أقلام وأراء

محمد قواص يكتب – المغرب وفلسطين وما بينهما !

محمد قواص *- 17/12/2020  

في معرض استنكاره قرارات التطبيع التي اتخذتها بعض الدول العربية في العلاقة بإسرائيل، سألتُ المسؤول الفلسطيني عن الحكمة من غياب الدبلوماسية الفلسطينية في السنوات الأخيرة عن العواصم العربية وابتعاد الجسم الفلسطيني السياسي عن التواصل مع المنابر العربية، سواء في هيئاتها الرسمية أم تلك النقابية الحزبية والشعبية. أجابني الرجل بما يشبه الاستعلاء والاستغراب بسؤال مضاد: وهل بات علينا أن نسوّق قضيتنا لدى العرب؟

ربما من حق الرجل أن يستغرب، وهو من جيل استفاق على أن فلسطين هي “قضية العرب الأولى”، وتربى على حتمية أن العرب “أمة واحدة”، وأن فلسطين هي محور عيشهم، سواء كان “تغيير الأنظمة سبيلاً لتحرير فلسطين” (وفق رواية اليسار)، أم كان “تحرير فلسطين وسيلة لإسقاط النظام السياسي العربي” (وفق رواية اليمين)، وإقامة الدولة العربية الواحدة التي لم يعرفها التاريخ من قبل.

من أجل تبرير الثورة ضد السلطنة العثمانية، خرج من اكتشف القومية بديلاً من العصبية الدينية، وراجت قومية عربية بنسخات مختلفة تنهل من نظريات القوميات المستوردة. وأقسم المنظّرون بأن الثنائي سايكس – بيكو مزّق “الأمة”، وهي في الحقيقة متخيلة. فالدولة العربية التي سعى اليها الشريف حسين، لا تشبه تلك التي بشّر بها جمال عبد الناصر، ولا تلك التي كتب عنها ميشال عفلق ونفخ فيها نظاما البعث في سوريا والعراق.

كانت المنطقة تنتقل بالحكم والولاء من عهد إلى آخر، ومن الخلافة إلى السلطنة وفق تقسيمات إدارية تتبدل في كل زمان. فإذا ما كان أهل الموصل مشغوفين بما يحصل في اسطنبول، فإن دمشق كانت تنظر صوب مكة، فيما المغرب يتأمل إشبيليا، واليمن يطل على الحبشة. بيد أن أصحاب نظرية الأمة العربية اختصروا التاريخ، وقزّموا الجغرافيا. انتبهوا إلى أن العرب لا ينظرون إلا إلى بعضهم بعضاً. يتراكمون على نحو عرقي، ليقيموا أمة لها طموحات واحدة وقضايا واحدة. جاءت قضية فلسطين لتكون القاطرة المثالية المُفحمة للجمهوريات والملكيات، للتقدميين والرجعيين.

اكتشف العرب حديثاً هراء القاعدة الأيديولوجية لمشروع “أمتهم”. أولاً لأنهم أمم، وفي ذلك ثراءُ التعدد ونعمةُ التباين. وثانياً لأن تاريخ تلك الأمم مختلفٌ اختلاف جغرافيتها. وثالثاً لأن قاعدة المصالح التي تصنع مسار الجماعات ومصائرها، متباينة متناقضة، وفق قواعد الأمن والحاجة والطموح. على هذا يكفي تأمّل واقع منطقة المغرب الغربي، واختلافه عن واقع دول وادي النيل، وابتعاده عن واقع دول المشرق والخليج، لاستنتاج تغاير هواجس تلك الدول وأولوياتها، كما تفاوت وعيها الجماعي وافتراق ذاكرتها التاريخية.

وفق ذلك فإن فلسطين، في بعدها المأسوي السياسي، نتجت من لعبة أمم خبيثة دفع الفلسطينيون أثمانها. والواضح أن قضية فلسطين تنهل استثنائية بريقها وشهرتها من كونها متّصلة بالهولوكست اليهودي ومصير يهود العالم حتى يومنا هذا. داخل ذلك الرابط ما بين الكارثتين، تفرض موازين القوى منذ الحرب العالمية الثانية، مروراً بانهيار المعسكر الأممي الصيني السوفياتي، انتهاءً بفوضى النظام الدولي الراهن، واقع تفوّق رواية على أخرى. فيما السّلم لن يقوم يوماً إلا حين تتساوى الروايتان وتصبح المقارنة عادلة.

وفق تلك المعادلة، لا يمكن لفلسطين أن تكون قضية العرب الأولى (الوحيدة)، خصوصاً أن موازين القوى الدولية تتراجع عقداً بعد عقد لمصلحة لا “يرمي إسرائيل في البحر”. ناهيك عن أن القضايا التي انفجرت في دول عربية عديدة، خصوصاً منذ عام 2011، أحالت فلسطين هامشاً لا متناً، بحيث يتفاجأ الفلسطينيون أنفسهم بأن رام الله ونابلس وغزة، وحتى القدس، ليست بالنسبة الى العرب، أنظمة وشعوباً، أهم من سرت ومراكش وتعز والموصل…الخ.

على ذلك يداهم العقل الفلسطيني واقع حال جديد يتم داخله التواصل المتدرج بين الدول العربية وإسرائيل. يتم الأمر بعد عقود على عملية تطبيع أجراها الفلسطينيون مع إسرائيل في “أوسلو”، إلى درجة أن إسحق رابين خاطب الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ممازحاً بقوله: “بدأت أؤمن بأنك ستصبح يهودياً”.

بناءً على الواقع الجديد، بدأت القيادة الفلسطينية في رام الله تستفيق على المشهد الجيو استراتيجي الجديد. تراجعت حدّة الخطاب الرسمي والفصائلي السلبي ضد العرب و”جامعتهم”. بات على الفلسطينيين أن يقروا بقواعد المصالح التي لطالما غابت وراء ستار العقائد المتقادمة. ولن يتأخر العقل الفلسطيني عن فهم وإدراك حوافز القرار المعلن وحيثياته، أو الذي سيعلن، لدول عربية، تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

على أن الحنكة تكمن في قراءة المتغيرات والعمل وفق شيفرتها. تستمد قضية فلسطين عدالتها من مظلومية تاريخية تعترف بها جل دول العالم. وتستمد فلسطين قوتها مما تملكه من مشروعية أخلاقية عابرة للحدود والثقافات والقرارت الأممية. وتتحصّن فلسطين بدوائر عربية إسلامية أفريقية أوروبية روسية صينية ما زالت متمسكة بحل الدولتين، وما زالت غير معترفة بما أضافه دونالد ترامب من بصمات على واقع القضية وراهنها.

لم تحظ إسرائيل بالتطبيع المأمول حين وقّعت اتفاقيتي “كامب دايفيد” مع مصر و”وادي عربة” مع الأردن. ولم يتطوّر التواصل العربي الإسرائيلي إلا تالياً على تطوّره مع الفلسطينيين بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، أو سابقاً على تطوّره الجديد وفق ما أعلنته القيادة الفلسطينية عن عودة التنسيق مع إسرائيل والاستعداد لاستئناف المفاوضات. وفي كل قرار لنسج علاقات مع إسرائيل، سواء من قبل الإمارات والبحرين، أم السودان والمغرب، فإن لازمةَ التمسك بالحقوق الفلسطينية كانت من ضمن النصوص والمواقف المصاحبة.

يبقى أن الحدث، في بعده المتخلّص من أوهام الأيديولوجيا عند العرب، يطرح على الفلسطينيين أمراً واقعاً وجب البناء عليه ما داموا لا يملكون ظروف إطاحته، ويطرح بالمقابل أسئلة داخل إسرائيل نفسها حول مستقبل وجودها من دون تسوية سلم تاريخية. ذلك أن رحيل ترامب عن السلطة واحتمال ذلك بالنسبة الى بنيامين نتنياهو، يجرّد “الإنجاز” من مظاهره العرضية، ويفرض على إسرائيل قواعد وأصولاً لا يمكن توافرها إلا في فلسطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى