#شوؤن عربية

محمود قاسم: تعميق الانقسام: هل تؤجج صفقة الغاز بين ميلوني والدبيبة أزمة ليبيا؟

محمود قاسم 7-3-2023: تعميق الانقسام: هل تؤجج صفقة الغاز بين ميلوني والدبيبة أزمة ليبيا؟

محمود قاسم
محمود قاسم

أثارت زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، للعاصمة الليبية طرابلس، في 28 يناير 2023، جدلاً واسعاً في الداخل الليبي، حيث تسببت في انقسام واضح حول نتائجها وما أفرزته من تفاهمات، خاصة فيما يتعلق بالاتفاق الذي يفضي في جوهره إلى ضخ استثمارات كبيرة من قِبل إيطاليا لتطوير حقلين للغاز قبالة السواحل الليبية.

وخلال الزيارة وقّع الرئيس التنفيذي لشركة “إيني” الإيطالية، كلاوديو ديسكالزي، صفقة بقيمة 8 مليارات دولار مع رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة. وهو الاتفاق الذي حضر توقيعه كل من رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، ورئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني؛ التي وصفت الصفقة بأنها “تاريخية”. 

مكاسب مشتركة:

بدا من ردود فعل الأطراف الرئيسية للاتفاق أن هناك قدراً كبيراً من التفاؤل بشأن ما تم التوصل إليه، حيث حققت زيارة ميلوني جملة من المكاسب للجانب الإيطالي ولحكومة الدبيبة، والتي يمكن أن يتم توظيفها من قِبل الطرفين بطرق مختلفة، ويمكن استعراضها على النحو التالي:

 

1- دعم شرعية حكومة الدبيبة: يصب الاتفاق ومخرجاته في صالح حكومة الوحدة الوطنية، حيث يعكس في مضمونه اعترافاً إيطالياً بحكومة الدبيبة، الأمر الذي تسعى هذه الحكومة لتوظيفه في إضفاء مزيد من الشرعية عليها، خاصة أن الاتفاق يأتي في توقيت تتصارع فيه حكومة الدبيبة والحكومة المُكلفة من البرلمان بقيادة فتحي باشاغا على نيل تلك الشرعية. كما أن تلك الزيارة تأتي بعد نحو أسبوع من الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب، الذي عُقد في طرابلس وقاطعته كل من الإمارات والسعودية ومصر، مما يُشير إلى افتقاد حكومة الدبيبة للشرعية أو على الأقل عدم التوافق العربي بشأنها. وعليه سعت حكومة الدبيبة لتطويع زيارة ميلوني لتجاوز مأزق الشرعية الذي تمر به، حيث تعمل على خلق “تراكم الاعترافات الدولية”، خاصة بعد زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، في 12 يناير الماضي، لطرابلس ولقائه أيضاً رئيس حكومة الوحدة الوطنية.

2- زيادة القدرات الإنتاجية من الغاز الليبي: اعتبرت حكومة الدبيبة أن ضخ مزيد من الاستثمارات في التنقيب وتطوير حقول الغاز الطبيعي، من شأنه أن يُعزز حضور ليبيا في معادلة الطاقة عالمياً. إذ سيؤدي الاتفاق المذكور إلى تطوير شركة “إيني” حقلي غاز يحتويان على احتياطات تُقدر بنحو 6 تريليونات قدم مكعب من الغاز، وذلك بهدف رفع معدلات الإنتاج اليومي لما يقرب من 800 مليون قدم مكعب بداية من عام 2026، ما قد ينعكس بالإيجاب على سد احتياجات الداخل وتوفير فائض للتصدير. ووفقاً لتصريحات الدبيبة، فإن التأخير في تنفيذ هذا الاتفاق يعني أن ليبيا ستتحول من دولة مُصدرة للغاز إلى مستوردة له بحلول عام 2027.

من ناحية أخرى، تراهن حكومة الدبيبة على العوائد الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها من الاتفاق مع شركة “إيني”، والتي تُقدر بنحو 13 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، وفقاً لتصريحات المتحدث الرسمي باسم حكومة الدبيبة، محمد حمودة. كما أن الاتفاق، وفقاً لتلك الرؤية، من شأنه أن يفتح المجال أمام مزيد من الشركات الأوروبية العاملة في مجال استكشاف وتطوير حقول الغاز الطبيعي، حيث يُنظر إلى الاتفاق على أنه أكبر استثمار أجنبي في قطاع الطاقة الليبي منذ عقدين، مما قد يحفز شركات مماثلة على ضخ استثماراتها في هذا القطاع.

3- تأمين احتياجات روما من الغاز: تسعى إيطاليا لتطويع الاتفاق مع ليبيا لخدمة استراتيجيتها الرامية للتخلص من اعتمادها على واردات الغاز الروسي بحلول شتاء 2024 – 2025، فقد كانت روسيا المورد الرئيسي للغاز الطبيعي لإيطاليا قبل الحرب الأوكرانية، حيث استوردت إيطاليا منها نحو 29 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في عام 2021.

وبناءً عليه، تعمل شركة “إيني”، عبر تطوير حقلي الغاز في ليبيا، على تعزيز القدرة الإنتاجية، ومن ثم زيادة صادرات الغاز الليبي إلى إيطاليا، وذلك في ظل تراجع صادرات ليبيا من الغاز الطبيعي. فخلال عام 2022، نقلت ليبيا 2.6 مليار متر مكعب من الغاز إلى إيطاليا مقارنة بـ3.2 مليار متر مكعب في عام 2021 عبر خط أنابيب “جرين سترين”. وتظل تلك المعدلات محدودة للغاية، حيث تبلغ الطاقة الاستيعابية للخط 8 مليارات متر مكعب سنوياً، والتي تأثرت بغياب الاستثمار في البنية التحتية والتحولات التي طرأت على ليبيا في أعقاب عام 2011.

4- تعزيز الدور الإيطالي في شمال إفريقيا: توضح الاتفاقية عزم ميلوني الإيفاء بتعهداتها تجاه إفريقيا بشكل عام وشمال القارة بصورة خاصة، حيث أعلنت في أكتوبر 2022 عن خطتها لاستعادة الدور الاستراتيجي لإيطاليا في منطقة البحر المتوسط، واقترحت ما أسمتها بــ”خطة ماتي” لتعزيز ودعم التعاون مع دول شمال إفريقيا، وهو ما ترجمه النشاط الدبلوماسي المكثف لرئيسة وزراء إيطاليا خلال شهر يناير الماضي. فخلال أسبوعين زارت ميلوني كلاً من الجزائر وتونس وليبيا، ما يدل على مساعي إثبات الحضور وتعزيز الدور الإيطالي في شمال إفريقيا بهدف تأمين مصالح روما الحيوية والحد من التهديدات المرتبطة بالهجرة غير الشرعية والإرهاب العابر لحدود. 

تداعيات مُحتملة:

في ظل حالة السيولة وصراع الإرادات وغيات التوافق في المشهد الليبي، فإن مكسب طرف يمكن أن يكون خسارة للآخر. ومن ثم فعلى الرغم من المكاسب سالفة الذكر، ثمة جملة من التداعيات ربما تشهدها الساحة الليبية على خلفية الاتفاق بين شركة “إيني” والمؤسسة الوطنية الليبية للنفط، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:

 

1- زيادة حدة الانقسام الليبي: بدأت تداعيات زيارة ميلوني حتى قبل أن تتم، حيث أعربت الحكومة المُكلفة من البرلمان بقيادة باشاغا عن رفضها لهذه الزيارة ومخرجاتها، وعارضت موقف رئيسة الوزراء الإيطالية واعتبرته منحازاً لطرف فاقد للشرعية، ورأت أن الزيارة تعمل على إحياء “حكومة ميتة”، وفقاً لما جاء في بيان صادر عن حكومة الاستقرار. 

وعلى الرغم من أن الانقسام يسود المشهد الليبي ويسيطر على أغلب تفاعلاته في عديد من القضايا والتحركات، فقد أفرز الاتفاق المشار إليه نمطاً مغايراً للانقسام هذه المرة، حيث بدا الانقسام داخل حكومة الدبيبة أكثر وضوحاً من خلال موقف وزير النفط في الحكومة، محمد عون، المعارض للاتفاق. وقد ارتكز موقفه على عاملين؛ ينطلق الأول من عدم مشروعية الاتفاق، حيث اعتبر أن صلاحيات المؤسسة الوطنية للنفط لا تُخول لها التوقيع على مثل هذه الاتفاقيات، ومن ثم يرى أن ما تم يخرج عن سياقه القانوني ويفتقد للشرعية، حيث تقتضي القوانين المنظمة للعلاقة بين المؤسسة النفطية ووزارة النفط العودة للوزارة قبل زيادة حصة الشريك الأجنبي. في حين تمثل العامل الثاني في فكرة إهدار حق الليبيين في تعزيز الفوائد الاقتصادية من وراء الاتفاق، حيث رأى عون أن زيادة حصة الجانب الإيطالي من 30%، وفقاً لاتفاق عام 2008، إلى 37% في الاتفاق الراهن، يُعد تفريطاً في هذا الحق. 

2- عرقلة اتفاق الغاز وتجميده: وسط الخلافات القانونية المرتبطة باتفاق الغاز ومشروعية الجهات الموقعة عليه، تتجه بعض التقديرات لإمكانية اللجوء إلى القضاء لعرقلة الاتفاق. فعلاوة على انتهاء ولاية حكومة الدبيبة، فإن الاتفاق السياسي في جنيف يحول دون توقيع حكومة الوحدة على أية اتفاقات إلزامية وطويلة الأمد مع دولة أخرى، وعليه يمكن أن يتم الطعن على مشروعية الاتفاق ومن ثم إبطاله، وذلك على غرار حكم صادر عن القضاء الليبي في 10 يناير الماضي بوقف تنفيذ مذكرة تفاهم بين تركيا وحكومة الدبيبة كان قد تم التوقيع عليها في أكتوبر 2022.

وترتيباً على ما سبق، يمكن أن يلقى الاتفاق الإيطالي نفس المصير، بيد أن هناك بعض الاتجاهات التي ترفض المقارنة بين الحالتين، انطلاقاً من فكرة أن الاتفاق الإيطالي تم توقيعه مع المؤسسة الوطنية للنفط، على خلاف مذكرة التفاهم التركية التي وقعتها وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، مع نظيرها التركي، مولود جاويش أوغلو. وعليه يتمتع الأول بقوة لم تكن متوافرة في حالة مذكرة التفاهم التركية. من ناحية أخرى، يرى أصحاب تلك الرؤية أن ما حدث في الحالة الإيطالية لم يكن توقيعاً لاتفاق جديد، بل كان تعديلاً لاتفاق قائم بالفعل منذ عام 2008.

3- العودة إلى مسار الإغلاق النفطي: في ظل التوظيف المتكرر لورقة النفط في الصراع بين الأطراف الليبية المتناحرة، يمكن أن تشهد الساحة الليبية عودة جديدة إلى مسار إغلاق حقول النفط. فبعد ساعات من توقيع اتفاق الغاز بين ميلوني والدبيبة، أغلق محتجون مجمع “مليتة” للنفط والغاز، النقطة الرئيسية لخط الغاز الرابط بين ليبيا وإيطاليا، مطالبين بوقف هذا الاتفاق، واعتبره بعض المحتجين تنازلاً عن جزء كبير من حق الدولة في حقول الغاز التي يرتقب العمل بها من جانب شركة “إيني”، كما اتهموا المؤسسة الوطنية للنفط بإخفاء تفاصيل وبنود الاتفاق. 

ويشكل هذا المسار تهديداً كبيراً للاقتصاد الليبي، حيث تسبب الإغلاق القسري لعدد من المواقع النفطية خلال العام الماضي في خسارة ليبيا نحو 60 مليون دولار يومياً بسبب تراجع الإنتاج. وفي حال تكرار هذا الإغلاق، يمكن أن يتعرض الاقتصاد الليبي لصدمة كبيرة، كما قد يهدر ذلك فرصة ليبيا في تعزيز عوائد الطاقة في ظل ارتفاع الأسعار على خلفية الحرب الروسية – الأوكرانية.

4- تصعيد التوتر المكتوم بين الدول الأوروبية: يمكن أن يؤجج الاتفاق بين إيطاليا وحكومة الدبيبة، التوترات بين إيطاليا من جانب، وكل من تركيا وفرنسا من جانب آخر. فعلى الرغم من إعلان وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، خلال زيارته لأنقرة في 13 يناير الماضي عن وجود رؤية مشتركة بين البلدين حول ليبيا، فإن ذلك لا يمنع تعارض أو تصادم الطرفين، خاصة فيما يتعلق بتقاسم النفوذ في عملية التنقيب أو الاستفادة من الغاز الطبيعي في ليبيا. وعليه إذا لم يكن هناك تنسيق بين الجانبين الإيطالي والتركي، فقد تشهد تفاعلاتهما في ليبيا قدراً من التوتر في ظل توقيع الطرفين على اتفاقيات مع ليبيا ترتبط بالتنقيب عن الغاز الطبيعي. من ناحية أخرى، يمكن أن تشهد العلاقات بين باريس وروما نوعاً من الشد والجذب في ظل التنافس بينهما على الثروات النفطية في ليبيا، حيث إن الاتفاق الإيطالي يمكن أن يزيد من مساحة نفوذ إيطاليا بما قد يتعارض بدرجة أو أخرى مع تطلعات فرنسا وشركاتها العاملة في مجال الغاز الطبيعي.

في الأخير، لا تخرج الخلافات القائمة والجدل المثار حول الاتفاق الموقع بين شركة “إيني” الإيطالية والمؤسسة الليبية للنفط، عن حالة الانقسام المعهود والدائم في الأزمة الليبية؛ بل إن الاتفاق قد يراكم ويضاعف من المشهد الصراعي بين الأطراف المختلفة، وذلك في ظل تباين المصالح واختلاف الحسابات الحاكمة لتحركات كل طرف من أطراف المعادلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى