجب التهوين أو الاستهانة بحجم هذه المجموعات ونفوذها وقدرتها على إرباك الحكومة من خلال خطوات محدودة هنا وهناك، لكن منظمة وذات تأثير، فاختفاء الكتب في مستويات دراسية مثل السادسة أو التاسعة أو الباكالوريا سيكون تأثيره أقوى مرات عدة من بيان سياسي أو مظاهرة حزبية، فالناس تنظر دائما في مصالحها المباشرة حتى ولو تفهمت خطاب السلطة عن المؤامرة أو تحالف الكارتلات.

وهذا كلام موجه بالأساس إلى البعض من أنصار الرئيس سعيد الذين يعمدون إلى الاستسهال والتهوين من نفوذ اللوبيات ويرددون شعارات فضفاضة عن أن الشعب مع الرئيس، وهو من سيحسم المعركة.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذه الكارتلات التي تتقن التخفي وتمتهن أسلوب التعطيل والإرباك بدم بارد لا يقدر على مواجهتها شخص واحد، ولو كان رئيس الجمهورية بكل مشروعيته السياسية والشعبية. فهو سيحتاج إلى أن تتحول الحملة التي يخوضها إلى مطلب شعبي حقيقي يدعمه الناس بالتظاهر وتنخرط فيه الدولة بكل مؤسساتها وتخرج فيه عن الحياد البيروقراطي.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى