أقلام وأراء

محمد ياغي يكتب – كيف تستفيد أميركا من العقوبات الاقتصادية؟!

محمد ياغي – 13/3/2020

في السياسة، المساعدات المالية والعقوبات الاقتصادية هي مجرد أدوات سياسية مثلها مثل الدبلوماسية والاتفاقات والمعاهدات والتبادل التجاري والحروب تهدف لتحقيق هدف ما. هذا الهدف إما أن يكون الحفاظ على وضع قائم أو تعديله.

بلغة أخرى الدولة المانحة قد تستمر في تقديم مساعدات لدولة ما طالما كانت هذه الدولة تنفذ ما هو مطلوب منها مثل تبادل المعلومات وشراء منتجاتها أو السماح لها بإنشاء قواعد عسكرية في بلادها أو التصويت الى جانبها في الأمم المتحدة.

وهي قد تقدمها لدولة ما لا تقوم بكل ما سبق لإغوائها على القيام بذلك. وهي قد تقطع المساعدات التي كانت تقدمها لدولة ما إذا غيرت هذه الدولة من سلوكها الذي كان قائماً تجاهها.

العقوبات الاقتصادية لها نفس هدف المساعدات. يتم فرض عقوبات اقتصادية على دولة ما لإجبارها على تغيير سلوكها في الاتجاه الذي تريده الدولة التي تفرض العقوبات الاقتصادية.

ولأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسيطر على النظام المالي ولأنها الدولة الأكبر في العالم في حجم التبادل التجاري والاقتصاد الأهم في العالم، فهي الدولة الوحيدة التي يمكنها فرض عقوبات اقتصادية وإجبار الآخرين على تبنيها.

بإمكان روسيا أو ألمانيا أو حتى تركيا مثلاً أن تفرض عقوبات اقتصادية على دول أخرى، لكن هذه الدول، وبعكس الولايات المتحدة، لا تستطيع أن تجبر دولاً أخرى على الالتزام بهذه العقوبات.

عندما تقول أميركا، بأنها لا تريد من أي دولة أن تشتري النفط الإيراني مثلاً، فإن الجميع الى حد كبير سيلتزم بذلك لأن رفض ألمانيا للقرار الأميركي، سيحرمها من إمكانية تصدير منتجاتها للسوق الأميركية.

وإذا أراد بنك صيني مثلاً أن يقوم بتسهيل المعاملات التجارية مع إيران، فإن هذا البنك سيتم حرمانه من التعامل مع البنوك الأميركية، وهكذا. جميع الدول في النهاية والى حد بعيد تخضع مكرهة لما تقرره أميركا بغض النظر عن قناعتها هي ومصالحها مع الدولة المفروض عليها الحصار الاقتصادي.

لكن للعقوبات الاقتصادية الأميركية جوانب مهمة وأساسية تفسر هذه العقوبات ولا يتم الالتفات لها من الجمهور أو المحللين السياسيين ولا حتى من أصحاب القرار السياسي أحياناً، لأنه يتم تغطيتها بكلمات كبيرة مثل منع إيران من امتلاك سلاح نووي، محاربة الإرهاب في سورية، محاربة الدكتاتورية في فنزويلا ونشر الديمقراطية فيها، معاقبة روسيا على سلوكها تجاه أوكرانيا.

هذه الشعارات السياسية الكبيرة التي تحمل “أهدافاً نبيلة” ليست أكثر من أكاذيب للتغطية على أهداف اقتصادية مهمة يجري تحقيقها من خلال هذه العقوبات.

انهيار أسعار النفط -الذي حدث يوم الاثنين الماضي عندما وصل سعر برميل النفط لأقل من ٣٥ دولاراً في أدنى مستوى له منذ العام ١٩٩١- إثر الخلاف بين روسيا والعربية السعودية على مسألة خفض الإنتاج، دفعني للبحث عن الأسباب التي قد تدفع روسيا والعربية السعودية للحفاظ على الإنتاج الحالي للنفط، رغم الانخفاض الكبير في الطلب عليه في الأسواق العالمية، بسبب ما سببه فيروس كورونا من وقف لحركة الطائرات والسياحة والتنقل بين المدن والإنتاج في العديد من الدول الاقتصادية المهمة في العالم وفي مقدمتها الصين.

الخلاف بين الدولتين ليس هو موضوع المقال، والخلاف بشكل مختصر أن العربية السعودية اقترحت خفض الإنتاج بنسبة مليون برميل يومياً تتحمل دول أوبك نصف الخفض وتتحمل روسيا النصف الآخر، لكن الأخيرة رفضت. وهو ما دفع العربية السعودية للقول بأنها لن تكتفي فقط بالحفاظ على نسبة إنتاجها الحالي، ولكنها ستقوم بزيادة إنتاجها بنسبة ثلاثة ملايين برميل يومياً في شهر نيسان، وهو ما يعني أن سعر برميل النفط، في ظل عدم الطلب عليه، سيصل الى مستوى أدنى بكثير من سعره الحالي. مجرد حديث العربية السعودية عن ذلك، أدى الى خسارة أسواق المال مئات البلايين من الدولارات.

السؤال هنا لماذا يقوم بلدان يعتمدان الى حد كبير على النفط في موازنتيهما(العربية السعودية بنسبة تصل الى ٦٠ ٪ وروسيا بنسبة ٣٨٪) الى الاستمرار في إنتاج النفط بنفس الوتيرة بدل خفض الإنتاج لرفع سعر البرميل، بل والتهديد أيضا بإغراق السوق بالنفط، بما يمثله ذلك من خسارة كبيرة للبلدين.

في أواخر عهد الرئيس أوباما حققت الولايات المتحدة اكتفاءً ذاتياً في إنتاج النفط الذي يتم استخراجه من الصخور الزيتية، لكن أوباما الذي وقع على بروتوكول باريس للحفاظ على البيئة، فرض قيوداً على استخراج المزيد من النفط لما له من تأثير ضار على البيئة يتناقض مع اتفاقية باريس.

الرئيس ترامب ألغى جميع القيود التي فرضها أوباما على انتاج النفط وسمح باستخراج المزيد منه، وسهل لشركات النفط عملها بالقروض المالية، وبإقامة البنى التحتية لها، ودعم مراكز الأبحاث والتطوير التي تعمل في تطوير تقنيات استخراج النفط، وأدى ذلك الى تمكن هذه الشركات من إنتاج ما يزيد على حاجة السوق الأميركية من النفط بثلاثة ملايين برميل يومياً تقريباً منذ العام ٢٠١٧.

هذه الملايين الثلاثة هي للتصدير، لكن حتى تتمكن هذه الشركات من التصدير بسعر يفوق تكلفة الإنتاج، يجب إخراج بعض الدول النفطية من السوق. بمعنى منعها من وضع نفطها في السوق العالمي لأن قيامها بذلك يؤدي الى تقليل السعر العالمي لبرميل النفط، وهو ما يجعل من تصدير أميركا لنفطها غير مجدٍ اقتصادياً، لأن تكلفة إنتاج النفط من الصخور الزيتية أعلى بكثير من تكلفة استخراجه من حقول النفط العادية.

ليست مصادفة إذاً العقوبات الاقتصادية على إيران وفنزويلا وروسيا وعلى قطاعاتها النفطية تحديداً. وليست مصادفة إذاً سيطرة أميركا على منابع النفط في سورية، وتعطيل الإنتاج أو الحد منه في العراق وليبيا.

العقوبات الاقتصادية على إيران وفنزويلا وروسيا هي عقوبات على المخزون الاستراتيجي لهذه الدول من النفط والذي يعادل ثلث المخزون العالمي، وهي عقوبات على انتاجها النفطي التي تعادل خمس الإنتاج العالمي.

بالطبع أميركا لم تتمكن من إخراج نفط هذه الدول الثلاث بكامله من السوق العالمي، لكن كل برميل نجحت أميركا في منع تصديره من هذه الدول للعالم، قامت شركاتها هي بتصديره.

منذ وصول الرئيس ترامب للبيت الأبيض، أميركا أصبحت تصدر النفط لأربعين دولة في العالم. ثلث ما كانت تصدره إيران من النفط لأوروبا بعد العقوبات الاقتصادية عليها، أصبحت الولايات المتحدة هي التي تصدره لها.

وكلما تمكنت أميركا من إخراج دول أخرى من السوق النفطي بعقوباتها الاقتصادية المباشرة أو بسيطرتها العسكرية المباشرة كما هو الحال في سورية، فإن شركاتها هي التي تستفيد من ذلك مباشرة.

العقوبات إذاً المفروضة على دول مثل إيران وفنزويلا وروسيا وسورية، هي لأهداف اقتصادية محضة يجري استغلال السياسة فيها لتحقيقها.

تصدير روسيا والعربية السعودية من النفط مستهدف من الشركات الأميركية التي تأمل بالحصول على حصة أكبر في السوق العالمي.

وكلا البلدين حيث تشكل عائدات النفط جزءاً مهماً من موازنتيهما، لا تستطيعان السماح للولايات المتحدة بالحصول على جزء أكبر من السوق على حسابهما لما يشكله ذلك من مخاطر اقتصادية كبيرة على البلدين.

لذلك، ربما ما يجري اليوم بين البلدين هدفه النهائي استهداف شركات إنتاج البترول الصخري الأميركي بإخراجها من السوق عن طريق تخفيض سعر برميل البترول في العالم، وهو ما قد يؤدي الى إفلاس شركات النفط الأميركية إذا أصبحت تكاليف إنتاجها أعلى من عائداتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى