أقلام وأراء

محمد خروب: مُهندسو العوّلمة يتنازَعون: هل ضاقوا باقتصاد السوق؟

محمد خروب ٢٧-١١-٢٠٢٢م: مُهندسو العوّلمة يتنازَعون: هل ضاقوا باقتصاد السوق؟

في خضم الاشتباك المُتدحرِج بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي/فرنسا وألمانيا خصوصا, حول خطة الرئيس بايدن لـِ«خفض التضخّم”, وما تتركه هذه الخطة من أضرار على الشركات والاقتصادات الأوروبية, خاصة ان مشروع بايدن يتضمن «تخفيضات ضريبية وحوافز للطاقة”, للشركات التي تستثمِر في الولايات المتحدة بشكلها الحالي. ما دفع معظم دول الاتحاد الى تشكيل جبهة مُوحدة ضد بايدن.

نقول: في خضم ذلك كله, يبرز في الأثناء الفشل الأوروبي في الاتفاق على المشروع الأميركي الأوروبي «الرامي» تحديد سقف سعري للنفط والغاز الروسيّيْن, على نحو ظهر فيه معسكران (داخل الاتحاد) الأول: يُنادي بأن ينحصر سعر البرميل الواحد بين 60-70 دولاراً, فيما اربع دول مُتطرفة في عِدائها لروسيا وكل ما هو روسي وعلى نحو انتقامي واضح, تدعو الى ان يكون سعر البرميل «30» دولاراً أو أقل. وهي بالإضافة الى بولندا دول البلطيق الثلاث ليتوانيا، استونيا ولاتفيا، ما تركَ الباب مفتوحاً إما لمزيد من المشاورات أو خصوصاً لمزيد من الخلا?ات, التي قد تحول دون توافق على تحديد سعر يحظى بقبول جميع, على ما ينص ميثاق الاتحاد. خاصّة بعد تحذير الرئيس الروسي/ بوتين من التداعيات الخطيرة لقرار كهذا حال اتخاذه، ناهيك عن اعلان الناطق باسم الكرملين بيسكوف ان بلاده لن تبيع النفط لأي دولة توافق على تحديد سقف للنفط أو الغاز الروسيين (موسكو بصدد التحضير لقانون رسمي في هذا الشأن).

وفي انتظار ما ستسفر عنه المشاورات والاجتماعات الأوروبية تحديداً، خاصّة ان التاريخ المحدّد للبدء في «تسقيف» سعر للنفط والغاز الروسيين سيبدأ الأوربيون والأميركيون تطبيقه الأسبوع المقبل «5/12». فإن مُجرد التدقيق في هذه الهستيريا الغربية الرامية الى منع «بوتين من تمويل حربه على أوكرانيا» كما يقول ناطقو البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي والناتو، يدفع للاعتقاد حدود الجزّم, ان مُهندسي العولمة قد ضاقوا ذرعاً بـ اقتصاد السوق, وان الصراع الجاري الآن بينهم وخاصّة في ما تبديه واشنطن من جشع وأنانية, واستغلال للحرب الأوكرا?ية وتهويل بالخطرين الروسي والصيني. يُذكّرنا بالحروب التي دارت بين القوى الاستعمارية القديمة بل والحديثة الى ما قبل انتهاء الحرب الباردة, انما ضاقوا جميعاً بـ «اقتصاد السوق» وما وُصف بالقواعد التي تنظم التجارة الدولية بعد مباشرة «منظمة التجارة العالمية» عملها في 1/1/ 1995. إثر حلولها محل اتفاقية «جات» التي أُبرمت عام 1948. خصوصاً إذا ما عدنا الى المدّة الزمنية الطويلة والمُرهقة, التي احتاجتها الصين لنيل عضوية هذه المنظمة. التي كان يهيمن عليها في ذلك الحين(ونِسبيا هذه الايام) اكبر اقتصاديْن في العالم.. هما: ?لاقتصاد الأميركي والآخر الأوروبي.

إذ استغرق نيل الصين بطاقة العضوية في المنظمة «15» عاماً من المفاوضات المضنية بدخولها رسمياً في العام 2001، فيما زادت المدّة التي احتاجتها روسيا لتصل الى «18» عاماً من المفاوضات, ظنّت الأخيرة/ روسيا ان عضويتها في الـ«WTO» سـ«تُعزز تكاملها في الاقتصاد العالمي، وسيحقق لها قدراً أكبر من اليقين للقائمين على قطاع الأعمال والشركات التجارِيّين, بعد أن نات رسمياً عضوية المنظمة في نهاية العام 2011 (اي ان مفاوضاتها مع المنظمة كانت مع بداية عهد يلشين وانهيار الاقتصاد الروسي وبيع بل نهب القطاع العام السوفياتي). في حين ?صفَ رئيس الوفد الصيني المُفاوض بأن «الإنضمام» هو عملية تكون فيها «كل الأطراف رابحة».

فهل ثمّة قناعة الآن لدى موسكو وخصوصا بيجين, بأن ما يحصل الآن داخل المعسكر الغربي وبين الأخير وعلاقاته التجارية على الاقل مع كل من البلدين, هو دليل نجاح والتزام غربي وبخاصّة اميركي بقواعد اللعبة وما قررته وتقرره المنظمة التجارية العالمية من ضوابط وما تقِرّه من قوانين وأنظمة؟

(٢)

عطفاً واستكمالا لما وردَ في الجزء الأول من هذه العُجالة أمس الاثنين.. دعونا نعود الى ما أعلنه الرئيس الأميركي السابق/ ترمب في آب عام 2018 عندما «هدّد بانسحاب بلاده من منظمة التجارة العالمية», زاعماً انها تُعامل بلاده بطريقة «غير» عادلة, ثم انخراطه في حروب «تجارية» مع دول عديدة على رأسها الصين, وقام برفع التعرفة الجمركية على وارداتها فضلاً عن حظر التعامل مع شركات صينية أخرى مثل هواوي و«زد. تي. أي».

بل ثمّة ما يثير الانتباه والفضول أكثر. إذ في الوقت الذي كان فيه ترمب يُهدد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية, كان الرئيس الصيني شي جين بينغ «يُدافع» عنها وعن قواعد العولمة واقتصاد السوق والتعدّدية. إن في كلمته امام منتدى دافوس عام 2017 أم خصوصاً في خطابه عام 2021 أمام المنتدى ذاته, ولكن عبر تقنية الفيديو إثر انتشار جائحة كوفيد/19، داعياً ليس فقط لـ«التمسّك بالتعددية الحقيقية وإزالة الحواجز وعدم بناء الأسوار»، بل أيضاً لـِ«التخلّي عن ونبذ عقلية الحرب الباردة, والسعي الى التعايش السلمي وتحقيق نتائج مُربحة»? والمقصود واشنطن بالطبع.

من هنا يمكن القول ان واشنطن بإداراتها المُتعاقبة حِزبياً.. جمهورية كانت أم ديمقراطية, لم تُغيّر نظرتها او استراتيجيتها «ببعدها الإيديولوجي» الى كل من روسيا والصين, «لا» قبل انضمامهما الى منظمة التجارة العالمية وانتهاجهما سياسة اقتصاد السوق, و«لا بعدها». خاصّة ان السعي الأميركي والأوروبي المحموم لضمهما.. لم يكن يُراد به أصلاً تكريس التعددية وتحقيق معادلة رابح – رابح، بقدر ما أراد المعسكر الغربي/الرأسمالي في نُسختِه النيوليبرالية, فتح المزيد من الأسواق لبضائعه وتسريع عملية الهيمنة على «الاقتصاديْن».. اولاً ا?روسي الذي كان يعاني اختلالات بنيوية عميقة, بعد عملية نهب القطاع العام والتسلل الغربي السريع للسوق الروسية, على شكل استثمارات استهلاكية لا قيمة مضافة لها في الاقتصاد الروسي المُنهك. ثانيهما خصوصا الاقتصاد الصيني عبر العمل بدأب ومثابرة محمولا على «الخبث» الرأسمالي المعروف, لـ«سحب» هذا الاقتصاد اي الصيني الى مربع الإقتصاد الرأسمالي/الإستهلاكي, والتخلي عن الاقتصاد الموجّه/ الاشتراكي, الذي لم يتنازل «خلفاء» دينغ هيساو بينغ, عن اعتماده ركيزة اساس في الصعود الصيني المثير للانطباع/والإعجاب, في الوقت ذاته الذين قام?ا فيه بفتح الأبواب أمام اقتصاد السوق الرأسمالي, أطلقوا عليه لاحقاً مصطلح: «اقتصاد السوق الاشتراكي».

جملة القول: ان فشل المعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة في استتباع وكبح الاقتصاديْن الصيني والروسي (رغم ان الأخير ما يزال يُوصف باقتصاد السوق بلا اي خطط او توجّهات ذات طابع اشتراكي. اللهم بعض القرارات التي اتُخِذتْ خلال الحرب الاوكرانية المتمادية فصولا, حيث دفعت العقوبات الغربية, الأميركية والأوروبية الكرملين للاعتماد على مصادر البلاد الداخلية), أسهم «الفشل الغربي» من بين أمور أخرى, في حدوث إشكالات وخلافات عميقة وجوهرية في صفوفه, فضلاً عن بروز مؤشرات على أن الصين مُوشكة وقبل نهاية العقد الحالي على إزا?ة الولايات المتحدة – أو مُشاركتها – قيادة الاقتصاد العالمي. ما قد يدفع واشنطن الى «تهميش» منظمة التجارة العالمية أو تغيير قواعد اللعبة فيها, وهو أمر نحسب انها ستواجه صعوبة بالغة في مسعاها. ليس فقط مع احتدام «معركة» إطاحة الدولار الأميركي عن كونه «عملة العالم» في التبادلات التجارية, عبر اعتماد العملات المحلية/الوطنية في تلك التبادلات كما بدأت تفعل روسيا والصين, وروسيا والهند ودول اخرى عديدة في الطريق للتخلص من هيمنة الدولار الاميركي, بل ايضاً وخصوصا في عدم البقاء تحت هيمنة «نظام سويفت”, الذي هو وفق تعريف «و?كيبيديا”: (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، وهي اي «سويفت» اختصار لـ‏”منظمة تعاونية لا تهدف للربح, مملوكة للأعضاء, وتقوم بتقديم خدمة على مستوى عال من الكفاءة وبتكلفة مناسبة. وقد نشأت فكرة السويفت في نهاية الستينيات مع تطور التجارة العالمية, عندما تكوّنت منظمة السويفت عام 1973 ومقرها الرئيسي بلجيكا وبدء نشاطها عام 1977).

هذا هو التعريف «الناعم/والخبيث» الذي يتم تسويقه منذ نصف قرن من إشهار هذا النظام, لكنه في واقع الحال آداة وعصا غليظة في يد الولايات المتحدة الأميركية, تضرِب بها من تشاء وقت تريد, حال خرجت دولة عن إرادتها او تحدّتها. أما حكاية أنه نظام مملوك لـ”كل» أعضائه فهي دعاية مُفلِسة وغير مقنعة, تماما كما هي الحال في البنك والصندوق الدوليّيْن.

دون ان ننسى او نهمل عواقب وخطورة «العولَمة الثقافية» التي لم تتوقف موجاتها العاتية عن استهداف الخصوصيات الثقافية والحضارية والإجتماعية للمجتمعات غير الغربية, عبر رفع شعارات حقوق الإنسان ونشر «القِيم الغربية/ إقرأ الأميركية, وفي مقدمتها «قِيم وحقوق المِثليّين”, تحت طائلة العقوبات والنبذ وتشويه السُمعة/والتاريخ.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى