أقلام وأراء

مختار الدبابي: المظاهرات والشعارات آخر ما يعني التونسيين

مختار الدبابي 21-3-2023: المظاهرات والشعارات آخر ما يعني التونسيين

باتت التظاهرات المعارضة أو المؤيدة للرئيس التونسي موضة قديمة، لا أحد يهتم لها، أو يشارك فيها سوى المعنيين بها من حزبيين ومنتمين وداعمين. مرت اثنتا عشرة سنة، والشعارات هي نفسها، والاستعراضات بنفس الأسلوب ولا شيء تحقق للناس، وعلى العكس من ذلك، فإن الوضع ساء بشكل كبير عما كان عليه قبل ثورة 2011.

ربما خطفت تلك المظاهرات الأنظار في بداية الثورة خاصة وأنها كانت تتم دون حسيب، ولم تكن هناك سلطة لتحذّر منها أو تعرقل انعقادها. كان الناس يريدون أن يسمعوا الشعارات ومحتواها، واستمعوا وشبعوا وعودا وخطابات ثورية تريد أن تغير العالم، لكن مع الوقت ظلت تلك الشعارات في واد وواقع الناس في واد آخر.

ليست المظاهرات وحدها ما لفظه الناس، فكل ما تعلق بالسياسة تراجع الحماس له، وكانت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة خير شاهد على أن السياسة والسياسيين وأشكالهم الاحتجاجية باتت هامشا محدودا حتى داخل الأحزاب وفي محيط التحالفات السياسية مثلما هو الحال مع جبهة الخلاص الوطني المعارضة التي انطلقت في احتجاجاتها بأعداد كبيرة لتنتهي بمظاهرات محدودة تضم العشرات بدل الآلاف.

ولا يقف الأمر عند اتجاه واحد من المعارضة، فمثلما فقدت المظاهرات التي تقودها حركة النهضة الإسلامية بريقها وتراجع عدد أنصارها، فإن تجمعات اليسار زادت ضآلة، وانكفأت مظاهرات عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري الحر إلى العشرات.

والأمر نفسه للدعوات الاستعراضية التي تدعو لها مجموعات تضع نفسها ضمن مسار الرئيس قيس سعيد وتقول إنها تعبر عنه مثل “حراك 25 يوليو”. في ذكرى الاستقلال، حشدت تلك المجموعات أنصارها من أجل الاحتفال واستعراض القوة وإظهار أن الرئيس سعيد مسنود شعبيا، لكن الحضور لم يتجاوز المئات.

ليس مهما أن يكون هؤلاء المحتشدون معبّرين عن خيار “المحاسبة” الذي يرفع قيس سعيد لواءه، وهل هم فعلا كيان مؤثر في محيط رئيس الجمهورية، أم أن هذه الكيانات تركب موجة 25 يوليو، ما يهم أن الناس لم يشاركوا ولم يحضروا بالرغم من أن احتفالية 20 مارس “رسمية” وسيكونون محميين من الشرطة ولا يخاف أحدهم الاعتقال أو المساءلة عن تظاهرة غير قانونية.

وبشكل واضح، فإن التونسيين حسموا أمرهم مع استعراض القوة في الشارع، فهم غير معنيين به، سواء أكان من المعارضة أو الموالاة، والسبب هو خيبة الأمل في السياسيين الذين قادوا البلاد إلى الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها البلاد وجعلت الناس لا يفكرون سوى في تدبير أمر معيشتهم في ظل الأسعار المرتفعة وندرة بعض المواد، وغياب الحلول على المدى القريب.

ويمكن كذلك المرور على صفحات السياسيين (موالاة ومعارضة) وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي لنرى كيف هدأت موجة الشعارات، وأن تلك الصفحات باتت متروكة إلا من أعداد محدودة تكتفي بتسجيل إعجابها كواجب حزبي ليس أكثر.

تراجع تأثير الثوريين في مملكتهم المفضلة فيسبوك وغاب الجمهور المتحمس لهم بسبب اكتشاف أن الشعارات شيء والواقع شيء آخر، وأن تلك الشعارات لا تجلب للناس خبزا.

لا شك أن الشارع التونسي أكثر وعيا واستشرافا من سياسييه ونخبه، فقد ظهرت انتقادات من البداية لظاهرة إغراق مؤسسات الدولية في الصراعات السياسية، وخاصة في البرلمان، وطريقة إدارة الحكومة من خلال المحاصصة الحزبية، واستبدال الكفاءات في المؤسسات ووضع أنصار للحزب الحاكم أو لحلفائه أو لرئيس الجمهورية مكانها بالرغم من غياب الكفاءة والخبرة وعدم المعرفة بطرق إدارة الدولة، وهذا أحد أهم أسباب الفشل الذي رافق المؤسسات الحكومية إلى حد الآن.

ومن المهم بالنسبة إلى السلطة، والرئيس قيس سعيد على وجه الخصوص، أن يذهب في الاتجاه المعاكس للأسلوب الاستعراضي الذي يهدف فقط لإيهام الناس بأن الحلول موجودة والبدائل جاهزة وأن البناء القاعدي يحل الأزمات، أو أن “السيادة الوطنية” مفتاح سحري لمواجهة الوضع الصعب الذي تعيشه البلاد.

أيّ رئيس دولة حين يستلم السلطة عليه أن يتخلى عن شعاراته القديمة ويذهب مباشرة إلى البراغماتية التي تمكّنه من معالجة الأوضاع دون تعقيدات ولا محاذير. وضع تونس الآن يحتاج إلى خطاب هادئ وعقلاني يصارح الناس بحقيقة أوضاعهم.

ليس هناك شعب لا يدافع عن السيادة ولا يرفض الوصاية الخارجية، لكن الوضع هنا معقد جدا، ذلك أن النظام العالمي محا إلى حد كبير مفاهيم السيادة، وربطها بالعولمة، فأنت تحتاج إلى أن تكون تابعا ومرتهنا لطاحونة العولمة بأيّ وجه من الوجوه حتى تقدر على تحقيق مصالح شعبك، خاصة بالنسبة إلى دولة محدودة الإمكانيات مثل تونس، فهي تحتاج إلى صندوق النقد والبنك الدولي وكبار المانحين كي تعيش، وهؤلاء جميعا لا يمنحون ولا يقدمون القروض من دون الاستجابة لنصائحهم وشروطهم وتعليماتهم.

حين تكون سياسيا معارضا أو مفكرا أو كاتب رأي يمكنك أن تشرّح العولمة وأن تنتقد هيمنتها على السيادة الوطنية وأن تضع رؤية للتحرر من سطوة هذه العولمة كخيار إستراتيجي يمكن أن يتحقق بعد عقود. لكن حين تكون مسؤولا بدولة في وضع تونس لا تستطيع سوى أن تتعامل مع الأمر الواقع حتى لو كان ضد قناعاتك الشخصية.

ويمكن فهم هذه الحقيقة المرة من خلال النظر إلى تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي قال الاثنين إن “الاتحاد الأوروبي لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي”.

وحث بوريل الرئيس التونسي على أن “يوقّع اتفاقا مع صندوق النقد الدولي وينفّذه، وإلا فإن الوضع سيكون خطيرا للغاية بالنسبة إلى تونس”.

يمكننا أن ننتقد تصريحات بوريل ونعتبرها تدخلا في شؤون تونس، ونحمل عليه، وندعوه إلى الكف عن هذا الأسلوب “الاستعماري”، لكن بالنتيجة فإن ما قاله بوريل هو صوت العقل الذي على تونس أن تستمع إليه، وهو أنّ لا طريق أمامها سوى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الموجعة والتقشف القاسي لوقف النزيف، وأنه كلما تقدم الوقت خسرت تونس فرصتها في الحد من المخاطر.

صحيح أن ثمة شارعا ثوريا يطرب لشعارات السيادة، لكن مصلحة تونس والبدائل التي تمتلكها وفرص النجاة من خارج تمويل صندوق النقد كلها عناصر تجعل الخطاب الرسمي يضع قدميه على الأرض، وتجربة ما بعد الثورة أثبتت أن الشعارات لا تقدر أن تحقق شيئا سواء الشعارات الإسلامية أو التأسيسية أو تلك التي تريد أن تعود بناء إلى بداية انطلاق الدولة الوطنية، واستعادة تجربة الزعيم الحبيب بورقيبة.

لكل زمن مقاربته وحلوله ورجاله والتاريخ لا يعود إلى الوراء بأيّ شكل، والأفكار الاشتراكية التي كانت تفيد في خمسينات القرن الماضي أو ستيناته لا يمكنها أن تكون حلا لتعقيدات 2023 وما بعدها.

سيمر وقت طويل قبل أن يجد الخطاب السياسي، الملتحف بأيديولوجيات القرن الماضي، أن الأفكار الكبرى لا تلائم الواقع ولا تحل أزماته ولا تحقق السيادة ما لم تأخذ بالشروط الموضوعية التي توفر البدائل الاقتصادية للناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى