أقلام وأراء

محمد أبو رمان: رسائل بن غفير من الزنزانة إلى الإقليم

محمد أبو رمان 18-8-2025: رسائل بن غفير من الزنزانة إلى الإقليم

لم يكن اقتحام إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو، سجن مروان البرغوثي وتهديده وجهاً لوجه، مجرّد استعراض إعلامي أو نزوة سياسية عابرة، فالمشهد الذي جرى تسريبه بعناية من مكتبه إلى الإعلام يحمل، في طياته، دلالات مركّبة ورسائل متعددة المستويات. السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا البرغوثي تحديداً؟ ولماذا لم يذهب بن غفير إلى قيادات حركة حماس أو الجهاد الإسلامي ليوجّه إليهم تهديداته؟.

الجواب، بالنسبة للمنظور الإسرائيلي، بسيط لكنه عميق في دلالاته: بالنسبة لليمين الإسرائيلي، كما لشرائح واسعة من المؤسسة السياسية والأمنية، لا فرق جوهرياً بين حركتي فتح و”حماس أو بين مروان البرغوثي ومحمد الضيف ويحيى السنوار. في العقيدة الإسرائيلية القديمة– الجديدة، كل الفلسطينيين، بمختلف ألوان طيفهم السياسي، مشكلة وجودية، لا أيديولوجية فحسب. الخلاف مع الفلسطينيين ليس حول طبيعة المشروع السياسي أو البرنامج المرحلي، بل حول أصل القضية: الأرض والسيادة والهوية. الهدف النهائي، كما كان منذ بدايات الحركة الصهيونية، السيطرة على كامل فلسطين التاريخية وتفريغها من أصحابها، تحت الشعار القديم “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، والنسخة الحديثة التي صاغها نتنياهو: “لا نريد فتحستان ولا حماستان”.

يكشف اختيار البرغوثي بالذات أمرين: الأول، أن إسرائيل تريد قطع الطريق على أي سيناريو مستقبلي لقيادة فلسطينية موحدة أو توافقية قد تجمع بين الشرعية النضالية والقبول الشعبي، وهو ما يمثله البرغوثي داخل “فتح” وحتى خارجها. والثاني، أن الرسالة المسربة لا تستهدف البرغوثي شخصيّاً فقط، بل جمهوراً فلسطينيّاً وعربيّاً ودوليّاً، مفادها بأن لا حصانة لأحد، وأن اليد الإسرائيلية يمكن أن تصل إلى أي قيادي، حتى وإن كان في قلب السجون.

بالنظر الأوسع، ترى إسرائيل أن حرب غزّة، وما تلاها من مواجهات مع حزب الله وإيران، تشكل نقطة انعطاف تاريخية شبيهة بما كانت عليه حرب 1967 بالنسبة للمشروع القومي العربي. حينها، مثّلت الهزيمة ضربة قاصمة لتيار جمال عبد الناصر، وجاءت اتفاقية كامب ديفيد (1978) لترسّخ تحييد مصر من معادلة الصراع، وهو ما اعتبره كيسنجر تأسيساً لنظام إقليمي جديد: “لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سورية”. اليوم، تريد إسرائيل أن تحصد من هذه الحرب نهاية مشروع الإسلام السياسي المقاوم، كما حصدت في 1967 نهاية المشروع القومي، وأن تمهّد لنظام إقليمي بزعامة إسرائيلية.

لم تغب هذه العقيدة الوقائية عن الذهنية الإسرائيلية: من قصف المفاعل النووي العراقي في بداية الثمانينيات، إلى تشجيع غزو العراق عام 2003، وصولاً إلى استهداف أي قوة صاعدة في المنطقة قبل أن تصبح تهديداً. ومع انهيار الدول العربية الكبرى، رأت إسرائيل في الحركات الإسلامية، السنّية والشيعية، التهديد الأخطر، فجاء “طوفان الأقصى” ليدفعها نحو محاولة القضاء عليها عسكريّاً وسياسيّاً، وإعادة تشكيل موازين القوى بما يضمن تفوقاً طويل المدى.

لكن إسرائيل تدرك أن التفوق العسكري وحده لا يكفي لفرض هيمنة إقليمية في بيئة جغرافية وديمغرافية ودينية معقدة، فتلجأ إلى استراتيجيات موازية: اللعب على ورقة الأقليات، واستقطاب حلفاء من داخل النسيج العربي، واستغلال إخفاقات الأنظمة العربية في إدارة تنوعها. كما تعمل على تفكيك المحيط العربي سياسياً وثقافيّاً، وفتح المجال أمام “مشروع التغيير الثقافي” الذي يروّجه نتنياهو، لتطبيع فكرة إسرائيل المهيمنة في الوعي العربي.

هل يمكن لإسرائيل أن تحقق هذا الهدف؟ من الناحية النظرية، نعم. فالمنطقة العربية، خاصة المشرق (الأردن، سورية، فلسطين، لبنان، العراق)، كانت دائماً مسرحاً لصراعات قوى خارجية. وإذا تجاوزنا البعد الديني، نجد أن العرب، منذ أواخر العصر العباسي، نادراً ما كانوا القوة العسكرية المهيمنة في هذه الرقعة، بل كانت السيطرة غالباً لغير العرب: البويهيون، السلاجقة، المماليك، العثمانيون… ولكن هذا لا يعني أن الهيمنة الإسرائيلية ستكون مطلقة أو أبدية. تقول التجربة التاريخية إن هذه المنطقة، رغم ضعفها المزمن، لا تعرف الاستسلام النهائي، وإن قوى ودولاً وحركات جديدة ستنهض، عاجلاً أو آجلاً، لتعيد طرح مشروع المقاومة والتحرّر. وفي مفارقة لافتة، أعادت غطرسة نتنياهو السعودية، التي كانت على وشك توقيع اتفاق تطبيع، إلى موقع أكثر تصلّباً في مواجهة المشروع الإسرائيلي بعد “7 أكتوبر”.

يبقى الفارق الجوهري المؤلم بين إسرائيل ومعظم الحكومات العربية وجود رؤية استراتيجية بعيدة المدى لدى الأولى، حتى مع الأخطاء والفشل، مقابل حالة ارتجال وتخبّط وغياب للمراجعة والنقد الذاتي لدى الثانية. تخطئ إسرائيل، لكنها تتعلم وتعيد التموضع. أما نحن، فما زلنا في غيبوبة حضارية واستراتيجية، ندور خارج سياق التاريخ، ونعيش على هامشه.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى