أقلام وأراء

محمد ابو  الفضل بكتب – تحطيم الصورة المثالية للفلسطيني القديم

بقلم محمد ابو  الفضل – 2022/01/16

تسببت مجموعة من التطورات السياسية في تكسير جانب كبير من الصورة الإعلامية الناصعة التي جرى رسمها للفلسطيني، والتي تربى عليها جيلنا وآمنت بها قطاعات عريضة كان يحدوها الأمل في دعم الشعب والقيادة في مواجهة إسرائيل.

من يراقب الخلافات التي تنخر في جسد غالبية الفصائل والنزاعات البينية يعلم لماذا بدأت تتآكل الصورة المثالية التي حفرها ساسة ومفكرون ومثقفون وأدباء وفنانون عرب، ويتأكد أن المصالح الحركية تتغلب على الوطنية، ويتيقن أن ما فعله الفلسطينيون بأياديهم يفوق في تأثيراته ما قام به الاحتلال على مدار عقود.

بلغ الصراع بين حركتي فتح وحماس حدا مؤسفا ضاعت معه محاولات المصالحة التي يمثل فقدانها وجها من أوجه انعدام الثقة وغياب الأمل، وبدأت العلاقات مع الدول العربية تغلب عليها مصالح مادية لم نر مثلها.

أخذ جبروت وطغيان حماس في قطاع غزة يثير الاشمئزاز، وتوحي سخافات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بأنها تملك مفاتيح الجنة والنار مع أن التردي الذي وصلت إليه قادها إلى التعاون والتنسي الأمني مع إسرائيل بشكل كبير.

الأخطر أن هناك عصابات إجرامية نشأت بين عرب 48 أو فلسطينيي إسرائيل لم تكن موجودة من قبل، يسهمون بدور فعال في هدم الكثير من الملامح التي تشكلت في الوجدان العام تجاه هؤلاء بعد أن تجاوزوا خلال سنوات ماضية محنة الطابور الخامس والتواطؤ والتآمر مع الاحتلال وتفتحت أمامهم أبواب بعض الدول العربية.

تحتاج استعادة الفلسطيني إلى وعي ومعجزة، فالجدران التي تهدمت تصعب إعادة بنائها بأشخاص تسببوا في ترديها، وقيادات مهمتها وضع اللوم على عاتق آخرين لإبعاد التهمة عنها

لا أحد ينكر مسؤولية إسرائيل ومن يخدمون مصالحها عن الهزة التي يتعرض لها الفلسطيني في الداخل والشتات، في الأراضي المحتلة وخارجها، فقد جرى خلق انطباعات سلبية عنه وتم حشره في خندق “القاتل”، ولم تفلح هذه الرؤية النمطية في تغيير التعاطف العربي رسميا وشعبيا معه وظل يحتل مكانة شبه مقدسة إلى أن حدثت مجموعة من التحولات أرخت بظلال سلبية على هذه المكانة.

لم تأت الضربة القوية من ألاعيب الأعداء أو بسبب توقيع اتفاقيات سلام والقفز خلف التطبيع، بل جاءت من الداخل عندما بدأ يرى الخلافات بين الحركات تصل إلى حد الاقتتال، ويشاهد فصولا مخيفة من عدم الاستعداد للحوار، ويرى حرص البعض على مكاسبهم المادية يفوق البحث عن حلول لاسترداد الحيوية للقضية الفلسطينية.

خسرت القضية ولم يخسر من يزعمون الدفاع عنها شيئا، ربما ربح بعضهم من المتاجرة بها، فحماس ترفع شعار المقاومة كسلاح تحافظ به على دورها وتنحني له إذا وجدت أنه يجلب لها أزمات أو يدخلها في متاهات لا تستطيع الخروج منها.

خسرت القضية عندما آثر الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) التشبث بالسلطة وضرب عرض الحائط بالوعود التي قطعها على نفسه لإجراء الانتخابات، ورفض ترتيب البيت الفتحاوي بما يمهد الطريق لانتقال ناعم في القيادة من بعده، وترك الباب مفتوحا لصراعات كي يتمكن من البقاء أطول فترة في الحكم، ولم يدرك أن تصوراته وتصرفاته وإجراءاته التعسفية تخصم من رصيد الفلسطيني.

يمتد جسر الحكايات حول من تسببوا في هدم الصورة ولا يقف عند احتلال أو سلطة أو حركة فقد لعبت التناقضات العربية دورا في الفتنة عندما كانت بعض الفصائل تتقلب على جمر المحاور، هذا معتدل وذاك مقاوم، هذا مع السلام وذاك ضده.

قاد انسياق شريحة من التنظيمات الفلسطينية وراء المعادلات التي ابتدعها البعض لتحقيق مصالحهم على حساب القضية ورموزها إلى حالة مزرية هزت الصورة التي تربت عليها أجيال عديدة وجعلت الفلسطيني أقرب إلى “انتهازي” يمكنه التضحية بثوابت أساسية طالما تحقق له مصالح شخصية وحركية.

تآكلت الأعمدة منذ أن فقدت الفصائل قدرتها على التفاهم، وابتعدت عن نسق توزيع الأدوار التي رسمها الراحل ياسر عرفات (أبوعمار)، وتآكلت أكثر مع رحيل عدد كبير من جيل المؤسسين دون أن يظهر بدلاء لهم، ومن يمكن التعويل عليهم لتعويض الفقدان والرحيل جرى رجمهم بالحجارة أو التعامل معهم باعتبارهم خونة.

أسهمت كثافة الأزمات الإقليمية في تهميش القضية الفلسطينية، لكنها لم تتسبب في طي صفحتها أو زوالها من جدول الأعمال الشعبي

ما حدث من تدهور على الساحة الفلسطينية يكفي لأي بلد في العالم أن يفيق من كبوته ويستيقظ لمناهضة الاحتلال لا أن يتفرغ لتصفية الحسابات مع منافسيه أو خصومه من الفصيلة الفلسطينية نفسها، وهو ما قدم لإسرائيل هدايا لم تكن تحلم بها، أو حلمت ولم تستطع العمل على تنفيذها مبكرا.

تحطيم الصورة التي رسمت في خيال أجيال أشد خطورة من الاحتلال، حيث عانت غالبية الشعوب العربية من مرارات الاستعمار والجميع حصلوا على استقلالهم إلا الفلسطيني لا يزال تائها، لأن عددا كبيرا من قادته تخلوا عن قضيتهم الوطنية، ففي الوقت الذي انتهت موضة الاحتلال في العالم يعاني الشعب الفلسطيني من ويلاته مرتين، مرة من المحتل الخارجي وأخرى من الداخلي، وكلما واتت الفلسطيني فرصة لضبط بوصلته انحرف عنها قادته.

أدت أحداث قاتمة متتابعة إلى تغيير في التوازنات، يتحمل الفلسطينيون جزءا كبيرا من أسبابها، فقد انقلب المشهد وأصبح القاتل الإسرائيلي كأنه يدافع عن نفسه بينما القتيل الفلسطيني يحاكم بحجة أنه يضع نفسه أمام النيران، ووصل الخلل إلى مستوى كان من الصعوبة تصديقه، وأفضت التحركات التي يقوم بها البعض نيابة عن الكل إلى تباين في معايير الحكم على القضايا والهموم الفلسطينية.

ترك العالم انتهاكات إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني وتفرغ لمناشدات تحض قادته على المصالحة، وتم تجاهل ملفات الأرض والحدود والقدس وعودة اللاجئين وتقدم الحديث عن فك الحصار عن غزة من قبل إسرائيل وعدم دفع السلطة الوطنية رواتب الموظفين، وتحولت القضية الأم من تقرير المصير لتوفير مساعدات للمشردين.

ساعدت تصرفات الفصائل على هز صورة الشعب، فالمثالية التي كانت مرتبطة بكل ما هو فلسطيني تحطمت أو غابت عن المشاهد التي يراها العالم كل يوم بعد أن كان ينام ويستيقظ تقريبا على تطور له علاقة مباشرة بالقضية العربية الأولى.

أسهمت كثافة الأزمات الإقليمية في تهميش القضية الفلسطينية، لكنها لم تتسبب في طي صفحتها أو زوالها من جدول الأعمال الشعبي، وكان يمكن أن تبقى محفورة في العقل العربي لو أن من أوكلت لهم مهمة تمثيلها على مستوى المسؤولية الوطنية والأخلاقية ومنحوا وقتهم وجهدهم لبلدهم بدلا من البحث عن مكاسب لحظية.

تحتاج استعادة الفلسطيني إلى وعي ومعجزة، فالجدران التي تهدمت تصعب إعادة بنائها بأشخاص تسببوا في ترديها، وقيادات مهمتها وضع اللوم على عاتق آخرين لإبعاد التهمة عنها. تحتاج العودة إلى رجال يؤمنون أن بلدهم أبقى من حركاتهم وأيديولوجياتهم، وقتها يمكن استرداد الصورة المثالية للفلسطيني القديم.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى