أقلام وأراء

مختار الدبابي: اتحاد الشغل يختار المربع السياسي في مواجهة قيس سعيد

مختار الدبابي 19-2-2023: اتحاد الشغل يختار المربع السياسي في مواجهة قيس سعيد

أظهر بيان اتحاد الشغل، الأربعاء، أن المنظمة النقابية تتصرف بشكل أقرب إلى الحزب السياسي منه إلى نقابة. وهذا ما قد يقود إلى تصعيد مع سلطة سياسية لا تريد أن ترضخ لأي جهة سياسية أو نقابية في مرحلة تسودها حالة توتر قصوى.

منذ 25 يوليو 2021 اعتمد الاتحاد العام التونسي للشغل إستراتيجية مزدوجة في علاقته بالتغيير الذي قاده الرئيس قيس سعيد بإنهاء عمل البرلمان ولاحقا من خلال اتخاذ إجراءات تضع سلطة القرار بيده. الاتحاد دعم ما قام به قيس سعيد من إنهاء لعمل البرلمان ووصف تلك الخطوة بأنها ضرورية وأنها مطلب شعبي، غير أنه ظل يناكف هذا التغيير من أجل البحث عن دور سياسي في المرحلة الجديدة، وكان يقيس مواقفه بمدى اقترابه وابتعاده عن السلطة الجديدة.

لكنه الآن يقفز على إستراتيجيته ليعود حليفا لمن كان يهاجمهم ويهاجمونه ممن حكموا في المرحلة الماضية. ليس انحيازا لهم، ولكن ردة فعل على سلطة قيس سعيد التي رفضت منحه الدور السياسي الذي كان يحظى به، والذي جعله يستشار في الكبيرة والصغيرة في سياسات وتعيينات المرحلة الماضية، فضلا عن حصوله على “كوتا” في التعيينات الإدارية، خاصة المؤسسات الحكومية الكبرى، والتي هي الآن نقطة خلافه الرئيسية مع الحكومة.

ويبدو أن نجلاء بودن رئيسة الحكومة التونسية، التي لا تتكلم إلا قليلا، تنفذ إصلاحاتها في صمت، وخاصة ما تعلق منها بالمؤسسات الكبرى باتفاق مع صندوق النقد ومع البنك الدولي، حيث تم “تنقيح أحادي للقانون عدد 9 لسنة 1989 المتعلّق بالمساهمات والمؤسّسات والمنشآت العمومية”، كما جاء في بيان الاتحاد الأخير، وهو تنقيح يسمح بدخول مساهمين في رأس مال هذه الشركات، ولن تعود ملكيتها للدولة بنسبة مئة في المئة كما تريد النقابة.

وسعى الاتحاد لامتصاص صدمة إحالة بعض منتسبيه إلى القضاء على خلفية الإضرابات التي يقول إنها دفاع مشروع عن حقوق العمال فيما تقول الحكومة إنها تضر بمصالح البلاد والعباد مثلما حصل مع إضراب شركة تونس للطرقات السيارة، التي تم اعتقال كاتبها العام.

وإذا كان الاتحاد سيسير في مساره السياسي التصعيدي، فإن ذلك يعني أن علاقته بسلطة قيس سعيد قد تتخذ منحى تصعيديا شبيها بما يجري مع مجموعة من السياسيين البارزين.

وتقول الإشارات التي تصدر عن رئاسة الجمهورية إن قيس سعيد قد قرر أن يواجه أي مسعى لاستضعاف سلطته، أو الاستقواء عليها بأي جهة كانت، سواء بالرهان على الخارج أو التلويح بتحريك الشارع، وكذلك لعبة الاعتصامات والإضرابات التي يتقنها الاتحاد، ووظفها في السابق لتحصيل مكاسب سياسية بالرغم من أنها في الظاهر تعبر عن مطالب نقابية وتحوز على دعم واسع بين الموظفين الذين استمرأوا تحصيل مكاسبهم عن طريق استعراض القوة التي يقوم بها الاتحاد لتخويف الحكومات.

المعركة آخذة في التوسع بين الاتحاد والسلطة السياسية، صحيح أنها لم تصل إلى اعتقالات وازنة، لكن الحكومة تتحرك دون ضجيج لإضعاف النقابة الأكبر في البلاد، من خلال نقل نقابيين من أماكن عملهم (بيان شركة تونس للطرقات السيارة التي اعتقل كاتبها العام تتحدث عن “نقلة عقابية” ضد موظفة).

ومنذ أيام قليلة صدر بالجريدة الرسمية اعتراف قانوني بنقابة جديدة للتعليم الثانوي والابتدائي تحت مسمى “النقابة الوطنية للتعليم بتونس”، وهو ما يعني أن التعدد النقابي الذي ستعترف به السلطة لن يقف عند حدود ثلاث أو أربع منظمات معروفة، بل سيتوسع ويشمل القطاعات الحيوية مثل قطاع التعليم أو الصحة، وكلاهما لديه مركز ثقل داخل اتحاد الشغل. ولا شك أن سياسة التفتيت والتوسيع ستضر بالاتحاد على المدى البعيد، خاصة في ظل غضب كبير من النقابيين على المستوى المحلي والجهوي من سوء إدارة التفاوض مع السلطة.

ويجري حديث عن وقف الاقتطاع المالي الآلي لفائدة الاتحاد، وأن الموظف سيكون عليه تقديم مطلب إن كان يريد الاستمرار في “تمويل” الاتحاد أو غيره من المنظمات الأخرى. يأتي هذا بعد أسابيع قليلة من إقرار حرية الموظفين في الاقتطاع المالي لأي منظمة يريدون.

وفيما تتحرك الحكومة من وراء الستار لإضعاف الاتحاد بشكل ممنهج وطويل النفس يمكن أن ترى نتائجه على المدى المتوسط، فإن الاتحاد يبدو واقفا في منزلة بين المنزلتين، فهو لا يريد التصعيد الذي يعطي السلطة مبررا لمواجهته، وفي نفس الوقت لا يريد أن يسلم بالأمر الواقع حتى لا يفقد صورته لدى منتسبيه الذين يتغنون إلى حد الآن بشعاره القديم “الاتحاد أقوى قوة في البلاد”.

وضمن مسار التصعيد المحسوب بدقة، أقام الاتحاد السبت لقاءات في مقراته الجهوية شهدت حضورا لافتا لأنصاره خاصة في مراكز الثقل مثل مدينة صفاقس، وتم رفع الشعارات المناهضة لسياسة إدارة الظهر التي تعتمدها الحكومة مع الاتحاد ومطالبه وشروطه واتفاقياته القديمة.

واستدعى الاتحاد أيضا قيادات نقابية دولية، ليس “استقواء بالخارج” كما كان يتهم خصومه من السياسيين، ولكن ليكونوا شهودا على “استهدافه”.

وفي بيانه الصادر الأربعاء، والذي بدا كـ”بيان حرب”، استنكر الاتحاد ما أسماه “حملات الاعتقال العشوائية ومحاصرة الإعلام”، ودعا أعضاءه وهياكله إلى التعبئة للدفاع عن الحريات والحق النقابي.

وقال الاتحاد إنه “يرفض تصفية حسابات سياسية عبر توظيف القضاء والتنكيل بالخصوم والخلط بين المتورّطين الحقيقيين والأبرياء لغاية إلهاء الرأي العام عن مشاكله الحقيقية ومنها مشاكل المعيشة والشغل”.

من الواضح في هذا البيان أن الاتحاد يتحرك بوجه سياسي مكشوف ويضع نفسه في صف من كان يتهمهم باستهدافه في الحكومات السابقة. بالتأكيد ليس انتصارا لهم، ولكن دفاعا عن دوره السياسي الذي وجد حظوة كبيرة معهم تحت الضغط والتخويف بورقة الإضراب.

وحتى لا ينزلق إلى لعب دور الحزب السياسي سيحتاج الاتحاد إلى ترك مسافة فاصلة بين مطالبه النقابية ومواقفه السياسية.

اتحاد الشغل مؤسسة مهمة في الحياة النقابية التونسية ولكن لا يمكنه أن يتصرف كحزب سياسي ثم يجر القطاعات وراءه لتتظاهر أو تقوم بالإضراب والاعتصام، حتى لو كانت الشعارات المرفوعة تحوم حول المسائل المتعلقة بالعمال والرواتب والزيادات.

لا يستطيع الاتحاد افتعال عراك سياسي وضجة في كل مرة يريد فيها أن يستبق الجلوس إلى طاولة الحوار مع الحكومة وفرض شروطه.

الحل سهل؛ الأحزاب الصغيرة التي تتخفى وراء جبة الاتحاد وتضغط من خلاله لمواجهة السلطة، يمكن لبعض قادتها الذين هم في نفس الوقت قادة نقابيون أن يقدموا الصفة التي يتحركون تحتها قبل أي تصريح لوسائل الإعلام. فحين يكونون حزبيين فليقولوا ما أرادوا، لكن حين يتصرفون كقادة نقابيين عليهم أن يتحركوا في المربع الذي يفترض أنه مربع النقابة، الذي يقوم على التفاوض مع الحكومة، وليس مواجهتها سياسيا أيا كانت السلطة.

لا شك أن الأمين العام لاتحاد الشغل نورالدين الطبوبي قد بات يفهم شخصية قيس سعيد، ويعرف حدود التحرك ضده، ومدى تأثير ذلك على الأرض.

وكان الرئيس سعيد قد تجاهل مطالب متكررة من الاتحاد بإجراء حوار وطني لحل الخلافات السياسية الداخلية في تونس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى