أقلام وأراء

محمد ياغي يكتب – عن “الموقف الأخلاقي العالي للفلسطينيين” .. المطلوب

محمد ياغي – 28/8/2020

في صحيفة «جيروساليم بوست» كتب «غيرشون باسكن» من معسكر اليسار الإسرائيلي مقالاً بعنوان «لإنهاء الاحتلال: على الفلسطينيين أن يأخذوا موقفاً أخلاقياً عالياً».

يبدأ باسكن مقاله بالقول إن الفلسطينيين جربوا كل شيء لإنهاء الاحتلال لكنهم لم ينجحوا: جربوا المقاومة المسلحة ولكنها فشلت، جربوا الحجارة وفشلوا، المفاوضات فشلت، الحصول على التأييد الدولي للضغط على إسرائيل لم ينجح، الدعوة لمقاطعة إسرائيل لم تنجح، استخدام «الإرهاب» لم ينجح، الاعتماد على العرب أثبت فشله، وبالتالي لم يبق أمامهم غير أن يتخذوا موقفاً أخلاقياً عالياً.

الموقف الأخلاقي العالي الذي يطالب به باسكن هو أن ينتهج الفلسطينيون طريق غاندي في المقاومة السلمية.

للقيام بذلك عليهم أن يفكوا ارتباطهم بالاحتلال وأن لا يتعاونوا معه.

نقطة البداية، يقول باسكن، تبدأ في أن يقوم الفلسطينيون بحرق هوياتهم وجوازات سفرهم التي يحملونها الآن، ويستبدلوها بهويات جديدة وبأرقام جديدة لا وجود لها في «الكمبيوتر الإسرائيلي» كما هو الحال الآن.

هذا الفعل سيدفع الاحتلال الذي يريد أن يعرف كل شيء عن الفلسطينيين بهدف السيطرة عليهم الى منع العمال الفلسطينيين من الدخول الى إسرائيل، الى إقامة المزيد من الحواجز في الضفة، الى اجتياح المدن لمعرفة ما يجري فيها او بهدف القيام بتعداد السكان ومعرفة المواليد الجدد فيها.

في المحصلة ستنشأ حالة احتكاك مباشرة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، وفي هذه الحالة على الفلسطينيين أن يرفضوا التعاون مع الاحتلال، وهذا بالطبع سيؤدي لاعتقالهم وبالنتيجة سيتراكم في سجون الاحتلال عشرات وربما مئات الآلاف من الفلسطينيين.

سينتج عن حرق الهويات ورفض التعاون مع الاحتلال وضع معيشي قاس بسبب عدم قدرة العمال على العمل في إسرائيل وعدم قدرة الفلسطينيين على استيراد البضائع وعدم قدرتهم على السفر.

في هذا الوضع البائس ومن أجل الحصول على المكانة الأخلاقية العالية على الفلسطينيين أن لا يلقوا حجراً واحداً على قوات الاحتلال، وان لا يقاوموا اعتقالهم وأن يستسلموا له برفع أيديهم الى السماء، وأن يسجلوا ويوثقوا وينشروا بشكل واسع كل ما يقوم به الاحتلال.

 باسكن يعلم أن الاحتلال سيقتل، سيعذب وسيهين الفلسطينيين خلال كل ذلك، لكن حتى يكون لحركة الفلسطينيين تأثير على «على المجتمع الإسرائيلي وعلى الضمير العالمي»، على الفلسطينيين أن يصعدوا الى المكانة الأخلاقية العالية: مكانة الضحية.

خلال ذلك كله على فلسطينيي الخارج التحرك للتضامن مع شعبهم وعلى معسكر السلام الإسرائيلي أن يوضح للإسرائيليين المستوى المتدني الذي أوصلهم الاحتلال له.

الفلسطينيون سيعانون الكثير بلا شك وقد تمتد معاناتهم لسنوات، لكن في المحصلة إسرائيل ستضطر لإنهاء احتلالها.

مقالة باسكن أرسلها صديقي «يان» مع ثلاث كلمات: ما هو رأيك؟

وها أنا أرد هنا عليه لأن مقالة باسكن تستحق الرد.

سأبدأ بذكر الحقائق التي يتجاهلها المقال رغبة في الترويج لفكرة المقاومة على طريقة غاندي. هذه الحقائق، وعلى الفلسطينيين أن يصححوني إن أخطأت، هي:

أولاً، الإسرائيليون انسحبوا سابقاً في حالتين: عندما أعادوا سيناء لمصر بهدف إخراجها من الصراع العربي الإسرائيلي، وعندما وجدوا مقاومة مسلحة حقيقية في لبنان وغزة. المقاومة المسلحة بالنتيجة لم تفشل عندما كانت مستمرة ومتواصلة.

ثانياً، الفلسطينيون قاوموا من الأردن ومن لبنان ولم يسعوا لتوطين مقاومتهم المسلحة في الضفة ولو فعلوا ذلك، لربما نجحوا في إنهاء الاحتلال، وعندما استخدموا المقاومة المسلحة في الانتفاضة الثانية ارتكبوا خطيئتين: استخدموا أولاً طريقة الانتقام بتفجير حافلات ومقاهٍ إسرائيلية رداً على جرائم الاحتلال في الضفة وهذا وسم عملهم المقاوم بالإرهاب ودفع الإسرائيليين للتطرف، وثانياً أنهم أنهوا وبإرادتهم وبشكل سريع مقاومتهم المسلحة وبدون مقابل سياسي. وكان على الفلسطينيين أن يدركوا أن المقاومة المسلحة ترسم حدود الدولة الفلسطينية.

ثالثاً: الانتفاضة الأولى لم تفشل وكانت في طريقها في آخر سنتين منها للتحول الى مقاومة مسلحة وهو، في تقديري، ما دفع دولة الاحتلال للتوجه لمسار أوسلو. كانت محاولة من جانبهم لإجهاض هذا التوجه داخل المقاومة، ونجحوا لأن منظمة التحرير اعتقدت بأن المفاوضات هي طريق أقل كلفة لإنهاء الاحتلال. ولو كان لدى منظمة التحرير بعض اليقين بأن هذه المفاوضات مصيرها الفشل لما سلكوا هذا الطريق الذي أجهض مقاومتهم.

رابعاً: لماذا لا يخبرنا باسكن عن سبب «فشلنا» في الحصول على التأييد الدولي؟ أو لم يفعل الفلسطينيون ما يريده العالم منهم: تنسيق أمني مع الاحتلال، بناء مؤسسات ديمقراطية، موازنة مالية شفافة، انفصال كلي عن «حماس». لقد قام الفلسطينيون بتنفيذ كل ما طلب منهم وبإشراف أجهزة أمن عالمية من «السي أي ايه» الى «إم آي ٦». الفلسطينيون فشلوا لأن العالم الحر الديمقراطي لا يكترث بهم وبمعاناتهم ويكترث فقط بإرضاء دولة الاحتلال حتى وهي في أوج يمينيتها وتطرفها واستعلائها على القانون الدولي.

خامساً: لماذا يقول باسكن بأن حركة المقاطعة فشلت؟ هذه الحركة لم تفشل وهي تحقق نجاحات، لكن المؤكد أنها تقاوم من حكومات غربية ديمقراطية تدعي احترامها لحرية التعبير عن الرأي، لكن عندما تتعلق المسألة بإسرائيل فإن مسألتي الديمقراطية وحقوق الإنسان تختفيان ويصبح أي حديث عن إسرائيل هو عمل «لاسامي» و»تحريض». هل المشكلة في الفلسطينيين أم في هذا النفاق الغربي؟!

سادساً: الفلسطينيون لم يعتمدوا أبداً على الحكومات الرسمية العربية. على ما أذكر آخر حرب خاضها النظام العربي الرسمي كانت في العام ١٩٧٣ لاسترجاع أراضيه المحتلة و»ليس أراضينا». الفلسطينيون يدركون ومنذ زمن بعيد أن النظام العربي الرسمي ينسق مع إسرائيل. الفلسطينيون في المقابل، واثقون بأن الشعوب العربية معهم وأن ذلك لن يتغير، وهم أيضا واثقون بأن استمرار الوضع العربي الحالي هو من المحال.

الآن نأتي الى فكرة «المكانة الأخلاقية العالية التي على الفلسطينيين أن يجربوها» لإنهاء الاحتلال.

السؤال الذي يتبادر لي فوراً هو لماذا ستنجح هذه الطريقة في إنهاء الاحتلال؟

في تقدير باسكن أن هذه الطريقة تقوي موقع اليسار الإسرائيلي وتوصله للحكم وهو بالتالي من سيقوم بإنهاء الاحتلال. يضاف لذلك أن تقدم اليسار الإسرائيلي في هذا الطريق سيكون مصاحباً لتعاطف دولي كبير مع الفلسطينيين بعد أن يشاهدوهم وهم «يقتَلون ويعذَّبون ويُسجنون» دون أن يقوموا بأي رد فعل غير الاستسلام لجلادهم.

الفكرة نظريا جميلة ومثالية الى حد بعيد.

إنها تفترض أن «أي قيادة فلسطينية» سيكون لها القدرة على ضبط رد فعل الشارع الفلسطيني عندما يشاهد الآباء كيف يقتل الاحتلال أبناءهم، ويهينهم ويعذبهم (وبالعكس طبعا). وماذا لو قام البعض ممن لم يستطيعوا احتمال تنكيل الاحتلال بهم بالرد بشكل فردي؟ هل سيلام الفلسطينيون على فشل «اليسار الإسرائيلي» في الوصول للحكم؟ وبالتالي هل سيلام الفلسطينيون على استمرار الاحتلال لأنهم لم يتمكنوا من ضبط شاب عمره ١٧ عاما ويحمل في يده سكينا؟!

السؤال الثاني، عندما يصل اليسار الإسرائيلي للحكم، هل سيتخلى عن القدس العربية التي يحتلها منذ العام ١٩٦٧ أم سيطالب الفلسطينيين بتقديم التنازلات؟ وما ينطبق على القدس ينطبق على مسألة اللاجئين الفلسطينيين أيضا.

أما السؤال الثالث وهو الأهم في تقديري، لماذا علينا أن نصدق بأن اليسار الإسرائيلي قادر على الوصول للحكم أصلاً؟

خلال السنوات الخمس عشر الأخيرة على الأقل ورغم قيام السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني وبتنفيذ كل ما طلب المجتمع الدولي منها ورغم انفصالها عن «حماس» إلا أننا لم نشاهد في إسرائيل غير الصعود المستمر لليمين المتطرف والانهيار المستمر لليسار الإسرائيلي.

هل مشاهد قتلنا وتعذيبنا وإهانتنا ونحن صامتون هي ما سينقذ اليسار الإسرائيلي ويعطيه بعض الأمل للوصول للحكم في إسرائيل؟

أشك كثيراً في ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى