منوعات

محمد قاروط أبو رحمه: دولة المؤسسات: من العاطفة إلى القيمة

محمد قاروط أبو رحمه 10-12-2025: دولة المؤسسات: من العاطفة إلى القيمة

 

(الملخص؛ بناء دولة المؤسسات بين قانون المحبة والقانون المبني على القيم. قانون المحبة يبني وسير ثورة والقانون المبني على القيم ومن ضمنها قيمة المحبة يبني دولة مؤسسات)

 

تُعدّ فكرة “دولة المؤسسات” حجر الزاوية في الفكر السياسي الحديث، فهي الدولة التي لا تقوم على الأهواء الشخصية أو الإرادات الفردية، بل على منظومة محكمة من القوانين والقواعد والإجراءات الثابتة.

في سعينا لبناء هذه الدولة، نواجه جدلية فلسفية عميقة تتمحور حول طبيعة القانون:

هل يجب أن يكون قانوناً صارماً ومجرداً يضمن النظام العام، أم قانوناً مرناً وإنسانياً يراعي المشاعر ويسعى لإرضاء الجميع؟

هذا التساؤل يقودنا إلى المقارنة بين “قانون المحبة” والقانون “المبني على القيم”.

قانون المحبة: السحر الذي لا يبني دولة.

“قانون المحبة”، بمفهومه الفلسفي والأخلاقي، هو دعوة للتعاطف والتسامح والتفاهم المتبادل. هو القانون الذي يجعلنا نغفر، نتجاوز عن الأخطاء، ونقدم المصلحة الشخصية قرباناً للوئام الجماعي الفوري. هذا النهج يرضي القلوب ويهدئ النفوس على المدى القصير؛ فمن منا لا يفضل العفو على العقاب، والصلح على التقاضي؟

في مجتمع يحكمه قانون المحبة المطلق، قد تسود روح الجماعة الطيبة، لكن سرعان ما تظهر الثغرات المؤسسية. غياب الردع الصارم يؤدي إلى الفوضى، وتصبح الحقوق مرهونة بمدى محبة الآخرين واستعدادهم للتنازل. لا يمكن لدولة حديثة أن تُدار بالعواطف وحدها؛ فالمؤسسات تحتاج إلى قواعد ثابتة لا تتغير بتغير المزاج العام أو طبيعة العلاقة بين الأفراد. قانون المحبة، وإن كان مثالياً في العلاقات الشخصية والعلاقات بين رفاق دروب الثورة؛ فإنه لا يوفر البنية التحتية الصلبة اللازمة لاستمرارية الدولة واستقرارها.

القانون المبني على القيم: الضرورة القاسية

في المقابل، يمثل “القانون المبني على القيم” العمود الفقري لدولة المؤسسات. هذه القيم ليست مجرد عواطف، بل هي مبادئ راسخة كالعدل والمساواة والشفافية والمساءلة. القوانين المشتقة من هذه القيم هي قوانين صارمة بطبعها، تطبق على الجميع دون محاباة، حتى لو أدى تطبيقها إلى نتائج غير شعبية أو أغضبت فئة معينة من الناس.

إنفاذ القانون لا يرضي الجميع بطبيعته. عندما يواجه مواطن مخالف عقوبة رادعة، أو عندما تضطر الحكومة لفرض ضرائب جديدة لتمويل الخدمات العامة، فإن رد الفعل الفوري قد يكون الاستياء أو الغضب. لكن هذه القرارات، رغم مرارتها الظاهرة، هي التي تبني دولة المؤسسات الحقيقية. هي التي تضمن أن النظام يسري على الجميع، وأن هناك سقفاً يحمي الحقوق ويحدد الواجبات.

الصرامة هنا ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لضمان العدالة طويلة المدى والاستقرار العام.

التوازن: حيث تلتقي الصرامة والإنسانية

المفارقة تكمن في أن القانون المبني على القيم يحتوي في جوهره على قيمة المحبة العليا، ولكن بمفهوم جماعي ومجرد. فغاية القانون هي حماية المجتمع ككل وضمان العيش الكريم لأفراده، وهذه هي المحبة الحقيقية على المستوى المؤسسي: محبة تتجاوز الفرد لتعم الجميع.

لا يمكن لدولة المؤسسات أن تتنكر للإنسانية. القوانين الأكثر نجاحاً هي التي تحقق التوازن الدقيق بين الصرامة في التطبيق والمرونة في مراعاة الظروف الإنسانية (مثل وجود درجات للتقاضي، حق الدفاع، وتطبيق مبدأ الرأفة في بعض الحالات). إن الجمع بين القطبين لا يعني التنازل عن سيادة القانون، بل تليينه بمسحة إنسانية لا تخل بجوهره.

في الختام، يظل القانون المبني على القيم هو الركيزة الأساسية لبناء دولة المؤسسات القادرة على الصمود والاستمرار. قانون المحبة يضيء لنا الطريق كأفراد وجماعات وثورة، لكن القانون الصارم والعادل هو القاطرة التي تسير بالمجتمع بأسره نحو المستقبل، ضامناً العدل للجميع، حتى لو لم يرضَ الجميع عن كل إجراءاته.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى