أقلام وأراء

محمود الريماوي: رسالة إلى فولوديمير زيلينسكي.. إسرائيل تناديك

محمود الريماوي ٤-٦-٢٠٢٢م

لا أودّ التشويش عليك وأنت تخوض معركة الدفاع عن وطنك، ولكن ثمّة هاتف ملحاح يدعوني إلى سؤالك: هل ستذهب إلى إسرائيل؟ ربما يبدو السؤال غريبا بعض الشيء، غير أن المصادر الإسرائيلية تتحدث عن جهود أو خطط لاستقدام نحو 180 ألف أوكراني يهودي إلى إسرائيل. وقد جرى استقبال خمسة آلاف منهم، وفق ما يسمونه هناك “قانون العودة”، والمصمّم من أجل انتزاع اليهود من مواطنهم الأصلية، ومن صفوف الشعوب التي ينتمون إليها، للالتحاق بالدولة العبرية. وبما أنك تنتمي للدين اليهودي (ينتمي كاتب هذه الرسالة للإسلام)، فإن من واجبك، حسب رؤيتهم، الالتحاق بتلك الدولة. وكما ترى، الموضوع مُربك، فقد سبق لك أن رفضت مغادرة بلادك في الأسبوع الأول للحرب، وبرهنت على شجاعةٍ تثير الاحترام. وسبق أن رفضت تلك الدولة استقبال لاجئين أوكرانيين، في الأسابيع الأولى من الحرب على بلادكم، إذ طلبت ضمانات مالية من المشرّدين الذين لا يملكون سوى ملابسهم، وهي الفترة نفسها التي دعاكم فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، إلى الاستسلام “بشرف” كما قال. ووقعت بعد ذلك بضع إشكالات بينكم، إلى أن خاطبتَ الكنيست الإسرائيلي… ولكن لنعد إلى الموضوع الأصلي: تريد تل أبيب للأوكرانيين اليهود، وأنت أحدهم، وطنا آخر غير وطنهم أوكرانيا. ماذا تقول في ذلك؟ وماذا تقول في التوقيت.. في استغلال الحرب الدائرة على وطنكم وشعبكم، من إسرائيل، لخدمة أغراضٍ أيديولوجية للحركة الصهيونية، وهي أغراضٌ تتصادم، بطبيعة الحال، مع حق أبناء الأرض المقدسة العرب في وطنهم التاريخي؟

في متابعتنا الأخبار المتعلقة بمأساة غزو بلادكم وتشريد شعبكم، لوحظ أن الطرف المعتدي فتح ممرّات وحيدة للمدنيين المنكوبين باتجاه واحد.. إلى روسيا. ليس معلوماً عددهم، لكنه كبير وبمئات الآلاف. وكما هو الحال في دونباس وفي خيرسون، سوف يُعرض على مواطني أوكرانيا الذين جرى توجيههم نحو الذهاب إلى روسيا التجنّس بجنسيتها، وحمل جواز سفرها. وعملياً قطع صلاتهم بوطنهم الأم، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى أوكرانيا السوفييتية. وهو ما يُغري المرء بملاحظة أن ثمة طرفين يريدان، في هذه الظروف، تقاسم شعبكم: الروس والإسرائيليون. الروس لأنهم يسعون إلى محو وجود أوكرانيا وتبديد هويتها، والإسرائيليون الذين لا يرون في جزء من شعبكم أنهم أوكرانيون يمتلكون هويتهم الوطنية، ولهم وطنهم، بل يرونهم محض يهود لا غير. لهذا سألتك إن كنت تقبل، من جهتك، هذه الدعوة. وأضيف: كيف تراها؟ لا شك أن الحس الدرامي لديك سوف يُعينك على الإجابة، فضلاً عن الحسّين، الإنساني والسياسي.

وكما سبقت الإشارة، تجري دعوة اليهود إلى التخلي عن كل ما يربطهم ويربط أسلافهم بأوطانهم ومجتمعاتهم للالتحاق بالدولة الاسرائيلية، وفقا لـ”قانون العودة”. هل تعلم سيد فولوديمير أنه سبق للجمعية العامة للأمم المتحدة أن أصدرت في العام 1948 قرارا يحمل الرقم 194، يقضي بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وبطبيعة الحال، ديارهم هي فلسطين التي جرى الاستيلاء عليها في ذلك العام، حين أعلن عن قيام دولة إسرائيل. لم يعد اللاجئون الفلسطينيون، منذ ذلك التاريخ، ولك أن تتخيل ألا يتاح لملايين الأوكرانيين العودة إلى أوكرانيا، إذ هذا ما حدث مع اللاجئين الفلسطينيين، لذلك يسمي الفلسطينيون يوم 15 مايو/ أيار من كل عام بأنه يوم النكبة، فيما يسميه الإسرائيليون ذكرى الاستقلال، مع أنه ليس معلوما عمّن استقلّ اليهود الوافدون من وراء البحار إلى أرض فلسطين، غير أن الوقائع تدل على أنهم استقلّوا (انفصلوا، انسلخوا) عن مواطنهم الأصلية، كي يحلوا محل أصحاب الأرض وأبناء البلاد الأصليين، وهم الفلسطينيون.

ربما شوّشتُ عليك قليلا بالحديث عن هؤلاء الذين قد لا تعرفهم، إذ لم يسبق لك أن تحدثت عن الفلسطينيين، أو تطرقت للكارثة الوجودية التي أحاقت بهم. بل إنك، كما يبدو، تتعاطف مع من تسببوا بهذه الكارثة.. وبصراحة، هذا أمرٌ مريع. من يستمع إليك يتصوّر أن الجلاد الإسرائيلي هو الضحية، علماً أنه سبق أن كان يهودٌ ضحية كبرى للنازية في محرقة الهولوكوست على أيدي النازية، غير أن أحفاد هؤلاء ارتكبوا غزواً استئصالياً لأرض فلسطين، إذ أحلّوا، بالسطوة المسلحة، مهاجرين يهوداً محلهم، ممن يشملهم ما يسمّى قانون العودة. أما حق العودة الذي أقرّته الأمم المتحدة والقانون الدولي للفلسطينيين، فإن إسرائيل تحظر تطبيقه، ولا تسمح بعودة أي أحد من هؤلاء الى ديارهم، وتريد للأقلية الباقية في وطنها فلسطين أن تلتحق بالدولة العبرية، وتتنازل عن هويتها، وألا ترفع علم فلسطين .

هل تعلم سيد فولوديمير أن الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي إسرائيل، تشن حملة على هذا العلم، فقبل أيام جرى تجيييش حملة الأعلام الإسرائيلية في القدس المحتلة، وحين عمد أبناء القدس العرب إلى رفع علمهم، نكّلت بهم الشرطة الاسرائيلية. وقبل ذلك، هجمت قوات الاحتلال على جثمان الصحافية شيرين أبو عاقلة، وانتزعوا العلم عن جثمانها. لم يخافوا فقط من هذه الصحافية الشجاعة، التي تدل كل التقارير أنهم قتلوها متعمّدين بوحشية وبدم بارد، لكنهم ارتعدوا أيضا من العلم الذي ينبئ عن وجود الشعب الضحية وتمسّكه بالعلم الوطني. وهو، في واقع الأمر، خوفهم الشديد من الحقيقة. وبينما قُتل صحافي أجنبي (فرنسي) في بلادكم، وهو ما يقشّعر له البدن، فإن عشرات من الصحافيين الفلسطينيين من زملاء شيرين قتلهم أصحاب “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.

يقف كثيرون من بين صفوف العرب معكم في دفاعكم الباسل عن وطنكم وشعبكم، كما يقف كثيرون مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لأنه “ضد أميركا”، ويقفون ضدكم بالذات، إذ يجرى تصويرك أنك “صهيوني يحمل الجنسية الإسرائيلية”. وأنا لا أعرف إن كنت تحمل الجنسية الإسرائيلية أم لا، وأجهل إن كنت صهيونيا أم لا، لكني أعرف أنك يهودي الديانة ومتزوج من سيدة مسيحية، ولم تكن مسيسا قبل انغماسك في حملة التنافس على رئاسة بلادكم، وأن ثقافتك السياسية تدفعك ربما إلى الاعتقاد بأن انتماءك الديني يجعلك قريبا من الدولة الإسرائيلية، ومتعاطفا عاطفيا معها على الأقل.. بطبيعة الحال، يخطئ من يؤيد الغزو الروسي متعللاً باعتراضه السياسي عليكم، فهذا الغزو يستهدف أوكرانيا وشعبها وكيانها، ولا يستهدف زيلينسكي حصرا، غير أن ما يُعقّد المسألة تجاهلكم التام والمستغرب للكارثة الفلسطينية ولحقوق الفلسطينيين في وطنهم التاريخي، وللتنكيل الإسرائيلي المنهجي والثابت بهم. وهو أمر يصعب تفسيرُه، فضلاً عن تبريره، إذ لم تُعرف عنكم العنصرية كي تُنكروا وجود شعبٍ يدافع عن وجوده منذ قرن على الأقل، حين حلّ الانتداب البريطاني على أرض فلسطين، وحين عمل هذا الانتداب على تمكين الحركة الصهيونية بالسلاح، وبكل شيء آخر، كي تستولي على أرض الفلسطينيين وتنتزعهم من أرضهم. وهذا ما حدث، فقد انسحب البريطانيون يوم 15 مايو/ أيار 1948 بعد أن أتمّوا مهتهم بإعلان دولة إسرائيل، فيما كان عشرات آلاف الفلسطينيين، أبناء البلاد، يهيمون على وجوههم بحثا عن نجاة، مخلفين وراءهم عشرات القرى والبلدات التي هدمتها آلة الحرب الصهيونية، وتركتها أنقاضاً وأطلالا.

كثيرون الآن من عامة الناس في بلادنا العربية يعرفون كييف وخاركيف وخيرسون ودونباس ومدناً أوكرانية أخرى. وقبل ذلك، تعرّف طلاب وسياح ومستثمرون عرب على بلادكم الجميلة. هل تعرف سيد زيلينسكي في المقابل: بيت لحم والخليل ونابلس والقدس ورام الله وأريحا وجنين؟ إنها مدن محتلة منذ العام 1967، إذ لم تكتف الدولة الإسرائيلية باحتلال 78% من أرض فلسطين في 1948، فعملت على احتلال البقية الباقية في 1967. ولا شك أنك تدرك منذ العام 2014، مع الاستبلاء على القرم، ثم السيطرة الروسية غير المباشرة على دونباس، كم أن الاحتلال شديد البشاعة، وكم من الواجب إنهاؤه ووضع حد له، وكم يثُقل على النفس البشرية السويّة سماع مدائح تُكال للاحتلال البغيض.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى