أقلام وأراء

 مختار الدبابي: تأجيل الإضراب: مخاوف اتحاد الشغل التونسي من الصدام مع السلطة والشارع

 مختار الدبابي 2023/01/26

اختار الاتحاد العام التونسي للشغل وضع نفسه في الصف المعارض للرئيس قيس سعيد، وآخر خطواته كان إقرار الإضراب العام في قطاع النقل برا وجوا وبحرا، قبل أن يتراجع في آخر لحظة بعد رفض الحكومة تقديم التنازلات تحت الضغط، ومخافة الصدام مع الشارع التونسي، خاصة بعد موجة الغضب التي عرفتها البلاد على إضراب قطاع النقل بعد عطلة رأس السنة.

لو تم تنفيذ هذا الإضراب فسيؤسس لقطيعة تامة مع السلطات التونسية التي كانت تسعى لترك الاتحاد في منطقة وسطى بين الخصوم والأصدقاء، فلا هي تريد تقريبه حتى لا يشعر بأهميته ولا إبعاده ليصبح ورقة بيد المعارضة التي تقودها حركة النهضة الإسلامية.

أدركت قيادة اتحاد الشغل جيدا أن الإضراب العام في قطاع النقل، هو بمثابة إضراب عام، والإضراب العام لا يتم عادة إلا في سياق التحرك السياسي لإسقاط الحكومة أو دفعها إلى المواجهة الأمنية مع المنظمة وقياداتها وهياكلها المركزية والجهوية. لم يكن التراجع بسبب مراجعة مواقف، ولكن بسبب مخاوف من الفشل، فهو تراجع تكتيكي لن يمنع صداما قادما.

لا شك أن حكومة نجلاء بودن ليست في وضع يسمح لها بالمواجهة مع اتحاد الشغل. والأمر لا يتعلق بتهربها من الصدام مع اتحاد الشغل، فليس أسهل على أي دولة في العالم الثالث من اتباع الخيار الأمني لإسكات خصومها.

إذا كانت النهضة وحلفاؤها يكتفون بتظاهرات محدودة وشعارات وتصريحات تعبر عن العجز أكثر منها إقلاقا للسلطة، فإن اتحاد الشغل هو الطرف الذي يؤذي السلطة

لا تريد حكومة بودن، وهي حكومة الرئيس سعيد في نفس الوقت، أن تدخل في مواجهة تؤجل مشاريعها الحالية، وخاصة ما تعلق بالتفاهمات الحاصلة مع صندوق النقد الدولي، في وقت تظهر فيه المؤشرات أن الجلسة القادمة للصندوق سيتم فيها الإعلان عن منح تونس القسط الأول من القرض، وبدء مراقبة تنفيذها لما تضمنه قانون المالية لسنة 2023 من نوايا إصلاح تتعلق بالرفع التدريجي للدعم عن المحروقات والمواد الأساسية، وإصلاح المؤسسات الحكومية الفاشلة، والتي باتت تمثل عبئا كبيرا على المالية العمومية.

يضاف إلى ذلك السعي إلى تعبئة الموارد المالية الضرورية لتنفيذ ما جاء في ميزانية 2023، وما يستدعيه ذلك من ضرائب جديدة وتقشف واسع على مستوى الوزارات والإدارات المركزية والجهوية والمحلية، وهو خيار يقابل برفض واسع من النقابات لكونه سيقطع الطريق أمام تمويلات الاتحاد نفسه من مساهمات أعضائه ومنتسبيه.

 لكن الأهم أن هذا الخيار قد يهز صورة المنظمة لدى جمهورها الكبير، وقد عودته بتحركات استعراضية نجحت في فرض زيادات ومزايا كبيرة على الحكومات المتتالية. وإن فشل هذه المرة في المواجهة، فهذا يعني سقوط تلك الصورة التي تبوئه مرتبة “الاتحاد أقوى قوة في البلاد”.

وفي أول تحرك مضاد لاستعراض القوة من اتحاد الشغل، لجأت حكومة بودن إلى تفعيل التعدد النقابي، وهي ورقة ستزعج النقابة، وتهدد قوتها المالية التي اكتسبتها خلال العقود الماضية من خلال الاعتراف بها كجهة نقابية وحيدة لدى السلطة.

وأصدرت الحكومة التونسية الاثنين منشورا جاء فيه أنها تأذن لوزاراتها بـ”اقتطاع معلوم الانخراط من الأجر لفائدة المنظمات النقابية الأخرى على غرار ما هو معمول به مع الاتحاد العام التونسي للشغل ابتداء من شهر يناير الجاري بناء على مطلب كتابي من المنخرط المعني وتحويل مبالغ الانخراطات على الحساب الجاري للمنظمة النقابية المعنية”.

وينتظر أن تبدي الحكومة حزما أكبر في مواجهة موجات الإضرابات التي بدأت تلوح في الأفق (التعليم والصحة، وإضراب النقل المؤجل لمارس)، أولا من خلال تفعيل نظام التسخير الذي يلزم مؤسسة حكومية أو موظفين بعينهم للاستمرار في العمل في حالة الإضراب، ومن لا يلتزم بالتسخير يمكن أن تصدر في حقه أحكام بالسجن. وهذا التسخير سبق أن عملت به تونس لمنع الشلل في القطاعات الحيوية، منها قطاع النقل، وفي عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة تم اللجوء إلى عناصر الجيش لقيادة الحافلات.

وستجد الحكومة نفسها في حرج فيما لو تغاضت عن اللجوء إلى التسخير بالنسبة إلى قطاع النقل، وخاصة النقل الجوي والبحري، الذي هو صورة تونس، ويمكن أن يرسل صورة سلبية إلى الخارج عن الحكومة الحالية والرئيس سعيد، والإيحاء بالعجز عن الإمساك بالأمور، وهي الصورة التي تشتغل المعارضة عليها لإقناع دول مثل الولايات المتحدة بضرورة التغيير في تونس.

أدركت قيادة اتحاد الشغل جيدا أن الإضراب العام في قطاع النقل، هو بمثابة إضراب عام، والإضراب العام لا يتم عادة إلا في سياق التحرك السياسي لإسقاط الحكومة أو دفعها إلى المواجهة الأمنية

سيعني السكوت عن الإضرابات وترك الأمور بيد اتحاد الشغل يفعل ما يريد التشكيك في قدرة الحكومة على تنفيذ ما تعهدت به بودن في دافوس خلال لقائها مديرة صندوق النقد كريستالينا جورجيفا، فالصندوق لا يمكن أن يغامر بدفع أموال لحكومة لا تقدر على حماية اقتصادها ولا تتحكم فيه، وهو ما يفسر سعيه السابق لتوسيع دائرة الالتزام بالإصلاحات لتشمل قيادة الاتحاد ومختلف الفاعلين الاقتصاديين، لكن يبدو أن الصندوق غير رأيه بعد أن سمع مواقف الاتحاد ومعارضته كليا للإصلاحات.

وتبقى لدى الحكومة ورقة أخرى لمواجهة الإضراب، وهي المرور إلى اقتطاع يوم عمل من رواتب الموظفين والعمال المشاركين في الإضراب، في رسالة جدية على رفضها لعبة التوظيف السياسي في أنشطة الاتحاد، ويتسع مدى الرسالة ليطال مختلف القطاعات التي تفكر مستقبلا في الإضراب من دون المرور بمراحل التفاوض مع الحكومة، والقطع مع سياسة فرض الأمر الواقع التي تقوم على معادلة إما أن تستجيب لشروطي أو أخرب الدنيا.

وفي كل الحالات، فإن الهدف من أي إجراءات حكومية ليس الصدام مع اتحاد الشغل ولكن إرسال رسالة قوية لقيادته بأن الحكومة قادرة على التحرك ولو بالحد الأدنى للدفاع عن دورتها وصورتها داخليا وخارجيا، وأن أسلوب التخويف والضغط لا يربكها أيا من كان صاحبه.

ومن المهم الإشارة إلى أن استمرار الرئيس سعيد وحكومته في تجنب فتح ملفات اتحاد الشغل، كما فعل مع القضاة، رهان خاطئ خاصة بعد أن فشل سعيه لتحييد المنظمة النقابية ومنعها من التحالف مع المعارضة، ليصبح الاتحاد الآن على رأس المعارضة.

وإذا كانت النهضة وحلفاؤها يكتفون بتظاهرات محدودة وشعارات وتصريحات تعبر عن العجز أكثر منها إقلاقا للسلطة، فإن اتحاد الشغل هو الطرف الذي يؤذي السلطة وهي التي تستمر في تحمل شطحاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى