أقلام وأراء

مختار الدبابي: انتخابات تونس: محدودية المشاركة تؤسس لبرلمان الأمر الواقع

مختار الدبابي 31-1-2023: انتخابات تونس: محدودية المشاركة تؤسس لبرلمان الأمر الواقع

الانتخابات التشريعية في دورها الثاني كشفت أن التونسيين قد عزفوا فعلا عن السياسة والسياسيين، وهي رسالة مهمة تدعو الرئيس قيس سعيد إلى فهمها والتعامل معها. رسالة تقول إن ما يهم الناس هو وضعهم الاقتصادي وظروف عيشهم، ليس أكثر.

كشفت الانتخابات التونسية في دورتها الثانية عدة حقائق من المهم اعتمادها في تقييم المشهد السياسي التونسي، الذي في السلطة أو الذي في المعارضة. ولا يمكن لأي جهة أن تقفز عليها في المستقبل في الحديث عن شعبيتها، أو في الدعوة إلى الاحتكام إلى الناس سواء في استفتاء أو في انتخابات مبكرة كما تسعى لذلك المعارضة.

لم تكن نسبة 11.2 في المئة التي تم إقرارها في الدور الأول من الانتخابات التشريعية التي جرت في 17 ديسمبر الماضي أمرا مفاجئا ولا مستغربا، ولا يمكن التلبيس عليه بالقول إن سبب تدني النسبة كان تزامنها مع بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر التي شهدت متابعة قياسية في تونس.

ونُظّمت الدورة الأولى من الانتخابات النيابية في 17 ديسمبر الماضي، وسجلت نسبة مشاركة في حدود 11.22 في المئة، وهي أضعف نسبة مشاركة منذ 2011.

وجاءت نسبة 11.3 في المئة التي تم الإعلان عنها الأحد في الدور الثاني من الانتخابات لتؤكد أن محدودية المشاركة في الانتخابات وقبلها في الاستفتاء هي خيار شعبي لا يمكن التلبيس عليه. فليس هو ناجم عن دعوات المعارضة إلى المقاطعة، ولا هو ناجم عن مؤامرة وضغوط على الناخبين كما تقول السلطة السياسية.

على كل جهة سياسية في السلطة أو المعارضة أن تفهم الرسالة الشعبية جيدا، خاصة أن البلاد قد أغرقت حتى الملل في انتخابات لا تتوقف من 2011 إلى 2023 (واحدة للمؤتمر التأسيسي، وثلاث تشريعيات، واثنتين للرئاسية، واحدة للاستفتاء، بالإضافة إلى الاستشارة الإلكترونية)، وهو ما يعني أن الانتخابات تحولت إلى ما يشبه اللعبة يقدم عليها السياسيون لإضفاء شرعية على وضع خادم لهم بقطع النظر عن الناخب وتقييمه لما يجري.

تآكل الشرعيات

الرسالة الأولى التي وصلت إلى آذان مختلف السياسيين مفادها أن الشارع التونسي لم يعد يعطي صكا على بياض لأي مؤسسة دستورية لاستثمار صوته في صراع الشرعيات على ملفات سياسية. وأظهرت نتيجة الدورين الأول والثاني أن البرلمان الجديد يمتلك شرعية في الحد الأدنى، ويمكن وصفه ببرلمان الأمر الواقع لأن نسبة كبيرة من التونسيين قد عزفت عن المشاركة عدا جمهور صغير بعضه موال لمجموعات حزبية مثل حركة الشعب القومية، أو يسراوية صغيرة تتخفى وراء الرئيس قيس سعيد، والبعض الآخر يمثل عناصر عملت في السابق داخل الأحزاب التي تفرعت كالفقاقيع عن حزب نداء تونس الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

مع ملاحظة أن أسماء بارزة من المحسوبين على صف الرئيس ومن يصفون أنفسهم بـ”المفسرين” لنظرية البناء القاعدي التي يعتمدها سعيد قد فشلوا في دخول البرلمان، وعلى رأس هؤلاء أحمد شفتر الذي خسر دورة الإعادة أمام مرشح حركة الشعب في مدينة جرجيس (جنوب شرق).

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هنا، أين الجماهير التي انتخبت سعيد في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية عام 2019، لماذا لم تشارك وتعلن دعمها لبرلمان الرئيس سعيد وإكسائه شرعية في وجه المزايدين من خصومه؟

تشكيل برلمان جديد سيغلق الباب أمام المزايدات بشأن شرعية المؤسسات، لكنه سيلقي بأعباء كثيرة على النواب الجدد في ظل حملة تشكّك في إمكانيات من تم انتخابهم

الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تحل الأزمة، وتفسر لنا حجم الهوة بين نتائج 2019 والنتائج الحالية، وهي فرصة ليخفف بعض المحيطين بالرئيس من الخطاب المغالي الذي ساهم إلى حد واضح في دفع الناس إلى العزوف، خطاب يقوم على النفخ في شعبية الرئيس وتحويلها إلى مقدس لا يمكن التشكيك فيه، من دون فهم أن تلك الشعبية خلقتها ظروف كان يفترض أن يستثمرها سعيد لصالحه ويحافظ على الحزام الشعبي الذي أحاط به.

لكن تراجع شعبية سعيد بسبب تعقيدات الوضع الداخلي سياسيا واقتصاديا وماليا لا يعني بالمرة أن الناس انتقلوا إلى الصف المقابل، صف المعارضة، أو اتحاد الشغل الذي يسعى لأن يبدو في موقع الذي يجني ثمار تراجع شعبية السياسيين.

وهناك مؤشرات عديدة على أن الناس لا يقفون في أي صف، وخاصة صف المعارضة، وأساسا حركة النهضة التي يحملها الشارع مسؤولية الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها البلاد. فخلال 25 يوليو 2021 أغلق البرلمان ثم حل لاحقا وجرد النواب من صفاتهم ولم يترك الشارع لإنقاذ الديمقراطية التي تقول النهضة إنها تواجه صعوبات بسبب وضع سعيد مختلف السلطات بيده.

التحركات التي تخوضها المعارضة، متفرقة أو متجمعة، خلال الأسابيع الماضية كانت محدودة في العدد، بمعنى أن الرقم هو نفسه بما في ذلك أولئك الذين نزلوا إلى وسط العاصمة تونس يوم 14 يناير ذكرى ثورة 2011. ويمكن الاستنتاج بأن “الثورة” التي تخوض المعارض لاستعادة ثورة 2011 من يدي سعيد هي “ثورة” على مواقع التواصل، لكن الناس محايدون في الصراع، وهم ينظرون فقط إلى ما يعنيهم، على عكس ما ذهب إليه رئيس جبهة الخلاص أحمد نجيب الشابي.

وقال الشابي في مؤتمر صحافي ليل الأحد “إن حوالي 90 في المئة من الشعب التونسي أداروا ظهورهم لهذه المسرحية (…) وهو ما يعبر عن خيبة أمل وسحب ثقة من المسار الذي انطلق في 25 يوليو 2021”.

إن انسحاب التونسيين من الانتخابات ليس موقفا سياسيا من هذا أو ذاك، ولكنه عزوف عن سماع السياسيين أو الالتفات إليهم، أو اختيارهم، لسبب واضح وهو تحميلهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها البلاد.

البوصلة باتجاه الاقتصاد

صار لدينا برلمان الأمر الواقع الذي لا تعكس نسبة انتخابه أي وزن شعبي له، فضلا عن أن صلاحياته محدودة، والنواب تم انتخابهم على أساس جهوي، وهو ما يجعل هذا البرلمان بوابة لمطالب المناطق وهمومها أكثر منه برلمانا للتشريع أو مراقبة الحكومة.

وهذا لا يعني أن شيئا ما سيتغير، فالرئيس سعيد سيستمر كما الآن في إدارة البلاد بذات الصلاحيات المطلقة، وهي فرصة لاستخلاص أهم الرسائل التي حملتها الانتخابات وقام الذين عزفوا عن المشاركة بإيصالها له، وهي أن السياسة وبرامجها وسياساتها والحلفاء فيها والخصوم، بمن في ذلك الخصوم الذين يهاجمهم سعيد صباح مساء، أمر هامشي، وأن ما يهم الناس هو تحسين وضعهم عاجلا.

والفرصة مواتية أمامه، وأمام حكومته، للبدء بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تفيد الناس بشكل عملي بعيدا عن توصيفاتها السياسية، وخاصة بعيدا عن التردد في التنفيذ تجنبا للمزايدات.

وبانتخاب المؤسسة التشريعية تبدأ تونس مرحلة جديدة من أجل المصادقة على مشاريع القوانين الحكومية التي تستجيب لانتظارات الناس خاصة في الملفات الاقتصادية والاجتماعية.

وفي الوقت الذي يستعد فيه التونسيون للانتخابات، قامت وكالة موديز للتصنيف الائتماني بالحط من الترقيم السيادي لتونس، ما يؤكد الحاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذ الاقتصاد، وعلى رأسها توقيع البرلمان الجديد على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

وما دامت حكومة نجلاء بودن لم تمسك جيدا بالملف الاقتصادي، ولم تنجح في جلب الاستثمارات وتحريك الدواليب وتوفير مواطن عمل جديدة لآلاف من الشباب المنتظرين منذ 2011، فإن دائرة العزوف عن الشأن السياسي ستزيد بالاتساع، وستحصل قطيعة مع السياسيين أيا كان خطابهم وتاريخهم.

صحيح أن تشكيل برلمان جديد سيغلق الباب أمام المزايدات بشأن شرعية المؤسسات، لكنه سيلقي بأعباء كثيرة على النواب الجدد في ظل حملة تشكك في إمكانيات من تم انتخابهم تقول إن البرلمان لا يضم كفاءات متنوعة، وإن النواب الجدد في أغلبهم بمستوى تعليمي محدود، ولا يمكن أن يصادقوا على مشاريع قوانين في ملفات حساسة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى