أقلام وأراء

محمد ياغي يكتب – هل لا يزال الشرق الأوسط مهماً للولايات المتحدة؟

محمد ياغي – 5/3/2021

الولايات المتحدة ورثت تركة الشرق الأوسط من بريطانيا بعد خروج الأخيرة ضعيفة من الحرب العالمية الثانية. في أجواء الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية، احتل الشرق الأوسط مكانة متقدمة في السياسات الأميركية لأهميته كمصدر للطاقة لها أولا وبسبب رغبتها في منع الاتحاد السوفياتي من التوسع فيه ثانياً ولاحقاً بسبب رغبتها في حماية إسرائيل لأسباب استراتيجية وبسبب قوة اللوبي الإسرائيلي فيها.

لكن هذا الوضع تغير كثيرا في العقدين الأخيرين. الولايات المتحدة اليوم لم تعد بحاجة لنفط الشرق الأوسط، وإنتاجها منه العام ٢٠١٩ زاد عن حاجتها له لأول مره منذ العام ١٩٥٧. وإسرائيل لم تعد في وضع يهدد وجودها فهي القوة العسكرية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط والعديد من الدول العربية يقيم معها معاهدات سلام.

كما أن الهيمنة الأميركية في المنطقة ترسخت بعد انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي وإقامتها للعديد من القواعد العسكرية فيها بعد تحريرها للكويت من الاحتلال العراقي العام ١٩٩٠ ومن ثم احتلالها هي للعراق العام ٢٠٠٣.

مقابل هذه المتغيرات، كانت هنالك قوى شد جديدة تدفع الولايات المتحدة لترسيخ وزيادة وجودها العسكري في المنطقة: انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام ١٩٧٩، النفوذ المتزايد للحركات الإرهابية في عدد من دول المنطقة، المخاوف من قيام إيران باحتلال منابع الطاقة في الخليج العربي واكتشاف امتلاكها لبرنامج نووي سري العام ٢٠٠٢ وتعاظم نفوذها الإقليمي بعد احتلال أميركا للعراق العام ٢٠٠٣ ولاحقا في سورية واليمن.

هذه المتغيرات دفعت أميركا لتكريس وجودها العسكري في المنطقة بدلا من الانسحاب منها. وتشير دراسة لميغان ايكستين مثلا الى أن حاملات الطائرات الأميركية قد أمضت في الخليج العربي والبحر الأحمر في الأعوام الممتدة من ٢٠١٦ وحتى ٢٠٢٠، ١٢٦١ يوما في حين ان حاملاتها في البحر المتوسط والمحيط الاطلنطي مجتمعة لم تمض أكثر من ٦٤٢ يوماً بينما أمضت في المحيط الهادي ١٨٥٧ يوماً.

لكن الهيمنة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لم تكن بلا تكاليف مادية ومعنوية. يقدر الخبراء الأميركيون أن التدخل العسكري المباشر في العراق لوحدة قد كلف الخزينة الأميركية ما يقارب ٢ تريليون دولار بنهاية العام ٢٠٢٠.

كما أن خسائرها البشرية فيه قد وصلت الى ٨٣٥٨ قتيلاً بنهاية تشرين الثاني ٢٠١٨ ما بين عسكري ومتعاقد ومدني. يضاف لذلك خسارة أميركا لقوتها الناعمة فيه بسبب تبنيها لسياسة ازدواج المعاير: دعمها للديمقراطية وحقوق الانسان في كل مكان تقريباً في العالم مع استمرار دعمها للأنظمة المستبدة في العالم العربي ومعها الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

إذا اضفنا لذلك حاجة أميركا الملحة لتوجيه مصادرها المادية والدبلوماسية لمواجهة الصعود المتعاظم للصين في شرق آسيا، فإن العديد من صناع القرار ومراكز الأبحاث فيها أصبحوا يدعون لمقاربات جديدة تمنع أميركا من التورط العسكري أكثر المنطقة.

هذا التوجه كان واضحاً في سلوك الرئيس بايدن وتعيناته. فهو لم يقم مثلاً بالاتصال بأي من زعماء الشرق الأوسط بمن فيهم رئيس وزراء إسرائيل الا بعد أربعة أسابيع من استلامه للرئاسة.

وفي التعينات، قام بايدن بتخفيض عدد مستشاريه لمنطقة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي بينما زادهم لمنطقة شرق آسيا.

هذا لا يعني بأن منطقة الشرق الاوسط قد فقدت أهميتها، لأن الجغرافيا السياسية للمنطقة أكبر من أن تدير أميركا ظهرها لها.

النفط في منطقة الشرق الاوسط لا يزال هو عصب الحياة للنمو الاقتصادي للعديد من حلفاء أميركا وخصومها في العالم. اليابان مثلا، حليفة أميركا، استوردت أكثر من ٨٠٪ من حاجتها من النفط من الخليج العربي العام ٢٠١٩، ومثلها فعلت الصين وهي خصمها حيث استوردت أكثر من ٤٠٪ من حاجتها منه من الشرق الاوسط.

الممرات المائية أيضا في المنطقة حيوية للتجارة العالمية إذ يقدر حجم ما يمر منها من باب المندب لوحدة سنويا ما بين ١٢ و٢٠ ٪.

المنطقة أيضا كبيرة بسكانها وتحول عدد من دولها الى دول فاشلة بسبب الحروب الاهلية فيها وانعدام الاستقرار في العديد من دولها، يشكل هاجسا دائماً لأميركا وحلفائها الأوروبيين في مسألتي مكافحة الإرهاب ومنع الهجرة الجماعية منها.

إذا أضفنا لذلك أن الانسحاب الأميركي من المنطقة يشجع خصومها، روسيا والصين تحديداً، على تعزيز وجودهم فيها، فإن أميركا لا تجد مصلحة لها بحزم حقائبها والرحيل.

لكن الولايات المتحدة في الوقت نفسه لا تريد أيضا أن تستمر في التورط العسكري فيها بما يحرمها من توجيه مصادرها العسكرية والمالية والدبلوماسية الى منطقة يتعاظم فيها تهديد أكبر لمصالحها وهي منطقة شرق آسيا.

الشرق الأوسط إذاً سيبقى مهماً للإدارات الأميركية المتعاقبة، ولكن أميركا لن تستطيع الحفاظ على سياسات تدفعها للتورط العسكري فيه أكثر وهي على الأغلب ستعيد صياغة سياساتها فيه، بما يمكنها من توجيه مصادرها لمناطق أخرى في العالم أهم للولايات المتحدة من الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى