أقلام وأراء

مختار الدبابي: اختراق الإدارة في تونس: تمكين وتعقيدات اجتماعية

مختار الدبابي 24-8-2023: اختراق الإدارة في تونس: تمكين وتعقيدات اجتماعية

يطالب الرئيس التونسي قيس سعيد بضرورة “الإسراع في عملية مراجعة دقيقة لكل الانتدابات التي تمت منذ سنة 2011”، لكن لا يعرف المطلوب من هذه المراجعة، هل هو معرفة الموظفين المنخرطين في عرقلة خطط الدولة والذين يحرّضون ضدها أم أن الأمر يهدف إلى التخلص ممن دخلوا إلى القطاع العام عن طريق التوظيف الحزبي أو ضمن مقاربة أشمل لجأت إليها حكومات ما قبل 2021 من خلال تعيينات كبرى لشراء السلم الاجتماعي.

لو كان الهدف من المراجعة هو الوصول إلى المحرضين والمعرقلين سيكون الأمر أقل صعوبة لأن العدد المستهدف سيكون أقل، ويمكن أن تتعاطى معه الدولة بأشكال مختلفة بينها ما هو إداري أو قانوني أو قضائي، لكن لو كان الهدف “تقليع” كل من تم توظيفهم بعد 2011 ستكون للأمر تداعيات معقدة، خاصة أن العدد كبير، والمتدخلون في عملية التوظيف كثيرون، وبخلفيات متناقضة أحيانا.

يرسل قيس سعيد إشارات مختلفة بشأن الموضوع، لكنها تبدو اقرب إلى التأويل الأول الذي يقوم على استهداف المحرضين والمعرقلين، ولكن إذا كان الأمر مرتبطا بالمعرقلين، فلماذا الاقتصار على من تم توظيفهم بعد 2011، هل يعني هذا أن لدى السلطة تقارير ميدانية تربط بين هذه الفئة وبين التحريض، أم أن هناك جهة بعينها هي من يتولى موظفوها إثارة الأزمات ويسعون لخلق حالة من الفوضى في الإدارة.

تبدو الأمور غامضة إلى حد الآن، لكن آخر حديث للرئيس قيس سعيد الاثنين مع رئيس الحكومة أحمد الحشاني يؤكد أن الأمر مرتبط بالتأويل المحدود، أي مواجهة المحرضين وليس استهدافا كلّيا لمن تم توظيفهم بعد ثورة 2011.

وأكد رئيس الجمهورية، بصفة خاصة، على “دور الإدارة في تنفيذ سياسة الدولة وعلى ضرورة الإسراع بتطهيرها من كل من يعمل على تعطيل أيّ مرفق عمومي، وهي ظاهرة تفاقمت خلال الأسابيع الأخيرة سواء في المستوى المركزي أو في المستويين الجهوي والمحلي”.

وأضاف أن “الإدارة بوجه عام هي لخدمة المواطنين وليست حلبة صراع بين أحزاب أو قوى ضغط تتخفى وراءها”.

ظاهر القول هنا أن جهات سياسية تقف وراء ما يجري، وأنها تمثل واجهة لقوى ضغط، وهو ما قد يجعل “التدقيق” مقتصرا على إزالة التمكين الذي لجأت إليه حركة النهضة مباشرة بعد استلامها السلطة من خلال توظيف ما يصطلح التونسيون على تسميتهم بجماعة العفو التشريعي العام، وهو رقم لا يتجاوز بضعة آلاف موظف حسب تصريحات وزيرين سابقين للوظيفة العمومية سبق أن اشتغلا مع حكومات النهضة، محمد عبو (وسط يسار) وعبيد البريكي (أقصى اليسار).

عبو يقول في تصريح له (الاثنين) إن الذين تم توظيفهم ضمن مسار العفو التشريعي (ممن حوكموا في عهد بن علي وفقدوا وظائفهم) لا يتجاوز 6 آلاف عنصر. البريكي في تصريحات سابقة يقول إن “عدد المُنتدبين من العفو التشريعي العام بمن فيهم جرحى الثورة وأبناء الشهداء هم في حدود التسعة آلاف فقط”.

وإذا كان المعلوم من التمكين لا يتجاوز 10 آلاف موظف، فمن أين تأتي الأرقام الكبرى التي تتحدث عن مئات الآلاف من الموظفين، وبتصريحات من وزراء سابقين؟

لا يقف الموضوع عند إزالة معالم التمكين لحركة النهضة كما ينظر إليه خصومها السياسيون. فالنهضة عينت أعدادا من أنصارها، لكنها أيضا عمدت إلى توظيف أعداد أخرى ممّن تقربوا منها بصفتها الحزب الحاكم (2012 – 2013) ثم بصفتها شريكا في الحكم (2014 – 2021).

كما سعت النهضة ضمن ما يمكن وصفه بالتمكين البراغماتي إلى توظيف الكادر الإداري “المحايد” بفكرة استقطابه وتوظيفه لخدمة أجندتها على أن تبدو في الصورة وكأنها تترك الإدارة في المؤسسات العمومية لأبناء الإدارة، وأنها لا تفرض عليهم غرباء من وزارات أخرى أو من خارج قطاع الإدارة.

لكن ليست النهضة لوحدها من أغرق القطاع الحكومي بالموظفين، هناك المئات دخلوا للقطاع الحكومي من جرحى الثورة ومن عائلات الشهداء. وهذا ملف ثارت حوله الكثير من الشكوك والنقاشات لأن عدد الجرحى والشهداء كان محدودا وبقدرة قادر تضاعف عشرات المرات خلال إعداد الملفات للتوظيف.

كما دخل إلى الوظيفة العمومية المئات ممن يسمون بالمفروزين أمنيا وهم من طلبة اليسار والقوميين الذين يقولون إن نشاطهم في اتحاد الطلبة دفع نظام بن علي إلى منعهم من العمل في القطاع العام.

النهضة تقوم على معادلة “نقبل بتوظيف جماعة العفو التشريعي التابعين لك مقابل أن تقبلي بانتداباتنا”، أي القبول باختراق متبادل للإدارة دون ضجيج خاصة أن المفروزين أمنيا كانوا مدعومين من اتحاد الشغل.

ولاتحاد الشغل أيضا نصيب في أزمة إغراق القطاع العام بالآلاف من الموظفين، ويبرز الأمر بصفة خاصة في موضوع انتداب النواب في التعليم الأساسي والثانوي.

وبعد ثورة 2011 التحق المئات من أصحاب الشهادات الجامعية بالتعليم العمومي في صيغة نيابة، أي بشكل مؤقت، إلى حين انتداب موظفين رسميين، وانتهى الأمر إلى انتداب النواب وتمت العملية برعاية مباشرة من نقابات التعليم، وما يزال الملف نقطة خلافية مع الوزير الحالي  محمد علي البوغديري.

لكن أبرز ملف مثير للجدل في انتدابات ما بعد 2011 هو موضوع الحظائر، ويقوم على عملية تشغيل وهمية للآلاف من الموظفين في القطاع العام من خلال توظيفهم في أعمال هامشية لبعض الوزارات ضمن سياق تأمين السلم الاجتماعي لتتحول لاحقا إلى أزمة كبير من خلال مطالبة الآلاف بانتدابهم رسميا بدعم من اتحاد الشغل، وتسوية ملفات تقاعدهم خاصة أن الكثير منهم كانوا متقدمين في السن ولم يشتغلوا سوى سنوات قليلة.

من الصعب على الرئيس سعيد أن يخوض مواجهات حادة وشاملة في كل اتجاه، فذلك يعطي ورقة لخصومه للاتحاد والتحرك من باب “الخطر الداهم”

هذا ما هو معلوم من سياسة إغراق الدولة بانتدابات موجهة خدمة لأجندات سياسية حزبية أو نقابية أو حكومية. لكن هناك مشكلة أخرى تتعلق بالانتدابات العشوائية التي ملأت الإدارات استجابة لضغوط الشارع بعد فوضى الاعتصامات وإغلاق الطرق والإضرابات المحلية والجهوية والمركزية.

يقول البريكي إن “الانتدابات العشوائية شجعت على تزوير الشهادات العلمية من أجل التموقع في الوظيفة العمومية”، وإن “عدد المنتدبين في الوظيفة العمومية تضاعف في تلك الفترة من 330 ألف موظف عام 2010 ليصبح أكثر من 630 ألف موظف، أي ما يعادل ما تم انتدابه في تونس من عام 1956”.

والسؤال الآن: كيف يمكن لوزراء حكومة الحشاني، أو للرئيس قيس سعيد، أن يدخلوا عش الدبابير هذا، هل سيكتفون بموضوع التمكين في صورته السياسية، أي ما يخص موظفي النهضة وبعض المجموعات اليسارية المتمركزة في المعارضة، أم سيوسعون الدائرة إلى التعيينات النقابية، أم إلى الشهادات المزورة، خاصة أن الانتدابات تركزت في قطاعات حساسة مثل الجيش ووزارة الداخلية.

ستكون مقامرة في الحالتين، فلو وقفت الجهود عند موظفي التمكين سيبدو الأمر وكأنه تصفية حساب سياسي مع الخصوم، وإذا اتسعت ستبدو عملية معقدة خاصة أن “تقليع” موظفين عملوا لسنوات في وظائف حكومية ستثير أزمة اجتماعية وربما توسع دائرة الاحتقان في ظل الظروف الحالية التي تتماس مع أزمة في المواد الحساسة، وفي ظل الصراع مع الكارتلات في موضوع الحبوب واختراق الإدارة.

من الصعب على الرئيس سعيد أن يخوض مواجهات حادة وشاملة في كل اتجاه، فذلك يعطي ورقة لخصومه للاتحاد والتحرك من باب “الخطر الداهم”.

المقاربة الهادئة تدفع إلى التقصي الإداري والأمني والقضائي لتحميل المعرقلين والمحرضين مسؤوليتهم بعيدا عن التحشيد الإعلامي والسياسي خاصة من بعض أنصار الرئيس الذين يقاربون إدارة الدولة بمنظور أنا ومن بعدي الطوفان، فللدولة نواميس في الإدارة وحل الأزمات بهدوء ووفق القوانين حتى لا ترتد الأمور ضدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى