أقلام وأراء

محمد ابو الفضل يكتب اختفاء السخونة المصرية مع سد النهضة ..!

محمد ابو الفضل 5-10-2021م

يكاد يكون التطرق إلى أزمة سد النهضة في وسائل الإعلام المصرية مختفيا حاليا إلا ما ندر. ولا أحد يعلم هل هذا التجاهل يتم بتعليمات رسمية حفاظا على مصالح وطنية ومنعا للعودة إلى الشوفينية، أم أن الأمر يتعلق بالإرهاق العام الذي يسيطر على القوى الفاعلة في أزمة ممتدة معالمها الرئيسية لم تتغيّر في الحسابات الفنية والسياسية.

جاء وفد من الكونغو الديمقراطية رفيع المستوى إلى القاهرة أخيرا وهو يحمل رسائل سياسية بهدف العودة إلى طاولة المفاوضات مع كل من إثيوبيا والسودان، والتقى الوفد مسؤولين كبارا في مصر ولم تتردد معلومات دقيقة حول تفاصيل الزيارة وأهدافها وما تمخض عنها في أي وسيلة من وسائل الإعلام المحلية.

طغت حالة من الهدوء على غالبية الأطراف وفرت قدرا من الراحة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق والبحث عن حلول خلاّقة بعد أن دخل على الخط مجلس الأمن وقوى دولية عدة، ربما لأن ثمة طبخة سياسية يتم تجهيزها تقود إلى الحل، وربما استعدادا للدخول في مرحلة دقيقة من التصعيد، وقد يؤثر الحشد المستمر على أداء الأجهزة المصرية المنوط بها التعامل مع الأزمة وفقا لدواعيها الاستراتيجية.

تسببت السخونة التي طغت على أداء عدد من وسائل الإعلام في رفع مستوى الأحلام، خاصة بشأن عدم استبعاد التعامل بخشونة مع إثيوبيا، والتي قابلت ذلك بتصعيد لفظي واضح أدى إلى اتساع نطاق الحديث عن سيناريوهات عسكرية متباينة.

وجد الإثيوبيون في تكهنات وتخمينات المصريين فرصة لتضخيم الخطر القادم منهم، وزادوا من الحشد الداخلي والتأييد لمشروع سد النهضة كهدف قومي يرمي إلى توسيع رقعة التنمية، ويمكن أن يجلب دعما للحكومة المركزية في وقت تعاني فيه من مشكلات مع عدد كبير من الأقاليم الإثيوبية خاصة تلك التي تزخر بخلافات عرقية حادة.

الإثيوبيون وجدوا في تكهنات وتخمينات المصريين فرصة لتضخيم الخطر القادم منهم، وزادوا من الحشد الداخلي والتأييد لمشروع سد النهضة كهدف قومي يرمي إلى توسيع رقعة التنمية

يستطيع المراقب للحالة المصرية والموقف من أزمة سد النهضة أن يعثر على الكثير من اللغط الذي صاحب التعامل معها، حيث بدا الموقف الرسمي متزنا ومنضبطا ولم يخرج عن ذلك سوى في حالات نادرة هدفت إلى توصيل رسائل من قبيل: المياه خط أحمر والمساس بحصة مصر تهديد للأمن القومي، ولن يتم التنازل عن قطرة ماء واحدة. ولم تستخدم كلمة واحدة توحي بالتدخل عسكريا، وتُرك الموضوع للتوقعات.

لم تظهر معالم في الخطاب الرسمي حيال نية القيام بعمل خشن ما، لأن هذا العمل لا يجب ترديده على الملأ، بينما جاءت جملة كبيرة من التصرفات غير الرسمية تحريضية وتصب في خانة تعبئةٍ دغدغتْ مشاعر الناس، واعتقد أصحابها أنها توفر لصانع القرار غطاء شعبويا في هذا التوقيت.

اتخذت الحكومة مجموعة من الإجراءات الداخلية لترشيد استهلاك المياه وتنظيف الترع والمصارف حفاظا على المياه، وخطت نحو توثيق العلاقات مع السودان وبعض دول حوض النيل، وهي مساع ذات مضامين متفرقة، بعضها له شق أمني وغالبيتها لها شق اقتصادي.

أضرت الاجتهادات التي صبت في خانة الشعبوية بالموقف الرسمي من زاويتين، الأولى أن قوى كثيرة في العالم شعرت بالخطر من القوة العسكرية التي تملكها مصر، وجاءت مواقفها رافضة تماما لهذا الطريق خلال جلستين عقدهما مجلس الأمن بشأن أزمة سد النهضة، وهو ما جعل التهديد باستخدام الخشونة أو التلويح بها لاحقا محل شك لدى الجهات المستهدفة.

أزمة مصيرية تناقشها العامة وتغيب عن الإعلام الرسمي
والزاوية الثانية أن التعبئة الشعبية المفرطة خلقت انطباعا في دوائر أفريقية، وداخل إثيوبيا تحديدا، بأن مصر يمكن أن تصبح مصدر تهديد حقيقي لها، وزيادة قوتها المسلحة أمر مزعج لبعض القوى الإقليمية، ما يؤثر على قدرتها في تطوير علاقاتها مع الكثير من الدول الأفريقية كاتجاه تعمل القاهرة من أجل تعزيزه في الفترة المقبلة.

التقطت الحكومة هذا الخيط وبدأت تفرض منظومة عالية من التعاون والتنسيق في الأزمة بين الجهات المعنية، لأن التصعيد غير الرسمي يشي بتناقضات في أداء المؤسسات المعنية بها، وبتضارب في التقديرات إذا حاول البعض مسايرة المشاعر الجياشة التي ضختها بعض وسائل الإعلام دون دراية بكافة تفاصيل الأزمة.

في مصر مؤسسات تعمل في هذا النوع من الأزمات، فهناك وزارة الخارجية التي تقوم بالدور الدبلوماسي وتشارك في المفاوضات عن كثب، ووزارة الري والموارد المائية المسؤولة عن الشق الفني، فضلا عن الأجهزة الاستخباراتية والمعلوماتية التي تقع على عاتقها عملية تحديد الخيارات المناسبة وأماكنها وتوقيتاتها.

جاء مصدر القلق من تعامل الكثير من الدوائر السياسية الخارجية مع ما يبثه الإعلام في مصر على أنه معلومات وموقف رسمي للدولة، لأن الفكرة السائدة عنه أنه يتلقى تعليماته من أجهزة رسمية، ولا أحد يظن أن ما يتم تناوله وتداوله يدخل في باب الاجتهادات الشخصية التي تخطئ أو تصيب.

التعبئة الشعبية المفرطة خلقت انطباعا في دوائر أفريقية، وداخل إثيوبيا تحديدا، بأن مصر يمكن أن تصبح مصدر تهديد حقيقي لها، وزيادة قوتها المسلحة أمر مزعج لبعض القوى الإقليمية

مثل هذا الانطباع واحدة من المغالطات الرئيسية التي أضرت بالموقف المصري الرسمي لأن الكثير من الإعلاميين، خاصة هؤلاء الذين بالغوا في الحشد نحو التصعيد وأطلّوا على الناس كأنهم يحتكرون المعلومات، كانت حصيلة ما يقدمونه لا تخرج عن المزايدات والشعبوية الجافة والاعتقاد بأن هذا الطريق يستهوي الحكومة المصرية.

تتحمل الحكومة جانبا من الخطأ والمصير الذي قادته التخمينات لأنها صمتت عنها طويلا ولم تلجأ إلى تكذيبها، ولم تقدم المعلومات الحقيقية البديلة، ومجرد ترك الكثير من الإعلاميين يتحدثون في الأزمة بحرية ودون علم يحمّلها مسؤولية كبيرة، فقد كان من الواجب أن تصوب هذه الأخطاء مبكرا ولا تسمح بالتمادي فيها.

عمل الحكومة على فرملة هؤلاء جاء متأخرا، بعد أن خلقوا انطباعات سلبية عن الأداء العام في التعامل مع أزمة سد النهضة، وبالقطع هناك الكثير من النقاط المشرفة سياسيا وفنيا، غير أن شريحة كبيرة من المواطنين لا تعرف عنها شيئا، فما يحدث الآن هو الوجه المقابل للفوضى الإعلامية السابقة.

إذا كان التكتم والصمت والسرية محددات مطلوبة في هذه الأزمات، فإن خرس الإعلام تماما قد يؤدي إلى منح فرصة للخصوم لترويج الشائعات، وتشويه الدور الذي تقوم به الأجهزة المعنية، لذلك يعد التفريط في التصعيد خطأ وتغييب المعلومات خطأ أكبر ويوحي بعدم وجود تحركات لتسوية أزمة مستعصية أو اعتمادها على طرق مشبوهة.

بالتالي فاختفاء السخونة وخفض التبريد إلى أدنى مستوى في مصر لن يكونا حلا بديلا، لأنهما سوف يفضيان إلى انطباعات سلبية حول الآلية التي تتبعها الأجهزة الرسمية.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى