أقلام وأراء

محمد حسين أبو الحسن: أميركا توزع أوراق اللعب وأوروبا تبحث عن “الاستقلال”

محمد حسين أبو الحسن 13-10-2022 

البنية الأمنية الأوروبية في مهب الرياح. التدخل الروسي في أوكرانيا استثمار جريء في ضعف الاتحاد الأوروبي، بعدما نجحت الولايات المتحدة في إشعال الصدام بين الروس والأوروبيين وقطع شرايين الغاز بينهما. صناعة الفتن ليست عود ثقاب يلقى على حطب، مصادفة أو عمداً، إنما هندسة بمعنى الكلمة؛ الخط الافتراضي مثل خطوط الطول والعرض يمكن هندسته ليتحول إلى شرخ أو أخدود عميق. القارة العجوز مذعورة، تضرب العواصف بنيتها الأمنية، تتكسر كالزجاج، على وقع مخططات الأميركيين والروس والصينيين والبريطانيين والأتراك. وبينما يتواصل إشعال الحرائق في قلب أوروبا، يبحث بعض أهلها عن بوابة الخروج، عن الاستقلال الاستراتيجي، لعل وعسى!

شبكة معقدة

تتمتع أوروبا بإطار أمني متميز؛ شبكة معقدة من المعاهدات والقواعد والمؤسسات، وبرغم ذلك يعاد النظر باستمرار في نظام الأمن الأوروبي. بدأت الترتيبات الأمنية؛ منذ “مؤتمر يالطا” عام 1945، حيث أعاد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، الهيكلة الأمنية لأوروبا، بتقسيمها إلى مناطق نفوذ، تجعلها أكثر استقراراً. وشكّل حلف شمال الأطلسي “الناتو” منذ وضع لبنته الأولى عام 1949، العمود الفقري لمنظومة الأمن الأوروبي، ولا يزال، بالذات عقب تبخّر غريمه “حلف وارسو” من الوجود. ثم جرى إضفاء الطابع المؤسسي على منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في تسعينات القرن الماضي. إلا أن حدثين زلزلا هذه المنظومة الأمنية، الأول فترة رئاسة دونالد ترامب لأميركا، ومطالبته شركاءه الأوروبيين بزيادة مساهماتهم المالية في “الناتو”، والثاني هو التدخل العسكري الروسي في جورجيا ثم أوكرانيا، أخيراً.

وإذا وضعت الحدثين بجوار “البريكست” والانسحاب الأميركي المباغت من أفغانستان، والتحرش التركي باليونان وقبرص… فسيتضح مدى الانقسامات الراهنة في صفوف دول حلف الأطلسي، وعدم قدرتها على الاتفاق على ردّ مشترك على التحدي الروسي أو الصيني. يدور جدال بين مؤيِّدي الحوار والاحتواء الغربيين، ومن يرون ضرورة ردع النفوذ الروسي أو الصيني، ليس في أوكرانيا فقط، بل في كل “أوراسيا” والشرق الأوسط وجنوب آسيا والمحيط الهادئ. والنتيجة حالة “عجز جماعي”، بين دول “الناتو”، في مواجهة الأزمات العالمية؛ برغم امتلاكها الاستراتيجيات والقدرات؛ إذ تعكس اجتماعات وقمم زعماء الحلف ومجموعة السبع ومناقشات مؤتمر ميونيخ إشارات متزايدة على استفحال العجز في الجسد الأطلسي؛ حتى قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذات يوم: “إن الناتو مات سريرياً”.

ثم جاءت “الحرب الأوكرانية” لتمنح الحلف “قبلة الحياة”. لا يخفي أعضاء “الناتو” تمسكهم بترميم “تحالفهم العسكري”؛ يلتقون على قيم الديموقراطية واقتصاد السوق، ومن مصلحتهم استمرار الحلف مؤسسة رادعة، و”الجيش العالمي” الأقوى. في قمة “الناتو” في حزيران (يونيو) 2021 في بروكسيل، قرَّر 30 من رؤساء الدول الأعضاء تعزيزَ شراكتهم الأمنية، وفتح فصل جديد في تاريخ الحلف، وأعادوا تأكيد أهدافه الثلاثة الأساسية: الدفاع الجماعي، إدارة الأزمات، الأمن التعاوني، مشيرين إلى أن أعمال روسيا العدوانية أخطر تهديد لبلدانهم.

ألقت الحرب الروسية – الأوكرانية بظلالها على العلاقات عبر الأطلسي، وتسعى الولايات المتحدة للاستفادة من زخم الحرب في إحياء فاعلية “الناتو” ودوره ووظيفته؛ وقد جرى تفعيل قوة “الرد السريع” للمرة الأولى تاريخياً.

هندسة الفتن!

لم تتخلَ أوروبا عن “الحلف”، لكنها تبحث عن “الاستقلالية الاستراتيجية”، وعن بدائل للتعاون الدفاعي بين دولها، من دون الاعتماد على طرف خارجي. تدفع فرنسا وألمانيا بقوة لزيادة الإنفاق العسكري؛ ويخشى الاتحاد الأوروبي تقلبات حليفه الأقوى (أميركا) حيث تقدم واشنطن دوماً مصالحها الجيوسياسية على مصالح حلفائها الأوروبيين، ما يجعل التزامها تجاه أوروبا موضع شك. الانفصال بين الطرفين ربما يكون آتياً على المدى البعيد.

كان زمن الحرب الباردة، جامعة مترامية، تعلمت فيها القوى الكبرى هندسة الفتن ببراعة، إلى حد إعادة تفكيك الماضي وتركيب تاريخ المجتمعات بما يوافق مقاصد الأقوياء. اليوم تمثل حسابات المنافسة الاستراتيجية مع الصين، الهاجس الأول لدى أميركا، ما يعني تركيز جهودها السياسية والعسكرية والاقتصادية على منطقة “الإندو-باسيفيك”، على حساب الأمن الأوروبي. كان انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان صدمة مزدوجة لأوروبا؛ لأنه قرار أحادي، وتم من دون تشاور مع شركائها الأوروبيين. ثم أتى الإعلان الأميركي عن تحالف “أكوس” مع بريطانيا وأستراليا ليعمّق فجوة الثقة الأوروبية – الأميركية، ما دفع الرئيس الفرنسي للدعوة إلى “التضامن من أجل صيانة أمن أوروبا”، ووجوب إنشاء “جيش أوروبي”.

لا تعتبر الولايات المتحدة “الاتحاد الأوروبي” لاعباً رئيسياً على رقعة الشطرنج الجيوستراتيجية الكبرى، وفي ظل تداعيات كورونا وأوكرانيا وأزمات الطاقة والغذاء والتضخم وموجات الهجرة غير الشرعية وعودة اليمين المتطرف لا سيما الأحزاب الفاشية والنازية والأطماع الروسية والصينية والمخاوف من العرب والأفارقة، يحاول الاتحاد الأوروبي أن “يعيد هندسة” قدراته ودوره في العالم لتجاوز حالة “انعدام الوزن”، حتى يصبح الشريك المفضل لكل دولة وقوة عالمية أخرى، ومن الواضح أن مفهوم الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية يشكل ضرورة لتحقيق هذا الطموح، بحسب تعبير جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية.

أكبر عقبة

لا يحظى مشروع “الاستقلال الاستراتيجي”، الذي طرحته فرنسا، بإجماع الدول الأوروبية، إذ تأمل باريس في أن يتحول الاتحاد الأوروبي من قوة اقتصادية إلى لاعب جيوسياسي عالمي مستقِلّ عن واشنطن. أكبر عقبة أمام إنجاز هذا “الاستقلال” هو تضارب المصالح بين الدول الأوروبية نفسها، بخاصة تجاه واشنطن، ناهيك بأن الاتحاد الأوروبي لم يحدد إلى أي مدى يريد أن يكون تكتُّلاً لاستعراض القوة بجوار طابعه الاقتصادي.

لا يعني ذلك أن أوروبا في حالة قعود، بل تتلمس طريقها، وتواصل تطوير إطار لرصد التهديدات والتعامل معها، أي أنها تطور “بوصلة استراتيجية”، من طريق مسارات عدة متوازية: تعزيز الشراكة عبر الأطلسي، والوفاء بإنفاق 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2024. وفي الوقت نفسه إنشاء صندوق دفاعي أوروبي، بوصفه خطوة مهمة لتحسين قدرات الصناعة العسكرية في أوروبا. تعهدت ألمانيا وحدها بإنفاق 100 مليار يورو إضافية لتحديث جيشها، في ثلاث سنوات، فالمارد الألماني يستيقظ من بياته الشتوي، خطوة تُخلف ارتدادات على المستويات كافة.

قد تبدو الخيارات الأوروبية حالياً محدودة وقاسية، لكنها ليست مستحيلة، لو توافرت الإرادة السياسية، التي تعد أبرز نقاط ضعف القارة العجوز، فهل تحتمل العودة إلى الحضانة الأميركية والانسياق وراءها، بعد مرارة الانسحاب الأميركي من أفغانستان ومن النووي الإيراني من دون تنسيق مع الحلفاء، و”عدم اليقين” إزاء العلاقات مع روسيا والصين وبريطانيا وتركيا وغيرها، أم تسير أوروبا في درب الاستقلال عن التبعية لأميركا التي تجد اللحظة الحالية مناسبة لتأكيد قيادتها الأطلسية؟

الواقع يقول إن أوروبا بقدراتها التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية يمكنها الكثير، بدءاً من بناء قدرات دفاعية قادرة، إلى “تبريد الجبهات” مع الدب الروسي والتنين الصيني والالتفات الإيجابي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا؛ ما يكبح رعونة الاندفاعة الأميركية نحو الهيمنة الأحادية. صحيح أن الطريق طويل والثمن ليس قليلاً، لكن لا نصر يتحقق من دون تضحية.

يقول تي. إتش. هوكسلي: “اجلس أمام الحقيقة كطفل صغير، وكن مستعداً للتخلي عما يجول برأسك من أفكار مسبقة؛ تابع باهتمام أي شيء مهما يكن ومهما تكن طبيعته، وإلا فلن تتعلم أي شيء”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى