أقلام وأراء

محمد أبو رمان  يكتب – إعادة قراءة الربيع العربي

محمد أبو رمان  2/12/2019

ما تزال نخبة واسعة من المثقفين والسياسيين العرب، وعلى الرغم من مرور قرابة تسعة أعوام على إرهاصات الاحتجاجات العربية، أسيرة الأحكام المعلّبة والمسبقة وعملية التعميم تجاه الربيع العربي، من دون الولوج إلى التحليل العميق للتحولات والتطورات والأحداث التي أدت إليه وتخلّلته، والديناميكيات التي تولّدت عن تلك اللحظة التاريخية، وهي ما تزال فاعلة وقائمة.

يمكن بسهولة ملاحظة ذلك من خلال النقاشات الرئيسة في مؤتمر “الربيع العربي: الفرص، المخاطر والتحديات” (عقده مركز العالم العربي للتنمية الديمقراطية في عمّان، بالتعاون مع مؤسسة هانز زايدل الألمانية، 28- 29 نوفمبر/ تشرين الثاني)، فالنخبة السياسية والمثقفة لم تتجاوز بعد المربّع الأول، في الانقسام حول ما يحدث، وكأنّ تسعة أعوام قلبت المعادلات الدولية والإقليمية والمحلية غير كافية للدراسة والتحليل والتمعّن.

ربما من أكبر الآفات التي أحاطت في تعاملنا، عربياً، مع لحظة الربيع العربي وما تلاها، أنّنا تجاوزنا الفهم والإدراك والتفسير. وبدلاً من أن نطرح تساؤلات مهمة: لماذا حدثت الاحتجاجات؟ وكيف يمكن التعامل مع التحوّلات العميقة التي تحدث؟ كيف يمكن الانتقال إلى مرحلةٍ أفضل ونلحق بالركب الديمقراطي العالمي، بدلاً من أن نظل وحيدين في نفق الاستبداد، بدلاً من ذلك كلّه استسلمنا إلى الحلول السهلة، إمّا شيطنة الربيع العربي والحركات الشعبية، ومحاربة هذه المرحلة التاريخية المهمة بالكامل، أو على النقيض من ذلك، اعتبار أنّ الديمقراطية أصبحت في متناول اليد، وقدراً محتوماً للأنظمة والمجتمعات العربية لا محال آتٍ.

وفي الحالتين، لا يخدم التبسيط والاختزال والتعميم المهمة المطلوبة من النخب المثقفة والسياسية، وهي دراسة الأوضاع القائمة في كل دولة ومجتمع وتحليلها، وتقديم خريطة طريقٍ  للعبور من المرحلة الدكتاتورية أو الحروب الداخلية إلى مرحلة التأسيس لمسار ديمقراطي، وترسيخ الحالة الديمقراطية في كل مجتمع، بدلاً من الاكتفاء بإطلاق الأحكام والتخوين والاتهام المتبادل. هنا، وبالنظر إلى ما وقع في أغلب الدول العربية، فإنّ ما نحتاجه بصورة دقيقة بناء قواعد إرشادية للتعامل مع أدقّ مرحلة وأخطرها يمكن أن تمرّ بها المجتمعات على الإطلاق، وهي المسافة الانتقالية من الأنظمة القديمة (الاستبدادية والأتوقراطية) إلى استقرار النظام الديمقراطي.

ثمّة ضرورة حقيقية اليوم في العالم العربي للتركيز على هذه المسافة، وأن تدرسها، بصورة دقيقة، النخب المثقفة والباحثون والسياسيون الإصلاحيون. وفي ضوء التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية الحالية، لأنّ إسقاط النظام القديم أو رموزه شيء وتطوير النظام السياسي أو إعادة إنتاجه بصورة جديدة شيء آخر مختلف تماماً، يحتاج إلى توافق وتواطؤ بين القوى السياسية والمجتمعية على بناء قواعد جديدة للعملية السياسية، وتصوّر لكيفية التعامل مع المؤسسات الأمنية والعسكرية وإرث النظام السابق الذي بالتأكيد لم يكن مجرّد قائد أو زعيم أو مؤسسات خاوية، أو حتى أنظمة وقوانين، بل كان شبكة كبيرة عميقة ممتدة من العلاقات والمصالح والأشخاص والقوى والقوانين المكتوبة والقواعد غير المكتوبة، تشكّل مجتمعةً جبل الجليد الذي يغطس تحت الماء، ولا تراه العين في البداية.

لن نبدأ من الصفر، فهنالك أدبيات متراكمة وهائلة كتبت عن عملية التحوّل الديمقراطي، منذ خمسينيات القرن الماضي، واستمرت. وهنالك مقارنات مع دول أخرى شهدت هذا التحول، في أوروبا الشرقية، وقبلها أوروبا الجنوبية، وكذلك الحال في أميركا الجنوبية وأفريقيا، ولدينا مخزون كبير من النظريات والدراسات والتحليلات التي تساعد على التركيز على هذه المسافة، واستنباط القواعد المطلوب التعامل معها عربياً، خصوصا ونحن نتعامل مع الموجة الثانية من الربيع العربي حالياً، في كل من السودان والجزائر، وربما العراق ولبنان.

“يضع الخبراء سبعة عوامل رئيسة تتحكّم في عملية التحول والتغيير، وتحدد المسارات التي تذهب نحوها” 

بالإضافة إلى الكتب المرجعية في التحوّل الديمقراطي، مثل كتب صموئيل هنتنغتون “الموجة  الثالثة: التحول الديمقراطي في القرن العشرين”، و”النظام السياسي في مجتمعات متغيرة”، وكتاب غراهام غيل “ديناميات السيرورة الديمقراطية”، وغيرها من كتب مهمة لعلماء وأساتذة متخصصين في هذا المجال، هنالك دراستان تستحقان الدراسة، أولاهما لعبد الفتاح ماضي، ضمن كتاب “لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر العرب؟”. يسلط فيها ماضي الضوء بصورة معمقة على تجارب التحوّل الديمقراطي عالمياً، ويتناول السيناريوهات التي يحدث فيها، ثم طبيعة المرحلة الانتقالية أو المسافة الفاصلة بين النظام القديم وتشكّل الجديد، ويقدّم ملاحظاتٍ إرشادية مهمة في الموضوع. وصدرت الدراسة الثانية عن طريق مؤسسة راند (2013) بعنوان “التحول الديمقراطي في العالم العربي: توقعات ودروس مستفادة من حول العالم”، من إعداد لوريل أي ميلر، وجيفري مارتيني. إذ يضع الخبراء سبعة عوامل رئيسة تتحكّم في عملية التحول والتغيير، وتحدد المسارات التي تذهب نحوها، وهي: طريقة تغيير النظام الحاكم، التجربة السابقة للدولة في التعدّدية السياسية، الخيارات السياسية المحورية التي طرحتها الجهات الفاعلة في عملية التحوّل، بما في ذلك القرارات المرتبطة بالقوات المسلحة والانتخابات والدستور والعدالة الانتقالية، وهنالك أيضاً عامل تماسك الدولة والمجتمع والخصائص الاقتصادية والبيئة الخارجية والخيارات السياسية الخارجية. ويستعرض الكتاب تجارب العالم في التحول الديمقراطي، ويقارنها بما يحدث في الدول العربية التي دخلت في طور التغيير والاحتجاجات السلمية والعنيفة حينها (مصر، تونس، ليبيا، اليمن وسورية).

“النظام الرسمي العربي بصيغته التقليدية – السلطوية لم يعد قادراً على الاستمرار والصمود” 

في كل الحالات، النتيجة المهمة أنّ الربيع العربي لم يكن غمامة صيفٍ عابرة، ولا لحظة  انتهت، فاليوم ونحن نوشك على أن نصل إلى عقدٍ منذ ولادة إرهاصات الاحتجاجات في الدول العربية، ونجد أنفسنا أمام موجةٍ ثانية من الحركات الشعبية، فإنّ ذلك يؤكّد على أنّ النظام الرسمي العربي بصيغته التقليدية – السلطوية (التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، وبدأت بالانهيار مع العقد الأول من القرن الحالي) لم يعد قادراً على الاستمرار والصمود، فالبيئات الدولية والإقليمية، والأهم الداخلية (سياسياً واجتماعياً وثقافياً) شهدت تحولاتٍ بنيويةً وجوهريةً تجعل من النظام القديم في طور الاحتضار، من دون أن تكون الرؤية واضحةً للنظام الجديد الذي يراوح بين تعطّش الشعوب والمجتمعات للديمقراطية والحرية من جهة والطريق المعقّدة والملتوية والمراحل الشاقّة المطلوبة للوصول إلى ترسيخ هذا الحلم أو السير في خارطة طريق واضحة تجاهه.

وهنا، مرّة أخرى، تقع المسؤولية الحقيقية على عاتق المثقفين والسياسيين والقوى المختلفة في تقديم وصفات فكرية – سياسية، تجنب المجتمعات الانزلاق في مسارات خطيرة.

 *وزير أردني سابق، باحث وكاتب في الفكر الإسلامي والإصلاح السياسي. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى