أقلام وأراء

محمد صلاح – ربيع أوروبا الدموي ..!

محمد صلاح ٥-٣-٢٠٢٢م

إنها الحرب، يدفع فيها البسطاء والعامة ثمن طموحات السياسيين وأخطائهم وحساباتهم، تتبدل حياة الناس ليفقدوا رفاهية العيش الطبيعي وتربية الأبناء وأمنيات النجاح في العمل والسهر مع الأصدقاء، ويربح فيها تجار الأسلحة وأغنياء الحرب ومافيا السوق السوداء للسلع الاستهلاكية الأساسية وقطّاع الطرق وتجار المقابر وحانوتية الموتى!

صحيح أن مشاهد الدمار والقتل والدماء على الطرقات والجثث في الشوارع والحارات لم تغب عن العالم منذ ضرب الربيع العربي منطقتنا حيث انتشرت رائحة البارود وصور دخان القذائف والصواريخ لتغطي الشاشات، لكن ليس سراً أن الغرب يعتقد أن الدم العربي أرخص من الدم الغربي، وظلت الآمال تراود الناس في أن توازن القوى العسكرية يحفظ الأمن في العالم، وترسخ الاعتقاد في أن سباق التسلح كفيل بجعل نشوب حرب نووية تفني العالم أمر غير وارد، لكن يبدو أن أباطرة الحرب دائماً لديهم ما يجعل الأجواء ساخنة كما يملكون القدرة على حصر الحروب في مناطق بعينها.

يمكنك أن ترسم سيناريو يتضمن مشاهد الصورة التي سيكون عليها العالم بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا سواء بالنسبة الى أوروبا خصوصاً أو الغرب عموماً، وأن تعتمد على التجارب السابقة أو المشاهد الحالية: نقلٌ حيّ للمنطقة أو المناطق التي تقع فيها العملية، تحركات لرجال الجيش وعتاد عسكري ضخم يدك إسفلت الشوارع ويسحق تحت دواليب آلياته كل ما يعترض طريقه، أصوات سيارات الإسعاف تتعالى وأناس يفرون من المكان وبكاء وصراخ… ثم مؤتمر صحافي لمسؤول سياسي أو عسكري، وربما قبلها بيان سريع وقصير للرئيس الأميركي أو أي رئيس غربي آخر يعبّر فيه عن تضامنه مع الشعب الأوكراني وتعاطفه مع الكارثة التي تعيشها تلك الدولة، وتأكيد دعم الأوكرانيين وإدانة الروس، مع بعض العبارات التي تشير الى قناعات بأن فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف وأمثالهما لديهم أطماع ويحقدون على طريقة عيش المواطن الغربي والحرية التي يتمتع بها.

وبطبيعة الحال وبين كل تلك المشاهد سينفجر في وجهك أنبوب ضخم يخرج منه عدد غير قليل من الخبراء والمحللين والاستراتيجيين، ليتوقعوا نتائج الحرب او ليبرروا الجموح الروسي أو سذاجة الأوكرانيين، وتجلجل حناجرهم بانتقادات للأسلوب الذي يتعامل به العالم مع الاجتياح الروسي ويقدمون اقتراحات لعلاج الأزمة رغم أن غالبيتهم اصلاً كانوا مسؤولين عسكريين في بلدانهم ولم يفعلوا شيئاً قبل أن يتقاعدوا ويصبحوا نجوماً يطلون على الناس مع كل كارثة.

عموماً، يبدو أن لكل أمة ربيعها، هذا ما كشفته الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وإذا كان نصيبنا من الربيع العربي حل علينا بتظاهرات وعنف ودماء وفوضى وأفرز حروباً أهلية، فانقسمت مجتمعات وانشطرت دول وسادت الفوضى في أخرى وبدت خريطة العالم العربي تتغير بعدما قفز الإسلاميون الراديكاليون إلى السلطة في بلدان عربية وطمحوا في أخرى إلى إسقاط أنظمتها والجلوس فوق قمة الحكم فيها، فإن الربيع الأوروبي جاء بصورة مغايرة وارتدى ثوب الحرب، وعبر اجتياح عسكري، فصار المستحيل واقعاً وتحولت أحلام العيش الهادئ في أوروبا الى كوابيس.

بدلاً من عدن وصنعاء ودمشق وطرطوس والقاهرة ورفح وبنغازي وطرابلس وبغداد، صار هناك كييف ولفيف ولوتسك وفينيتسا وأوديسا وخاركيف وكارمتورسك وماريوبول، وكما تابع العالم قبل سنوات على الهواء مباشرة تداعي أنظمة عربية وسقوط حكامها وتفكك جيوشها واقتتال أهلها، شاهد أوروبا وهي تغيّر جلدها، ورأى دموع مؤيدي الكلاسيكية السياسية وأحزانهم وحسرتهم وردود فعل صاخبة وتظاهرات عارمة وحرقاً للعلم الروسي وغضباً لا يبدو أنه سيزول.

للحرب دائماً مبررات لدى الطرف المهاجم أو البادئ بها. ولم ينسَ الناس بعد، أن الهدف المعلن للحرب على الإرهاب، والتي شنتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج بوش الابن، عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 هو القضاء على منابع التنظيمات الإرهابية ووقف كل سبل دعمها مادياً ومعنوياً، ومنعها من ضم عناصر أخرى أو اكتساب أرض جديدة غير أفغانستان التي كانت حاضنة للجماعات الأصولية الراديكالية في ذلك الوقت، وبعض المناطق المتناثرة الأخرى في جيوب صغيرة في أنحاء متفرقة من العالم.

وفي سبيله لتحقيق الانتصار في الحرب أطلق بوش العبارة الشهيرة “من ليس معنا فهو ضدنا” فكان معه العالم كله تقريباً إلا بعض الدول التي كانت تتبنى سياسات علنية مخالفة للأميركيين كإيران وكوريا وكوبا! ورغم أن معلومات موثقة وشهادات حية أثبتت أن إيران مثلاً تحولت مأوى لعدد من أعوان أسامة بن لادن وقادة في “القاعدة”، ذلك التنظيم السنّي، إلا أن الحرب الأميركية المزعومة على الإرهاب لم تطاول إيران التي كانت تتبنى مواقف سياسية ولا يخرج من قادتها أو سياسييها أو إعلامها إلا خطاب معادٍ للأميركيين! تماماً كتعامل الأميركيين دائماً مع “الإخوان” أصحاب الحناجر الفولاذية والعبارات النارية ضد الأميركيين والمواقف الناعمة والسياسات الموائمة المحافظة على مصالح دولة البيت الأبيض.

ليس مستبعداً في غضون سنوات، أو ربما شهور، أن نجلس جميعاً لنتابع ونشاهد ونسمع على الهواء تداعي الأنظمة التقليدية في القارة العجوز وسيطرة الأحزاب والأشخاص الأكثر تطرفاً والأغرب تصرفاً على مقاليد الأمور، لكن عبر سيناريو أوروبي مختلف لا يحاكي مأساة الربيع العربي ولا يشبه التحوّل الدرامي الدموي في أوكرانيا… وقعت الواقعة وحدثت الصدمة ولا بد على الأطراف الفاعلة والمتأثرة بالسياسات الدولية أن تهيّئ نفسها للتعاطي مع عالم جديد يحكمه صناع الأسلحة.

 

مركز الناطور للدراسات والأبحاث  Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى